بعد صراع مع المرض، توفي الروائي اللبناني، جبور الشيخا الدويهي (1949م- 2021م)، عن عمر ناهز 72 عاما، وهو ابن زغرتا الواقعة شمال لبنان. ويعمل أستاذ الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية بطرابلس. أعماله الروائية كما لا يخفى، تركت أثرا بالغا في الأدب، الاجتماع، والفكر، فهو من أبرز المثقفين، والروائيين في التاريخ المعاصر، والمهمومين بأوطانهم، من خلال تتبعه لكافة تحولات الحياة اللبنانية “اللبْنَنَة”.
عايش الدويهي الحرب الأهلية اللبنانية المندلعة عام 1975م، وفي ذاكرته ظلت مصدر الألم، مؤثرة في أدبه، القائم بالذات على الكتابة السردية العربية، فهو لا يؤمن إلا بعالم الرواية الذي صنعه بمعية جيل الرواية اللبنانية الجديدة، والذي تعود جذور نشأته إلى أواخر ستينات القرن الماضي، فتلك الفترة معروفة بالصراع الفكري والأيديولوجي، والسياسي، فعكست كتاباته (الجيل) بما لا يدع مجالا للشك الاجتماع اللبناني في تناقضاته.
كتب الدويهي إنجازاته العلمية (مقالات، بحوث…) بالعربية والفرنسية، فهو كاتب مزدوج اللغة. وقد كان جوابه عندما سئل عن سبب اختياره اللغة العربية في الكتابة الروائية، – رغم حيازته كل مقومات الكتابة بالفرنسية- “أنا مزدوج اللغة. أكتب باللغتين، لكن مع الوقت تبيَن لي أنني لا أستطيع التعبير بما يكفي بالفرنسية. فكيف لي أن أجد كلمات بالفرنسية تروي ذكرياتي بالاستحمام صغيراً حين كانت تضعني أمي في “اللكن” وتسكب على رأسي الماء “بالكاسة”. قد أقول إني أكتب باللغة العربية، لكن بنكهة فرنسية”، والحال أن الدويهي حاول كتابة قصص بالفرنسية، لكنه أدرك أن روحها لا يمكن أن تتحقق إلا في اللغة العربية غير المنفصلة عن الحياة العربية واللبنانية. ويحسن بنا التنبيه هنا إلى أن الكتابة السردية عند الدويهي جاءت متأخرة.
فأثناء كتابة روايته الأولى بلغ سنه خمسة وأربعين سنة. وقد بدأ الدويهي مساره الروائي قاصاً، فقد أصدر مجموعته القصصية الأولى “الموت بين الأهل نعاس” عام 1990م، ولا تبتعد قضاياها عن الريف، في حين تدور أحداثها في مجتمع مسيحي بشمال لبنان. ومن خلالها حاول رصد الواقع اللبناني، وانقساماته الاجتماعية، الثقافية والسياسية.
بحكم اشتغال الدويهي بقضايا محددة، فقد كانت هذه المجموعة القصصية مدخلا لمعرفة توجهاته في الكتابة، وكيفية التعامل مع الأحداث المتعلقة بمجتمعه، برؤية واقعية غير بعيدة عن الخيال، لذا قال “استوحيت أسلوبها السردي (الموت بين الأهل نعاس) من تراث شفهي مسموع، وشخصياتها من بيئتي الاجتماعية الغنية بما يمكن أن نعدّها نماذج “روائية”، أخبارها ومصائرها متداولة في الحيّز العام”.
“اعتدال الخريف” عنوان العمل الروائي الأول للدويهي، ومن خلال تلك الرواية تمكن من توظيف ثقافته الأدبية الواسعة دون الابتعاد عن عالمه السردي، فنهج وفق ذلك خط يوميات متقطعة لبناء محطات روايته؛ وهي -كما أكد الدويهي نفسه-تعكس هواجس شاب ليست لديه أطماع كثيرة من الحياة، لكنه “رتب” صورته عن نفسه. رسمت في تلك الرواية محاولة جيلنا الذي أوهمته الحماسة بقدرته على فعل شيء قبل الحرب اللبنانية. انتظمنا في “اليسار” وتحمسنا وسرنا في تظاهرات، وأيدنا العمل الفدائي. ثم انهار هذا الهيكل الأيديولوجي، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، انهار أمام أعيننا عندما اندلعت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، وشاهدنا أفقر الناس من المسيحيين يحاربون نظراءهم المسلمين وبالعكس”.
