قصة: جاك لندن
ترجمة: سماح ممدوح حسن
ذات صباح هادئ في كوريا في الوقت الذي تسود فيه السكينة والهدوء، وتستحق فيها كوريا وعن جدارة أسم “تشوسين المدينة المقدسة”، هناك عاش سياسي يُدعى “ييتشينهو” وكان رجلا ذو حيثية ومواهب، لكن من يجزم بهذا؟ ربما لم يكن أسوأ سياسي في العالم، لكنه على عكس بقية السياسين فقد أودع “ييتشينهو” السجن بعدما اختلس من المال العام. هو لم يُسجن بسبب الاختلاس لكن سُجن بسبب اختلاس الكثيرمن المال، أكثر من المعتاد، فالإفراط هو أكثر الأمور بغضا، حتى في التطعيم؛ لذا أوصله جشعه إلى أسوأ النهايات. أدين “ييتشينهو” للحكومة بعشرة آلاف قطعة نقدية، وحكم عليه بالإعدام وأودع السجن حتى تنفيذ الحُكم، لكن كان لسجنه ميزة عظيمة فقد أتاح له وقتا طويلا للتفكير، ليتفتق ذهنه بعدها عن فكرة نيّرة. نادى السّجان وقال له: “أكثر الرجال قيمة يقف أمام أكثرهم بؤسا، وبيدك تغيير مسار حياتي للأفضل، فقط لو إنك حررتني الليلة لساعة واحدة، وسأرد لك المعروف بترقيتك على مدى الأعوام، وتظل بعدها على رأس إدارة جميع سجون “تشوسين” ولوقت طويل.
صُعق السجان وقال: “كيف؟ ما هذه السذاجة؟ كيف أحررك وأنت تنتظر قطع رأسك! وأنا لي أم عجوز مبجلة، ناهيك عن زوجة وعدة أطفال صغار. أضحي بكل هذا من أجل نذل مثلك!”
“من المدينة المقدسة، حتى آخر السواحل الثمانية لا يوجد حتى مكان واحد لأختبئ فيه. أنا رجل ذكي، لكن الذكاء لن يفيدني كثيرا وأنا قابع في السجن هنا، لكن لو حررتني أنا متأكد إني قادر على استعادة أموالي لأسددها للحكومة. وأنا أعرف “أنف” ستزيّل لي كل الصعوبات”
“أنف!” صاح السجان.
“نعم أنف. أنف استثنائي إن جاز لي القول. الأنف الأروع على الإطلاق”
رفع السجان يده يائسًا وضحك: “أنت مهرج مضحك، أنت مسلي. أنت تظنّ أن ذكائك الحاد سيجعلك تفلت من العقوبة!” قال جملته وغادر، لكن في النهاية السجان كان خفيف العقل والقلب أيضًا، عندما حل الليل سمح لـ”ييتشينهو” بالمغادرة.
وعلى الفور توجه إلى الحاكم، أنفرد به وأيقظه من نومه.
” ييتشينهو! أم أنا أحلم! ماذا تفعل هنا بينما يجب أن تكون في السجن الآن تنتظر تنفيذ الإعدام؟” صاح الحاكم.
“أتوسلك سيدي أن تصغي لي” قالها يي تشين هو، وجلس مقرفصًا على سرير الحاكم، وأشعل غليونه من المدفأة “الحقيقة إن الرجل الميت ليس له قيمة، لا للحكومة ولا لسعادتك، ولا حتى لنفسي. لكن لو سمحت وأطلقت سراحي………”
“مستحيل. ثم إنك في انتظار تنفيذ حكم بالإعدام”
“سعادة الحاكم، أنت تعرف جيداَ أنني قد ردت العشرة آلاف للحكومة سيتم العفو عني. وعليه، وكما أرى لو أن سعادتك أطلقت سراحي لبضعة أيام كرجل متفهم للحقيقة، حينها سأرد مال الحكومة، وسأترقى إلى منصب أستطيع فيه خدمة سعادتك بشكل أفضل!”
