ستيورات كيللس: عاشق مولع بالمكتبات

كتب بواسطة أحمد الزناتي

في أغسطس من سنة 2017 صدر كتاب جديد للصحافي ومؤرّخ المكتبات الأسترالي ستوارت كيللس تحت عنوان “المكتبة: سجّـل العجائب”. الكتاب صادرٌ عن دار Text Publishing (ميلبورن-أستراليا) في 288 صفحة من القطع المتوسّط. اشتُهرَ ستورات كيللس في السنوات الأخيرة بالكتابة عن المكتبات، وبتأريخ آثارها وحكاياتها. وقد ألّف عددًا من كتب عن تاريخ المكتبات، من أشهرها كتاب “مكتبة شكسبير”، وكتاب “بنجوين والأخوان لين: المسكوت عنه في ثورة الطباعة”، والذي نال عنه جائزة The Ashurst Business Literature Prize الإسترالية الشهيرة في سنة 2015.
في هذا الكتاب، يصطحب كيللس القارئ في رحلة يتقصّى فيها تاريخ المكتبات، ما بين مكتبات أثرية قديمة، ومكتبات علمية، ومكتبات شخصية لأدباء ومفكّرين، ومكتبات سرّية مُتخيّلة. يتألف الكتاب من خمسة عشر فصلًا قصيرًا، يبدأ بفصل بعنوان: “مكتبة بلا كتب”، وينتهي بفصل عنوانه “رسالة حب”، يتخلّلها فصولٌ عن مكتبة الإسكندرية، وعن الكتب في الفراش، وعن بلوغ الكمال، وهو فصلٌ مخصّص لتأريخ نشأة التدوين والفهارس، وعن تاريخ مكتبة الفاتيكان، وعن التواريخ السرّية للمكتبات والتصميمات العجيبة لبعض مكتبات القرون الوسطى، وفصل عن أمناء المكتبات، ساردًا سيرة أفضل أُمناء المكتبات على مدار التاريخ، وفصل عن قصص احتراق المكتبات في التاريخيْن القديم والمعاصر، وفصل بعنوان تسميم راهب: عن المكتبات المُتخيّلة (مثل مكتبة بورخيس اللانهائية، ومكتبة تولكين مؤلّف رواية سيد الخواتم، ومكتبة الدير البينيدكتي التي رسمها أومبرتو إيكو في روايته اسم الوردة). نناقش في السطور القادمة موجزًا لأهم الأفكار الواردة في فصول الكتاب.

في مقدّمة الكتاب يروي كيللس واقعةً شخصية جرَتْ قبل عشرين سنة حينما كان طالبًا يدرس في معهد البحوث الاجتماعية، حيث قاده شغفه بمعارض بيع الكتب القديمة إلى العثور على كتابٍ نادرٍ يعود لسنة 1814 بعنوان شائق: “شذرات شعر قديم من مخطوطات غير منشورة”، كان العنوان جذّابًا ومثيرًا للاهتمام. بعد تصفّح الكتاب وقع الطالب الشاب في غرام الكتب النادرة، لتبدأ بعدها رحلة عشق تواصلتْ على مدار عشرين سنة، طاف خلالها، بمفرده أو بصحبة أسرته الصغير، بلدانَ العالم، مُتقصيًا غرائب المكتبات وأسرارها، ومزادات الكتب النادرة، وعلاقة البشر بالمعرفة.
يستهلّ كيللس حكاياته عن الكتب بحادثة وقعت للكاتب الأرجنيتيني الكبير خورخي لويس بورخيس سنة 1938. فبعد شهورٍ من عيد ميلاده الثامن والثلاثين، وتحديدًا في ليلة عيد الميلاد، كان بورخيس يركض صاعدًا درجات سُـلّم منزله، فارتطم رأسه بدرابزين السلّم. رقدَ بورخيس بعدها في غيبوبة بين الحياة والموت، وأُصيبَ بخرسٍ موقّت، لم يزل عنه إلا بعدما جائته والدته، بكتاب قصص خرافية للأديب الإيرلندي س. إس. لويس، مؤلف كتاب “سجلات نارنيا”.
بعد تعافيه، كتب بورخيس قِـصّته الأشهر “مكتبة بابل”، التي تخيّل فيها العالم على هيئة مكتبة لا نهائية. يذهب كيللس إلى أنّ الشكل الذي تخيّله بورخيس بوصف العالمِ مكتبةً، أو نصًا كونيًا ينفتح على عدد لا نهائي من التأويلات، ينطبق على النصوص السردية العظيمة في التاريخ، دينية كانت أم أدبية؛ ضاربًا المثل بالكتاب المقدّس، وبالقرآن، وبرواية يقظة فينيجين لجيمس جويس. فهذه النصوص– على حدّ تعبير كيللس- كونية، ولا نهائية. يرى كيللس أن فكرة لا نهائية المكتبة بحسب بورخيس فكرةٌ واعية قاصدة، تكرّس لمبدأ “لا نهائية المعاني” رغم محدودية حروف الهجاء. ومن هنا، فتجربة تقصّي تواريخ المكتبات هي فكرة لا يحدّها شيء؛ طالما أنّ المكتبة كون يحدّه شيء.

