الكاتبان: ستيفان بيرناتشيز وأندريه لاكروا
ترجمة: محمد كزّو
المصدر: مجلّة الواجب الفلسفي-التّاريخي، 11 سبتمبر 2021
تعريف الكاتبين: أستاذان جامعيان بجامعة شيربروك بكندا، تخصّص الفلسفة
كما يتّضح من قضيّة حرّيّة التّعبير في الجامعات، ومحتوى التّبادلات على الشّبكات الاجتماعيّة، فتدريب المواطنين القادرين على النّقاش والحوار ضروريّ لاشتغال الدّيمقراطيّة التّشاركيّة والتّداوليّة. وبالمثل، فالمشاكل المتعلّقة بالعنف المنزليّ والاعتداءات الجنسيّة وحماية الأطفال، تبرّر التّفكير في التّعلّم الذي يجب القيام به لمنع هذا السّلوك غير المقبول؛ إذ في الوقت الذي كان فيه وزير التّعليم يدرُس طُرقًا مختلفة لاستبدال حصص الأخلاق والثّقافة الدّينيّة، كان يجب عليه معرفة أنّ تعليم الفلسفة للأطفال يمكنها أن تكون حلًّا موثوقًا للعمل على حسم هذه الأسئلة الشّائكة أثناء تكوين العقول والتّثقيف من أجل المواطنة، وهذا ممكن من المدرسة الابتدائيّة وما بعدها.
في عدد مجلّة الفلسفة، الصّادر يوم 13 يونيو 2020، أكّد نورمان بايلارجون أنّ فلسفة الأطفال تتفوّق في غرس الفضائل التي تتطلّب العمل السّياسيّ: كـ “الاستماع إلى الآخرين، والمناقشة العقلانيّة، والاعتراف بإمكانيّة ارتكاب خطأ ما، وأنّ المرء مخطئ بعض الأحيان”. إذ يوجد بالفعل برنامج فلسفيّ للأطفال منظَّم جيّدًا لا يتعلّق بتعليم المؤلِّفين العظماء، ولكن حول تطوير ممارسة فلسفيّة بروح براغماتيّة جون ديوي (1859-1952)؛ فكان الفيلسوف الأمريكيّ ماثيو ليبمان الذي طوّر في السّبعينيّات فلسفة للأطفال على هذا الأساس البراغماتيّ، بحيث يُدرّس هذا النّهج داخل العديد من جامعات كيبيك، أكثر بكثير من مجرّد برنامج ثقافة عامّة بسيط، فمثل هذا البرنامج يشكّل بالفعل تدريبًا للمواطنين حيث يتمّ تعزيز التّفكير الأخلاقيّ بطريقة أصليّة وبنّاءة.
براغماتيّة جون ديوي
تعود منهجيّة ممارسة الأطفال للفلسفة إلى جون ديوي، باعتبارها جزءًا من نهج براغماتيّ للفلسفة والتّعليم، إذ في عمله “كيف نفكّر؟”، يؤكّد جون ديوي أنّ “الطّريقة التي سيتمّ استخدامها لتوطيد موهبة التّفكير التّأمليّ، هي خلق الظّروف المواتيّة لظهور الفضول وتنميّته، وهي إقامة روابط بين التّجارب المختلفة، التي ستؤدّي إلى سيل من الاقتراحات، وإثارة المشاكل والأهداف التي من شأنها تعزيز فيض من الأفكار”. ووفقًا لجون ديوي، ما تزال الممارسة الفلسفيّة تعتمد التّجربة المُعاشة، ولهذا يجب على التّعليم إعادة بناء التّجربة الانعكاسيّة باستمرار، وبهذه الطّريقة يصبح التّفكير الفلسفيّ عمليّة تربويّة طبق الأصل من التّحقيق –وهي تجربة في حدّ ذاتها- وأساسًا للحياة الدّيمقراطيّة.
في السّياق ذاته، يدفع البراغماتيّ، طِوال إعادة بناء هذه الفلسفة، إلى إعادة صياغة الأخلاق التي تنطوي على بناء المعنى بين الذّات والمعاملات، فتُطوِّر الموضوعات طريقة التّفكير، وتُنمِّي قابليّة التّخمين باستمرار، وتتجاوز مجرّد فهم مبدأ يمكن تطبيقه على المواقف جميعها؛ إنّها بالأحرى مسألة ضمان استيعاب سياق العمل حسب الفهم المشترك بين الموضوعات.