“هل لديك خطة تأمل بها الحصول على هذه الأموال؟”
“نعم لدي خطة”
“إذا، ليلة الغد، عُد إليّ ومعك الخطة فأنا الآن أريد النوم” قالها الحاكم وأكمل شخيره من حيث توقف.
في الليلة التالية وبعدما حصل “ييتشينهو” على إذن السجان ذهب مرة أخرى إلى سرير الحاكم.
“أنت مرة أخرى ييتشينهو؟ هل أحضرت الخطة؟ “سأل الحاكم
“هذا أنا سعادتك وتلك الخطة”
“تكلّم” أمره الحاكم.
“الخطة هنا بيدي سيدي الحاكم”
جلس الحاكم، وفتح عيناه، فقدم له ييتشينهو الورقة التي يحملها في يده، أخذها الحاكم وقربها من الضوء، وقال: “لا أرى بالورقة سوى أنف!”
“نعم أنف مقروصة قليلا هنا وهناك سيدي الحاكم”.
“نعم مقروصة قليلا كما تقول” رد الحاكم.
زاد يي تشين هو في إقناعه “أنه أنف كبير جدا، به كل شيء سعادتك. مثل هذا الأنف تسعى وراءه طويلا وإلى أبعد مدى. مثل هذا الأنف يستحق البحث عنه طوال اليوم لتجده!”
“أنف غير عادي!” قال الحاكم.
“وعليه نتوء صغيرة” قال يي تشين هو.
“الأنف الأغرب على الإطلاق، بحياتي لم أر مثله، لكن ماذا ستفعل بهذا الأنف، يي تشين هو؟”
“سأبحث عنه لأعيد أموال الحكومة، ولأخدم سعادتك، وأنقذ رأسي، والآن أطلب منك سيدي الحاكم ختم صورة الأنف بختم الدولة!”
ضحك الحاكم وختم الصورة وغادر بها يي تشين هو. طوال شهر ويوم سافر على “طريق الملك” المؤدي إلى سواحل البحر الشرقي. وهناك، وفي ليلة ما، عند بوابة أكبر قصر في أغنى مدينة، طرق البوابة بصخب وطلب الدخول.
تحدث بشراسة للخدم “لن أتحدث إلا لسيد البيت. أنا أسافر لقضاء أعمال الملك”
قادوه في الحال إلى الغرف الداخلية حيث استيقظ السيد من نومه وحضر أمامه يرمش ناعسا.
“أنت باك تشونج تشانج رئيس المدينة، وأنا هنا من أجل قضاء بعض أعمال الملك” قالها يي تشين هو بنبرة اتهام.
أرتجف باك تشونج تشانج. فهو يعرف أن أعمال الملك دائما فظيعة. تخبطت ركبتاه وقارب على السقوط على الأرض وقال: “الوقت متأخر الآن، أليس من الأفضل أن……”
“أعمال الملك لا تنتظر أبدا، أصرف حرسك وتعال معي سريعا، لدي دقائق لأتحدث إليك” أمره يي تشين هو بصوت راعد، وأضاف بشراسة: “في أعمال الملك” جعلت غليون باك تشونج تشانج يسقط من بين أصابعة ويتناثر على الأرض.
انفرد يي تشين هو برئيس المدينة وقال: “اعلم أن الملك يعاني مرضا فظيع، بلاء رهيب. وفشل طبيب القصر في علاجه فقطعت رأسه عقابا على فشله، ويتوافد على الملك الأطباء من جميع الأنحاء، تشاوروا فيما بينهم وأتفقوا على أن ما سينهى معاناة الملك لن يكون سوى أنف جديد، نوع معين من الأنوف، نوع خاص جدا واستثنائي للأنوف”.
“بعدها استدعاني رئيس الوزراء بنفسه، ووضع الورقة في يدي. رُسم على الورقة نوع غريب جدا من الأنوف، رسمه أطباء المقاطعات الثمانية وعليه ختم الدولة. وقال لي رئيس الوزراء اذهب وابحث عن هذا الأنف لإنهاء معاناة الملك، وقال أيضًا أينما وجدت الأنف في وجه أي إنسان، أنتزعه. وأحضره إلى البلاط لعلاج الملك. اذهب ولا تعد حتى تحصل على مبتغاك.