في فصل بعنوان أيام الأخيرة لمكتبة الإسكندرية، يتناول كيللس الجذور اللغوية لمنشأ كلمتيّ مكتبة library و كتاب book، فيقول أنّ جذور الكلمتيْن (liber من اللاتينية وتعني لُحاء الشجر، ومفردة bece/beech تعني الخشب، وكلاهما يعودُ إلى الأشجار/الطبيعة بوصفهما المصدر الماديّ لصناعة الكتاب، منوّهًا بمكتبة الملك رمسيس الثاني (سنة 1200 قبل الميلاد تقريبًا) الذي أسّس مكتبة عظيمة حَوَتْ جميع مصادر صناعة الكتاب وقتها (لفائف البردي، الألواح الطينية، رقوق جلود الماشية، إلخ). ينتقل كيللس إلى حوادث حرق المكتبات في الأدب وفي التاريخ، ضاربًا المثل برواية الكاتب الكبير إلياس كانيتي “الإعدام حرقًا (بحسب الترجمة الإنجليزية للرواية)، مشيرًا إلى حرق بطل الرواية عاشق الكتب المجنون البروفيسور بيتر كِين لمكتبته، ثمّ وفاته داخلها محترقًا بالكتب ومعها. يربط كيللس بين حريق مكتبة رواية كانيتي وبين حريق مكتبة الإسكندرية، فكلاهما نتج عن عمى البصيرة. يطرح كيللس الفرضيات التاريخية المُحتملة لحريق مكتبة الإسكندرية، ما بين قضاء وقدر، وبين تدمير متعمّد على يد جنود الإمبراطور الروماني أورليان سنة 237 قبل الميلاد. لكن النتيجة واحدة، فقدان ثروة نادرة من المخطوطات عن العالم القديم وفلسفته وآدابه.
في فصلٍ بعنوان “كتبٌ في الفراش”، يقول كيللس أنّ الكتب تنام هي الأخرى بمجرد نوم قارئها. فيورد أمثلةً طريفة حول علاقة القُرّاء بالكتب في غرفة النوم، من بينها حكاية السياسي وعاشق الكُتب البلجيكي الشهير تشارلز فان هالثيم، الذي امتلك مكتبةً تضمّ ما يزيد على 32,000 مجلد، وكان يخاف على مكتبته خوفًا مَرَضيًا، فحظرَ على الخدم حظرًا مطلقًا إشعال النار في أي غرفةٍ بغرض التدفئة، مهما انخفضتْ درجة الحرارة، خشية نشوب حريق يلتهم مكتبته الضخمة. وكان حين يتشدّ عليه البرد، يحيط قدميْه بكتب وراويات “الغرام المشتعلة”، إيمانًا منه بقدرة الكلمات على تدفئة جسده.
وفي فصلٍ آخر بعنوان “في بلوغ الكمال” ينوّه كيللس بالفترة الذهبية للمكتبات، وهي فترة القرون الوسطى. ففي القرون الوسطى كانت أغلب مكتبات أوروبا مُلحقةً بالكاتدرائيات الكُبرى، حيث بدأ عصر الفهرسة العلمية الدقيقة في عصر القديس بنيدكتوس، مشيرًا إلى ازدهار المكتبات في العالم العربي وفي الشرق الأقصى، ومنوِّهًا إلى إنشاء مجموعة من الرهبان الكوريين مكتبة Tripitaka Korena التي ضمّت زهاء 80.000 مخطوط من تفاسير وشروح البوذية.
كذلك شهد العالم العربي اهتمامًا خاصًا بالمكتبات، مثل مكتبات قرطبة ومكتبة بغداد ومكتبة القاهرة في عهد الفاطميين. واستمرّ ازدهار المكتبات العامّة حتى عصر الرينيساس (النهضة)، الذي شهد تعاظم الاهتمام بالمكتبات الشخصية، حيث شرع الإيطاليون بدايةً من منتصف القرن الخامس عشر الميلادي في اقتناء الكتب، وفي تكوين خزانة كتب شخصية في أروقة منازلهم. في ختام الفصل يشير كيللس إلى واقعة لافتة عن النبيل الإنجليزي إيرل هنري برسي (القرن السادس عشر)، الذي وصف حجرة كتبه الصغيرة “بالجنة”، وهو الوصف ذاته الذي استخدمه بورخيس لوصف المكتبة.
