توشك الدراجة الجاهزة للاستلام أن تقول في تلك اللحظة.. هيا بنا ننطلق.
ص٢٣
دراجة الأحلام:
إذا كان الركود الظاهري وانحسار أشكال الحياة هو الشكل الخارجي الذي طغى على العالم أثناء انتشار فيروس كورونا فالعكس هو الذي كان يحدث في الأنفس، رغبة مضطرمة في الحياة، وكأنما توازن الحياة نفسها، أو تصمد بنا في مواجهة العدم، هكذا تحقق الكثير في فترة الوباء، على الأصعدة الشخصية للأفراد، من مشاريع ومن تجديد ومن عمران ومن تحولات حاسمة، كأن الفيروس كان وسمًا في جسد الأرض لتنتعش الحياة، أو ما يسمي هذا الكتاب الحالة الفايروكونية. ص٧١
هذا العمل هو أحد نتائج تلك الحالة، مشروع جديد/قديم، مستعاد من الأحلام، أحلام يقظة الصبي القديم، الذي يتذكر الآن علاقته بدكان حميد البيماني الذي كان قريبًا من بيتهم في بسيا:
في بعض الأيام أصير جروًا صغيرًا، أخرج في الظهيرة إلى دكان الدرجات الهوائية، أقضي ساعة أشم زجاج المحل، لا أغادر المكان حتى يسيل لعابي. ص٢٢
وإذا عدنا إلى غاستون باشلار سنقرأ: التأملات الشاردة هي بذاتها راحة الكينونة، سعادة شخصية. يدخل الحالم وتأملاته الشاردة، جسدًا وروحًا، في جوهر السعادة.
ص١٥، شاعرية أحلام اليقظة، غاستون باشلار، ت. جورج سعد.
يستعيد الكاتب تلك الذكرى القديمة، شعلة نار قديمة من انطلاقته الحيوية، من صباه، ويعيد إشعالها، الحلم القديم الحار، لم يمت، انتظر طويلًا وها قد تقدم في اللحظة المناسبة، لحظة الوباء، قائلًا أريد أن أتحقق، الآن بعد كل هذه العقود، بعد أن صار الصبيّ كاتبًا وأبًا بأبنائه وبناته يستعيد صورته ويتأملها:
ظللت أنتظر دراجات صبية يمرون بها من أمامي. أعترض سيرهم، أوقفهم كما لو أني شرطي مرور يفتش ويفحص قطع الدراجة.. ص٢٣
هذا الحدث الحار، يتحول إلى دراجة هوائية، وإلى بحث واسع عن الدراجات الهوائية، ويلد كتاب عنها، في داخل القلب متوالية حركية، كما هو العنوان الفرعي للكتاب، لكن متى؟ لحظة الجمود العالمي ومنع الحركة والتجول، يا لها من مفارقة، لكن الكتاب شاهد ودليل حي على نهوض الحلم:
أتخيل الكتابة بدواستين يمنى ويسرى، يمين يسار للأمام معتدلا سرْ.
ص١٠٢
كتاب الدراجة الهوائية:
الحلم يقود الحلم، ما دام حلم الطفولة قد عاد حيًّا يرزق على إطارين، فلم لا يكمل طريقه ليندمج بالحلم والمشروع الفني الرئيسي للصبي الذي كان يلصق وجهه على دكان حميد البيماني للدراجات الهوائية، مشروع الكتابة، هكذا يقود الرجل الكبير دراجته الهوائية حتى تتحول الدراجة الهوائية إلى كتاب.
وما دامت انطلاقة حلمية فلنعد لخبير الأحلام غاستون باشلار مجددًا:
يتكلم الميتافيزيقيون عن “الانفتاح على العالم” ولكن عندما نسمعهم، يتراءى لنا أن عليهم إزالة ستار واحد حتى يجدوا أنفسهم، في استنارة واحدة، قبالة العالم.
ص١٤، المصدر السابق.
ستارة واحدة جذبتها الدراجة الهوائية، ربما انحشر طرفها بين السلسلة والمحور المسنن، كما كانت تنحشر إزرتنا ودشاديشنا في الصبا وتتمزق جراء ذلك ونتعرض لتوبيخ الأمهات.