وهكذا، تمّت إعادة النّظر في الفلسفة على أساس براغماتيّة جون ديوي، باعتبارها ممارسة قائمة على مفهوم مفتوح للدّيمقراطيّة؛ كما تستند الأخلاق النّاتجة على الحوار وسرد التّجربة، والتي هي أيضًا في قلب ممارسة الفلسفة، وفي العمل على وجه الخصوص، أساليب منع النّزاعات وحلّها، مثل الوساطة. بينما يذهب البعض، مثل ريتشارد رورتي، إلى حدّ القول بأنّ السّرد هو كلّ ما يتبقّى للفيلسوف للتّفكير في الواقع؛ ومع ذلك، فالحوار النّاتج يجب أن يستجيب للقيود الاجتماعيّة والسياسيّة والمعرفيّة، وهذا هو المكان الذي يمكن أن تساعدنا فيه فلسفة جون ديوي على تحديد هذه المساحات المختلفة بالطّريقة الصّحيحة.
من خلال تجويد كفاءة الحوار بين الأطفال، كما بين المراهقين، حيث يمكن تعميم مثل هذا البرنامج خارج المدرسة الابتدائيّة، فإنّنا نستجيب للنّقد الذي يتمّ توجيهه أحيانًا إلى مناهج تستند إلى أخلاقيّات المناقشة، والتي تفترض مسبقًا أنّ هذه القدرة موجودة بالفعل، وهي: التّعلّم ضروريّ لتحويل هويّات العمل لتكون قادرة على العمل؛ باعتبار أنّ أحد الأهداف التي تقوم عليها ممارسة الفلسفة للأطفال هو التّربيّة على المواطنة، والتي تتطلّب صقل المهارات عبر تقنيّة الحوار؛ فالأطفال هم بالفعل مواطنون يشاركون في الحياة الدّيمقراطيّة، إذًا لنقتبس من جون ديوي ما يلي: “التّعليم عمليّة حياة، وليس تحضيرًا للحياة”.
فلسفة موجَّهَة للأطفال
جرى إنماء ممارسة الفلسفة للأطفال لأولّ مرّة في الولايات المتّحدة، وتمّ تنفيذها في بعض المدارس البديلة في كيبيك، لا يُقصد بها تدريس تاريخ الأفكار الفلسفيّة، بل تهدف إلى جعل الأطفال يفكّرون بأنفسهم داخل مجتمع بحثيّ، بدلًا من تزويدهم حلولًا جاهزة، إذ يتعلّق الأمر بتحديد المشكلات ودراستها، وتعليمهم مهارات التّفكير والحُكم لديهم من خلال أن يصبحوا باحثين يطبّقون طريقة عِلميّة، وهي طريقة الحُكم-التّجريب وفقًا لجون ديوي.
في هذه الممارسة، يتمّ إثارة التّساؤل الفلسفيّ للأطفال على امتداد قراءة القصص، وهكذا يعتمد كلّ عصر روايات عديدة تهدف عقلنة نشاط التّفكير، واكتشاف العالَم المحيط، وفلسفة الطّبيعة، والتّفكير في اللّغة، والتّدريب الأخلاقيّ، والتّفكير المنطقيّ، والقواعد الأساسيّة، ومهارات المنطق، والتّعامل مع الجماليّات داخل نطاق الشِّعر، والتّعامل مع الشّؤون الاجتماعيّة والسّياسيّة؛ كلّها تساؤلات فلسفيّة تؤدّي إلى تكوين مجتمع قادر على البحث الفلسفيّ متنبِّهًا لإمكانيّة التّفنيد، تبعًا للحجج المضادّة، والتّصحيح الذّاتيّ.
