قراءة في كتاب كورونا (احتضارات في العناية المركّزة)
للكاتب يونس السيابي
دار نثر ٢٠٢١م مسقط
"إن أكبر جراحنا في هذه الجائحة هو الجرح النفسي العقلي حتى صار الواحد يخاف أن يلمس وجهه" ص8
يونس السيابي
بورتريه شخصي للفيروس:
هل يمكن انجاز نص كتابي عن فيروس كورونا أو كوفيد ١٩، الذي ظل غامضًا ومحاطًا بالشائعات والشك والارتياب، رغم مرور عامين كاملين على إصابة عالمنا به، ورغم كل ما حدث وما قاساه الناس أولًا من فقد فاجع، ثم من حبس وتقييد حريات للاحترازات الوقائية المتخذة، ورغم أنه محور هذين العامين الذين يوشكان على الانصرام ٢٠٢٠/ ٢٠٢١، حيث كان يقود العالم بطريقة ما، عجائبية في الغالب، لكنه ظل غامضًا، ربما لأنه غير مرئي، وحتى في ذروة انتشاره ظل محاطًا بالإشاعات المستمرة والدائمة والأخبار المشكوك في صحتها، والتصديق والتكذيب، إلى هذه اللحظة التي نكتب فيها هذه الكلمات، وكأن الحسم والوضوح غير ممكن بالنسبة لنا، خاصة بالنسبة لشيء لا يمكن رؤيته إلا على سطح زجاجة الميكرسكوب، لكنه لم يكن كذلك لمّا أصيب به، بل كان له وسوم جليّة في وادي الموت.
كيف يمكن إذًا الكتابة عنه؟ وكيف يمكن الكتابة عن شيء راهن وحاضر وحار وحائر كهذا الأمر؟ وهل ستفلح الكتابة عن هذا الموضوع؟ وكيف؟
هذه رهانات نص هذا الكتاب، على الأقل بالنسبة لي كوني قارئ. من صفحات البداية نستطيع أن نرى زاوية رؤية النص:
قصص واقعية أقدمها للقارئ على استحياء، غلبني إحساسي الشديد في الكتابة عنها، صارت تطاردني وتلحّ عليّ بالحضور إلى عالم الوجود، فأنساق وراءها بقوة، يروّعني أن تعمل وتموت مع أصحابها بلا مراسم عزاء. ص٨
إذا استعدنا عمل فنان الغرافيتي الشهير بانكسي بداية وباء كورونا فإن هذا النص ينجزه أحد أفراد الطاقم الطبي، ممرض، أحد أولئك الأبطال إذًا، الذين خاضوا المعركة نفسها مع المرضى، يكتب من زاوية متفردة نصًا موضوعه راهن شديد المعاصرة وغامض في الوقت نفسه، من زاوية جانبية لفرد من الطاقم الطبي ظل واقفًا على دروازة الموت وقفة مزدوجة، وقفة ممرّض يطبب الآلام والجراح، ووقفة كاتب يراقب ويسجل هذه الشهادات، التي ليست شهادات عن ذاته والخطر الذي يواجهه، بقدر ما هي شهادات عن الحالات الإنسانية، عن الذات الكلية، وهي في طريقها للموت، وخطواتها على درب الفناء المشرع.
لا يغيب الوعي بالحالة العامة للوباء عن النص، وخلفية الحدث العالمي، لا تغيب الأزمة وإحراجاتها، بل تظهر منذ تقديم النص الأولي لتلك الأسرّة الستة والعشرين، لأن الأسرّة تعبير عن الحالة، تعبير عن الإنسان الراقد عليها، وتلك الأسرة تشكل هنا كذلك فصول الكتاب، وتجري الأحداث في غرفة العناية المركزة، في المستشفيات، الأمكنة التي صرنا نولد فيها، ونموت:
حياة الحطام والقسوة التي تسحق الإنسان في المستشفيات ص٢٧
من وسط ذلك الحطام والقسوة يتقدم إلينا نص هذا العمل، ويظهر لنا الفيروس، في بورتريه شخصي يرسمه هذا النص:
كورونا يسعده أن يلحق بالآخرين الأذى أو ينال منهم للأبد، ليس له قربان سوى الإنسان، يفر هالعًا من مكان إلى مكان آخر، إن كورونا مخلوق مرعب مخيف يبعث الاضطراب والقلق في النفوس، يوحي إلى القلوب بالذعر والرعب، لا يوجد على وجه الأرض أشد منه شراسة ووحشية، يقتل النفوس ببطء وهدوء.
ص٢٨
وادي الموت:
داخل غرفة العزل، تلك التي يخشى أي مريض مجرد الدخول إليها، لأنها ستجعله يقف هناك بشكل مباشر، وجهًا لوجه، أمام المصير؛ من يدخل غرفة العزل، يصبح أمام اختبار شديد القسوة، رهيب ومجرّد، رغم أنه هو الاختبار نفسه الذي نعرفه جميعًا منذ ولدنا، لكنه في غرفة العزل يأخذ تجريدًا مفجعًا، كالتجريد الفني الصادم، كل من يرقد على أي سرير من تلك الأسرّة هو عرضة للفناء، ولا أحد يعرف بالتحديد من الأول ومن التالي، ومن سيذهب للأبد ومن سيعود أدراجه.