ما صرح به الدويهي سابقا هو محصلة تربيته الثقافية؛ القائمة على المزاوجة بين حب الأدب من جهة، ونظرة اجتماعية للعالم من جهة أخرى؛ فهو يروي ما يريد أن يراه، وليس ما يراه، وهذا الخيار هو ما يحدد حساسيته التي يطلق عليها الأسلوب، ومن ثم فعالم روايات الدويهي هو عالم رغباته وخيالاته الممزوجة بوقائع، وقد بدا ذلك بشكل ملموس في روايته “مطر حزيران”، فوقائعها شهدتها كنيسة إحدى البلدات المسيحية، بالشمال اللبناني في 16 يوليو1957م، وشارك فيها أقارب، وأهل منقسمون على بعضهم، فسقط عدد كبير من القتلى والجرحى ” أحداث دموية مؤلمة “.
إنْ كان الدويهي يتخذ من التاريخ مصدرا لإبداعاته الروائية، فإنه ليس مؤرخا بالمعنى المتعارف عليه، بل يستند عليه لانبثاق رؤاه، وتصوراته الإبداعية والخيالية معا. فهو يروم خلق شخصيات يرسمها كيف يشاء، دون فصلها عن الوقائع والأحداث بغية تفكيك أسباب، وانعكاسات تمزق المجتمع اللبناني، وموقع السياسة والدين في سياقات اجتماعية تطغى عليها في الغالب الأزمات.
نقل إلينا الدويهي أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، مرة أخرى بخياله الواسع، بعد نسجه خيوط روايته “شريد المنازل”، والتي تحكي قصة شخص حائر في تحديد هويته الممزوجة بغليان الطائفية المقيتة. فقد نشأ في بيت أسرة مسيحية نال من خلالها درجة عالية من المحبة، لكن إذا رجعنا إلى أصله، فسنجد أنه مسلم بالولادة، وبالتالي فهذه الشخصية المنقسمة بين انتماءين تمثل رمز بلد، وتاريخ وهوية، تشهد حالا من الانفصام بسبب الحرب الأهلية والطائفية.
دائما، الواقع اللبناني كان حاضرا عند الدويهي، ففي روايته ” حي الأميركان ” تناول عالمين مختلفين، – أحدهما يتمثل في “حي الأميركان” الفقير، والذي يطغى عليه الصراع الطائفي، – وثانيهما ” قصر آل العزام” الذي يتصف بالرقي والتقدم. وقد كانت ابنة العالم الفقير التي تدعى “انتصار” خادمة في القصر، لكنها أصيبت بحزن وألم عندما علمت بأن ابنها المختفي تم تجنيده، ويحسب على تنظيم القاعدة، كما كلف بتنفيذ عملية انتحارية بالعراق.
أما حضور المطبعة في رواية “طبع في بيروت” فيدل عمليا على الوجود الثقافي اللبناني. فأحداث الرواية تدور في المطبعة، حيث ينتقل فريد الشاب – في الثلاثين – مع والدته من قريته إلى بيروت؛ لطباعة مخطوطة شعرية حتى تتخذ شكل كتاب. “مطبعة آل كرم” ذات الأصل العريق هي الوحيدة التي استجابت لطلبه، وتسجل أحداث الرواية أن صاحب المطبعة اختاره للعمل في قسم التصحيح اللغوي، فوقعت زوجة صاحب المطبعة في حبه، بعد ذلك عملت هذه الأخيرة على نشر كتابه على ورق مخصص لتزوير ” اليورو” العملة الأوروبية، تلك الأحداث وغيرها رسمها الدويهي أمام القراء؛ للتعرف على عالمه السردي والخيالي.