بهذا المعنى، فممارسة الفلسفة بالمنظور الذي فتحه جون ديوي، والذي ربط التّعليم والدّيمقراطيّة بشكل وثيق للغاية، يعني قبول التّفكير في المفاهيم التي سيتمّ حشدها باستمرار داخل الحياة المدنيّة، مثلًا لا حصرًا: العدالة، والعنصريّة، والإدماج، والحقيقة. إنّه أيضًا، كما يفترض، انعكاس أخلاقيّ مُتَخَيَّل من زاويّة براغماتيّة، يعكس معايير التّحقّق من صحّة قراراتنا، بينما نعطي قيمة على اختياراتنا ونقوم بتقييمها في سياقها، وهكذا تسمح الفلسفة الموجَّهة للأطفال والمراهقين بتجربة طريقة جديدة للتّفاعل مع الآخرين، تماشيًا وتثمين الحوار والاستمتاع والاحترام، وهذه كلّها عناصر سنكتسبها عبر الاندماج في تفاعلات الحياة اليوميّة جميعها.
تجربة أثبتت نفسها
يتضمّن أيضًا برنامج الفلسفة الموجَّه للأطفال مكوِّنًا يهدف إلى محاربة العنف، ويسعى إلى تنميّة حُكم الشّباب للعمل على ثلاثة مستويات وقائيّة: الأوّل: تمكين الأطفال، باعتماد وسائل التّفكير النّقديّ العقلانيّ، من بناء هوّيّة أكثر صلابة، مثل تأكيد الذّات، ليس فقط القدرة على تعريفها بشكل أفضل كموضوع، ولكن لتمييزها عن الآخرين. والثّاني: تنميّة وعي الأطفال بمختلف أشكال العنف، والتّعرّف عليها، وتسميّتها، والتّفكير فيها. والثّالث: السّماح للأطفال بالتّفكير لإنشاء عالَم أكثر تناغمًا، الأمر الذي يتطلّب لهذا الخَلْق ممارسة سِلميَّة في حدّ ذاتها، من خلال توعيّة الأطفال بالجوانب المختلفة للعنف، ليُساعد البرنامج الفلسفيّ على تنميّة قوّة التّفكير والحوار، لتجنّب اللّجوء إلى العنف اللّفظيّ والجسديّ والنّفسيّ.
في حين، أثارت البنائيّة المعرفيّة المرتبطة بهذه الطّريقة بعض الانتقادات بداية الأمر، ولكن أظهرت بعض الدّراسات فوائد التّعلّم الانعكاسيّ، حيث يتمّ تحدّي المعرفة باستمرار، وإخضاعها لاختبار الصّلاحيّة. ووفقًا للدّراسات نفسها التي تمّ إجراؤها لقياس التّأثيرات على الأطفال الذين مارسوا الفلسفة، فالبرنامج يُحسِّن مستوى احترامهم لذاتهم –على الأقلّ عن طريق التّحدثّ علنًا- ويساهم في أهميّة تنميّة التّفكير الأخلاقيّ، وفعالية منع العنف. ويتعلّم الأطفال، خصّيصًا، مهارة إيجاد إجابات خاصّة بهم، عن الأسئلة المعقَّدة من خلال استخدام عمليّة تفكير منظَّمة، ومن كونهم جزءًا ضمن مجتمع بحثيّ. وبالتّالي، فممارسة الفلسفة لا تساهم في تطوير التّفكير في العيش معًا والسّلوكيات المعتمدة فحسب، بل كذلك في تكملة التّربيّة من أجل المواطنة؛ علاوة، تسمح ممارسة الفلسفة مع الأطفال بشحذ الكفاءة ليس فقط الحواريّة، ولكن أيضًا الأخلاقيّة المتعلّقة بالقيم والأعراف.
وأخيرًا تُسهم الفلسفة الموجَّهة للأطفال في الحياة الدّيمقراطيّة، من خلال تعلّم المهارات السّلوكيّة والمنطقيّة والمعرفيّة اللّازمة للحصول على حُكم أكثر صرامة وأخلاقيّة، لا سيما عبر تعليم الأطفال التّفكير والتّعبير عن أنفسهم، وتبرير آرائهم والتّداول والمناقشة بشكل جماعيّ للوصول إلى قرار مبرّر عقلانيًّا؛ لهذه الأسباب تبدو مثل هذه البرامج ومشتقّاتها ضروريّة لاعتمادها في إعادة صياغة المقرّر الدّراسيّ في الأخلاق والثّقافة الدّينيّة، وفقًا للتّجربة الدّيمقراطيّة التي اقترحها جون ديوي.