في فصل آخر بعنوان “مكتبة الفاتيكان”، يتناول كيللس واحدة من أهمّ وأكبر مكتبات العالم: مكتبة الفاتيكان. تاريخيًا، يُعتقد أن مكتبة الفاتيكان أسَّستْ سنة 385 ميلادية، وكانت في الأصل مكتبة شخصية للبابا داماسوس الأول، حيث قام بجمع لفائف ومخطوطات تعود لعصور المسيحية الأولى، ثم تطوّر الأمر لاقتناء الأعمال الأدبية والفكرية الكلاسيكية النادرة. يعود الفضل لتأسيس مكتبة الفاتيكان بشكلها الحالي إلى البابا نيكولاس الخامس، الذي وظّفَ خطّاطين مَهرة من بولونيا وفلورنسا، واستجلبَ موظّفين أكفّاء لتأسيس نظام فهرسة منضبط، كما بعث بممثّلين شخصيين إلى أنحاء العالم لاقتناء نوادر الكتب والمخطوطات، وبعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، أسرع بإيفاد بعثات لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه من تراث الإمبراطورية البيزنطية. في ختام الفصل يشير كيللس إلى كذب الصورة الشائعة عن مكتبة الفاتيكان، والتي تروّج لفكرة أنّها مكتبة سرّية ومحظورة، حيث يشير أنه اعتبارًا من مطلع القرن الماضي حرص مُدراء المكتبة (مثل الأب فرانتس إيرلِه المتوفي سنة 1913، والأب أرشيللي راتي المتوفي سنة 1936) على تحويل المكتبة إلى واحدة من أكثر المكتبات عونًا للباحثين، ودعمًا للدارسين الجاديين من كل أرجاء العالم.
في واحدٍ من أشدّ فصول الكتاب إمتاعًا، وهو فصل بعنوان “تسميم راهب: المكتبات المُتخيّلة”، يتناول كيللس موضوع المكتبات المُتخيّلة روائيًا، فيضرب المثل بالروائي الإيطالي أومبرتو إيكو وروايته الشهيرة اسم الوردة، حيث رسم إيكو في ذهنه عشرات النماذج لتصميم مكتبة الدير الذي تُرتكب داخله جرائم القتل، واصفًا مكتبة الدير بأنها نموذج لمكتبة بابل، في إشارةٍ إلى قصّة بورخيس، بل وجعـل أمين مكتبة الدير راهبًا أعمى اسمه “يورج”. ينتقل كيللس بعدها إلى الروائي البريطاني رونالد رويل تولكين، مؤلّف سلسلة سيد الخواتم والهوبيتس، ففي حكاياته الخرافية ابتكر تولكين مَردةً، ووحوشًا، ومكتبات مُتخيّلة كذلك.
يحمل الفصل الأخير من الكتاب عنوان “رسالة حبّ: مكتبات المستقبل”. في هذا الفصل يشير المؤلّف إلى تطوّر فكرة المكتبات العامة، بدايةً من روما القديمة التي حفلت بمكتبات عامة، اتسمتْ بثراء محتوياتها التي كانت تُجـلَب من أرجاء الإمبراطورية الرومانية كافة، واستمرّت هذه التقاليد حتى عصر النهضة الأوروبي، فيعطي مثلًا بمكتبة مدينة نورينبرج الألمانية التي ضمّت نحو أربعة آلاف عنوان ومخطوط نادر في سنة 1500 ميلادية، مُنوهًا بأهمية الدور المتزايد للمكتبات العامّة في الوقت الحاضر، وتحوّلها إلى مأوى، يلجأ إليه لا الباحثون فحسب، بل والعُشّاق أيضًا. يُنهي كيللس الفصل باقتباسٍ طريف لأومبرتو إيكو يقول فيه:
“ينبغي للمكتبة المثالية أن تكون مفعمةً بروحٍ شاعرية صافية، كأن تصير ركنًا هادئًا يجتمع فيه طالب وطالبة، يجلسان فوق أريكة مُريحة، يتبادلان غزلًا عفيفًا وهما يسحبان كتابًا من فوق الرفوف، أو يتفحصّان كتابًا ذا اهتمام متشرك، ليقرّبَ بينهما أكثر وأكثر”.

أدب العدد الأخير العدد السادس والعشرين بعد المائة

عن الكاتب

أحمد الزناتي