أجل، لقد غابت فكرة الحرب اللبنانية في الروايتين “طبع في بيروت” و”ملك الهند”، لكن رجوعه إليها ربما فرضتها طبيعة آليات اشتغال الدويهي السردية، وقد اتضح ذلك من خلال روايته الأخيرة “سم في الهواء”، الصادرة قبل شهر من وفاته.
إنها رواية الشاب الذي يدعى “بطرس”، والذي تنتقل أسرته من القرية إلى بيروت، بعيدا عن أجواء الحرب الأهلية، وفي الجامعة اختار أحد الأحزاب اليسارية المشاركة في الحرب، لكنه تعرض للفشل في حياته الحزبية، وسعى إلى الارتباط بزميلة له في التعليم الثانوي، لتبرز مجدداً مسألة الهوية والطائفية.
غني عن البيان، أن الدويهي تفرد بعالمه الخاص والشاسع من حيث حكاياته وشخصياته وتقنياته وأساليبه، وفي ثنايا هذا العالم نجد المكان بتلاوينه المختلفة – حي فقير، مقهى على النهر، منزل عائلة عريقة، بلدة، مطبعة – وبه يرتبط الأشخاص، كما نجد الحكاية الحقيقية والمتخيلة. أما العلاقات فلا يمكن وضع حد لها سواء تعلقت بالصراع، أو المحبة، أو الكراهية، أو الاقتتال…، وعموما فقد نجح الدويهي في صنع عالم روائي خاص.
نال جبّور الدويهي عددا من الجوائز منها “جائزة مؤسسة حنّا واكيم” عن روايته “شريد المنازل” 2011م، و”جائزة الأدب العربي” 2013م، عن رواية “شريد المنازل”، و”جائزة سعيد عقل” 2015م، عن رواية “حي الأمريكان”. و”جائزة أفضل عمل مترجم” من جامعة أركنساس في الولايات المتحدة عن رواية “اعتدال الخريف”، وجائزة “سان إكزوبيري” الفرنسية لأدب الشباب عن رواية “روح الغابة”. وترجمت أعماله إلى اللغات الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الإسبانية، التركية، والأكرانية.
من الجائز أن نعدّ معالم الكتابة الروائية لدى الدويهي تسعى إلى تصفية حسابات مع الماضي، وهذا اختياره بلا جدال، فكأنه يرسم لنا أحداثا لا تتغير، ربما لا يريد الانتقال بنا في أعماله الروائية إلى المستقبل، وشؤونه المرهونة بالتغيير المجتمعي.
كما لا يفوتنا في نهاية هذه السطور أن نشير إلى استحالة دراسة روايات الدويهي بشكل تام، مع إغفال منزلة الأمكنة في جزئياتها وتفاصيلها، على اعتبار أنه من المولعين بالكتابة عن المكان، ومن ثم فلا يمكن تجاوز هذه الحقيقة، كما جاء على لسانه، حيث قال: “أكتب في كل حال انطلاقا من شعوري بالأمكنة، ولا أبدأ بالكتابة إن لم أحط شخصياً بميزات المكان، وإمكاناته الروائية، وأبعاده الرمزية، والثقافية، والاجتماعية. والبلدات والمدن التي تجري فيها أحداث الرواية عشت فيها، وتنقلت فيها لزمن طويل.. كتابتي مكانية في الأساس”.
والحق أن الدويهي في تقديرنا ترك أمكنته المليئة بالدلالات والعلامات في رواياته التي تصر على السفر إلى أمكنة أخرى كي تكون بين يدي قرائه بلغات متباينة، لتعلن في الأخير درجة حبه لبلده لبنان الذي كتب جزءا من وقائعه المؤلمة بدموعه-إن صح هذا التوصيف-.
فوداعًا جبور الدويهي، بعدما سجل تاريخ الرواية العربية المعاصرة جمالية سردياتك الفذة، تحت لافتة “الدويهي روائي الجرح اللبناني”.