لكن الكتاب يولد شاملًا، ليس مجرد صدى ويوميات لعودة هذا الحلم القديم، بل شبه مسرد تاريخي للدراجات الهوائية، منذ ولادتها، منذ صباها هي الأخرى، بل وتوثيقًا حتى لحاضر الدراجات الهوائية اليوم في عمان، متمثلًا في تجارب “هوائية” مختلفة يزخر بها الكتاب، ونصوص واستشهادات واقتباسات غنيّة تشهد على عمل بحثي معمّق، لكن لعل أبرز التجارب، والتي ترد حتى في غلاف الكتاب، هي تجربة محل الخليج للدراجات الهوائية، وقصة صاحبه محمد الهشّامي:
الأرزاق لا توزّع بعد الظهيرة، الفكرة ليست في الزمن حياتيًّا، إنما في العمل يوميًّا. ص٢٥ محل الخليج للدراجات الهوائية الذي تقدم قصته عبرة بالغة، خاصة لدعاة كره الأجانب والوافدين:
صار الأخوة البنجلادشيون الأرض الخصبة، ومحمد الماء العذب الصافي الذي سيمطر إزكي بالدراجات. ص٢٦
حيث يقص لنا الكتاب ما قدمه مجموعة أخوة بنغال من دعم لإنشاء المحل، في قصة مليئة بالعبرة، حين تولد الأفكار وتتحد بالأحلام، ويسعف الواقع بيد الدعم.
لكتاب الدراجة الهوائية شخصيته الذاتية، المختلفة، وطرافته وجدّته، خاصة في إفراده كتابًا للدراجات الهوائية، على ما في ذلك من رهان على الحب والأحلام:
هذا ما سيحدث معك أيها القارئ، إن لم تحب الدراجة الهوائية فلن تستمتع بلذة كتاب عنها.
ص٢٤
يتنقل النص بقارئه، بين أكثر من أسلوب، وذلك ما يسمح له بالتحول في لحظات، حيث الزمن بالصفحات، إلى يوميات درّاج، وإلى يوميّات للحظر، ونتف من السيرة الذاتية، والتأملات الشخصية المتعددة، كتأمل اسماء القرى والاستطراد بحثًا عن معانيها ص٧١، حتى ترتخي سلسلة درّاجة السرد من طول السير وتحتاج إلى شد جديد، وأحيانًا أخرى كأي فعل بشري، تفتر الحماسة للدراجة كلها، وتبقى حماسة الكتابة:
منذ أيام لم أعتلِ دراجتي، أتكاسل أحيانًا، حدث أن تركتها يومين أو أكثر قليلًا، لكنها حاضرة كل ساعة. أذهب إليها بالقراءة والكتابة.
ص١١٨
لكن سرعان ما تعود السلسلة للاشتداد، وتنتج لنا حركة نصيّة حيوية كما نجدها في قصة المصباح الأمامي القصيرة ص١٣٨، وتوثق وتكشف لنا مجاهيل قد لا يعرفها القارئ، وتدهشنا، كقصة البيت الحاضن للدراجات في عمان، في اكتشاف ممتع لبيت خديجة الخزيمي في شناص حيث يأوي من كل حدب وصوب في العالم هواة الدراجات، ص٢١٣، وكما في المسرد الجميل والمحزن عن رحلة الزوجين الدرّاجين حمد ووئام، ص٢٠٢، وقصة الدرّاج اليمني جمال صالح الطائف على مساجد السلطان قابوس في عمان، ص١٨٤، ودراجات ودراجين آخرين، ولا ينسَ الكتاب أن يبسط لقارئه صورًا لموضوعه الأثير، حيث سيجد نماذج للدراجات الهوائية وأنواعها في آخر الكتاب.
الصبي الذي لم يسنح له القدر في طفولته بدرّاجة أصبح هو بالذات الذي يؤلف كتابًا عنها في رجولته، وهذا الكتاب بمجمله تعبير حي ملموس، نصّي، عن شغف الدراجات الهوائية، وما تحويه من وقود للأحلام، وللحياة بالتالي، وكما هو دافع الكتاب الأول عن الدراجة الهوائية وبسطاء الأرض، في زمن السيارات الفخمة، التي يفجعها ارتفاع أسعار الوقود والضرائب والزحمة، وينظر سائقها من قمرته بحسد للدراجة النارية وهي تمر قربه لاستهلاكها البسيط وخفتها وسرعتها، فيما خلفهما بعيدًا، على الرصيف دراجة هوائية، تتبع الطرق الطويلة جدًا، آملًا في العثور يومًا ما على الدرب المؤدي إلى الغيوم.