وهكذا سافرت وراء مرامي. بحثت في أبعد أركان المملكة، بحثت على طرق السفر الثمانية والمقاطعات الثمانية، وأبحرت في بحور السواحل الثمانية، وها أنا ذا!”
أنهى يي تشين هو كلامه، وبفخر وزهو عظيم أخرج الورقة التى بها صورة الأنف من حزامه وفك طياتها وكسورها العديدة أمام أعين باك تشونج تشانج الذي أمعن بها النظر بعيون منتفخة وقال:
“بحياتي لم أر أنف كهذه!”
“وعليها نتوءات” أضاف يي تشين هو
“لم أر مثلها قط…….” كرر باك تشونج تشانج
“استدع أباك أمامي” قاطعه يي تشين هو بحدة
“إن أبي العجوز الموقر نائم الآن”
“ولماذا أنت مضطرب هكذا؟ أنت تعرف أن أنف أبيك هو الأنف المنشود، أحضره هنا حتى أنتزع أنفه وأغادر. أسرع وإلا أبلغت عن إنك تعرقل شفاء الملك”
“الرحمة” جثا باك على ركبته “هذا مستحيل، مستحيل! لا يمكنك أنتزاع أنف أبي. فالعجوز لا يستطيع النزول إلى قبره من دون أنفه. سيكون مادة للسخرية ويُتخذ عِبرة. وستمتلئ أيامنا ولياليا بالمصائب. أبلغهم في تقريرك إنك لم تجد في أسفارك مثل هذا الأنف. فلديك أنت أيضًا أب”
تشبث باك تشونج تشانج بركبتي يي تشين هو، ونزل ينتحب عند صندله.
“يرق قلبي بطريقة غريبة عند رؤية الدموع. وأيضا أنا أعرف معنى بر الوالدين واحترامهم. لكن، تردد قليلا ثم أضاف كما لو كان يفكر بصوت عالِ وقال: “أبوك يساوي ثمن رأسي”
“وكم يساوي ثمن رأسك؟” سأل باك تشونج تشانج بصوت رفيع باسم.
“ليس بالرأس الاستثنائي، بالتأكيد ليس استثنائيًا، لكن وحتى بمثل هذه الحماقة فأنا لا أقدر رأسي بأقل من مئة ألف قطعة نقدية”
“ليكن، اتفقنا” قال باك ووقف على قدميه.
“سأحتاج خيول لتحمل هذا الكنز، ورجال حراسة أشداء، فالأرض عبر الجبال مليئة باللصوص” قال يي تشين هو.
“نعم الأرض مليئة باللصوص! لكن لك ما تتمنى طالما بقيت أنف أبي العجوز المبجّل في مكانه” رد باك.
“لا تقل كلمة واحدة عما جرى لأي كان، وإلا سيتم إرسال خدم أخرين أكثر ولاءَ مني لانتزاع أنف أبوك”
وهكذا سافر”يي تشين هو” في طريق عودته عبر الجبال فرحًا طرب القلب، يستمع لأغنية تجلجل بها أجراس الخيول المحمّلة بالكنز.
بقي القليل بعد لنحكيه، فعبر السنين ازدهرت حياة يي تشين هو، وبفضل مجهوداته وصل السّجان إلى رئاسة إدارة جميع سجون “شو سين” ولوقت طويل. أما الحاكم فقد غادر المدينة المقدسة ليصبح رئيس الوزراء، بينما أصبح “يي تشين هو” صديق الملك المقرّب وجليس مائدته حتى نهاية حياته.
أما عن”باك تشونج تشانج” فقد غرق في الكأبة، وكلما نظر إلى أبيه العجوز المبجّل يهز رأسه بحزن وتترقرق في عيناه الدموع.