يتنقل النص بفصوله من سرير لآخر، من حالة لأخرى، تتكرر المواجهة، وكل مواجهة مع الموت تحمل في طياتها نوعًا من الفقد، حتى لو نجونا يموت شيء فينا، مع قراءة تلك المواجهات يستشعر القارئ حدّة وعمق وعزلة تلك المواجهة التي تفر لها الأنفاس ويتجمّد الدم في العروق ويشحب الوجه والجسد لها بأكمله:
ظلال الموتى وأصواتهم في أذنيه قاسية، الموت يأتي بغتة، لا ينتظر أحدًا، له صمت يسيطر على كل شيء، لا يمكنه أن يرى الموت حتى عندما يكون بجواره، فقد تعوّد أن يرى أشخاصًا يموتون في المستشفيات، كان يعيش مع موتى بجانبه، أن تنام بجانب الجثث أمرٌ ليس سهلًا إطلاقًا، لا شيء أفظع من الموت.. لماذا لا يموت الموتى بعد موتهم؟ ص٦٣
يحول النص نفسه للسؤال الأخطر والأكثر حساسية والذي يمس الجميع، سؤال الموت المجهول، هكذا يحاول النص أن يرسم خارطة للمسارات الذاهبة في ذلك الطريق، يقفر آثار الخطا الماضية للموت. لذلك يصادف القارئ حالات أخرى تلفظ أنفاسها في المستشفى لأسباب أخرى، غير الفيروس، لكنها حادة كذلك ومؤلمة، مهما تعددت الأسباب فالموت واحد كما يذكّرنا بيت المتنبّي، لوحة الأم التي تلفظ أنفاسها في الوضع وينجو الجنين، ولادة وموت في اللحظة نفسها، تجريد حاد وثقيل:
يوم حداد لم يعرف المستشفى يومًا مثله، عم الحزن الجميع وأرهقت دموع الحزن والوداع طويلًا!! أصبح إظهار الضحك والبهجة شيئًا يتجنبه جميع من حضر الحادثة أو سمع عنها. ص٨٧
نقرأ كذلك حالات التردد المرجفة أمام القرارات المصيرية، هل تجنب مريضك الذي يحتضر الألم وتدع روحه تغادر بسلام، أم تطيل عذابه بمجرد أمل ضئيل في العودة؟ ماذا لو كان هذا الذي يحتضر ابنك ص٨٩، أو قريبك ص٣٣.
بتأملات صادقة ونافذة يغوص النص أعمق في وجدان قارئه، وكذلك يفعل بمشاهده الحية، تلك التي تسجل حجم المجهول والغيبي:
أقبل طبيب العناية المركّزة الذي يرتدي بدلة تشبه لباس رجال الفضاء تقية فيروس كورونا. ص٤٢
نستطيع القول إن الكتاب مبنيّ على نص مشغول بالقلب أكثر، برهافة كافية للشهادة، مثل نراه في استخدامه ضمير المتكلم لمن سيموت، ص٣٧ مثلًا، ومكتوب كأثر وثائقي بحساسية روحية يقظة ترصد حتى رائحة اللحظة:
حضر الموقف طاقم من قسم العناية المركّزة.. حضروا جميعًا وحضر الموت قبلهم. رائحته تملأ الهواء من حولهم. ص٨٣
قراءة هذا العمل ليست تلمسًا فحسب لهذا الجرح الواقعي جدًا ونفيًا للغموض الملتبس الذي ظل يلف هذا الحدث بسديمه، بل هو كذلك نفي للأوهام عبر ملامسة اليد لجسد الواقع، واقع الحياة والموت:
في ذلك المكان الضيق من الأرض والمليء برائحة الإنسان المفعمة، أتخيله قبرًا جماعيًا. البشرية التي سكنت ذلك المكان، أو ربما لم تعد من حسبان البشر وقد نُسوا تمامًا من مخيلة العالم، أصبحت الحياة ورائهم.
بتلقائية ودون ادّعاء يتمدد النص ليرصد الموضوعة الإنسانية الكبرى ومكابداتها، لكن من زاوية أكثر من مناسبة، من أمام دروازة الموت مباشرة بزاوية انحراف مناسبة تتيح الرؤية ولا تعيق المرور.
ختامًا لا شك أن هذا العمل اضمامة ثرية وواسعة كتب بأسلوب بارع وشديد الحساسية، وتقدم كاتبًا واعدًا بقوة، يقدم نصه لكل قارئ يقرأه طبقات متعددة لرؤية ومعالجة موضوع كبير وثري ومعاصر دومًا وأبدا:
لم يعد إلى الحياة مرة أخرى، كانت روحه عالقة بين أطراف الجسد كأنها تريد الرجوع إليه من جديد. ص٩١