تفرُّد الخير

كتب بواسطة نعيمة البخاري


مما لا شك أن هناك مشكلة واحدة يتضمنها كل تفكير في السلوك، وهي القضاء على المتاعب الحاضرة وتحقيق الانسجام بين المتناقضات الحاضرة بأن تحفظ مسلكا للعمل يجمع في طياته هذه المعاني جميعها. ويكشف لنا الاعتراف بالسيكولوجية الحقيقية عن طبيعة الخير أو الإرضاء. فكيف يمكننا فهم تفرد الخير؟ هذا التساؤل الكبير نتعرف إجابته من خلال مقاربة الفيلسوف الأمريكي جون ديوي John Dewey.
إن الخير يتضمن معنى نمارسه وينتمي إلى نشاط ينتهي فيه الصراع والتعويق والعادات المتعارضة المختلفة بتحرر موحد منظم لهذه الدوافع والعادات يظهر في العمل، يقول ديوي “هذا الخير الإنساني هو إنجاز يتوقف على التفكير، ويختلف عن الملذات التي تعثر عليها الطبيعة الحيوانية عن طريق المصادفة، على أننا الطبع نبقى حيوانات أيضا ما دمنا لا نفكر”. فالتفكير هنا عملية ضروري حسب ديوي حتى نكون متميزين عن الحيوانات ولكي نحقق الخير الإنساني.
هذا الخير حسب ديوي لا يكرر نفسه مرتين، بل لا يكرر نفسه أبدا، فهو الجديد كل صباح، الطازج كل مساء، وهو الفريد في كل تعبير، لأنه يوضع نتيجة التعقيد المتميز للعادات والدوافع المتصارعة والتي لا يمكن أن تكرر نفسها على الإطلاق. ولا يكرر الخير نفسه إلا مع عادة جامدة إلى درجة السكون. ومع مثل هذه الأنظمة الآلية الجامدة لا نجد مع ذلك أن الخير يكرر نفسه تماما لأنه لا يجدي. فلا يوجد وعي على الإطلاق خيرا أم شرا. وذلك لأن العادات الجامعة – بتعبير ديوي- تهبط تحت مستوى أي معنى على الإطلاق، وحيث إننا نعيش في عالم متحرك فإن هذه العادات تغمرنا في النهاية في ظروف لم نكيف أنفسنا لها، فتكون المأساة هي النهاية.
ومن هذا المنطلق حسب ديوي، يرجع إلى المذهب النفعي بجميع نقائصه التأكيد تأكيدا واضحا لا ينسى على حقيقة أن الخير الأخلاقي، مثله مثل كل خيرـ يتكون من إرضاء لقوى الطبيعة الإنسانية في الصالح العام والسعادة. يقول معلقا على ذلك “ويبقى بنتام Bentham – رغم كل فجاجة وانحراف- الشهرة الدائمة في أنه ضمن الوعي العام أن “الضمير” أو الذكاء المستغل في الأمور الأخلاقية ليس في الغالب ذكاء ولكنه نزوة مقنعة؛ واستبداد فكري ومنفعة طبقة معينة. ولا يكون هذا الضمير حقيقيا إلا إذا أسم في تخفيف البؤس وفي توفير السعادة، ويؤدي فحص النفعية إلى إظهار الخطر الذي ينتج عن التفكير في الخير الذي يطابق الذكاء على أنه يتكون من اللذة والألم المقبلين، وعلى أن التأمل الأخلاقي هو حساب لذلك حسابا جبريا. ويؤكد هذا الفحص التناقض بين مثل هذه المفاهيم عن الخير وعن الذكاء، وبين حقائق الطبيعة البشرية التي يوجد الخير والسعادة طبقا لها في المعنى الحاضر للنشاط”. وبالتالي يتوقف التناسق والنظام والحرية التي تدخل في النشاط عن طريق التفكير عندما يكتشف الأهداف التي تحرر وتوحد العناصر المتعارضة الأخرى.
إن النفعية مع بصرها العادل بالمكان الرئيسي للخير، ومع ولائها الحماسي لحبل الأخلاق وأكثر ذكاء وأكثر عدالة وإنسانية قد اتخذت طريقا مغرضا، وبذلك أثارت رد فعل شديدا للأخلاق السماوية العلوية والجامدة. وهنا نطرح السؤال الهام: ما سبب ذلك؟
يرى ديوي أن السبب هو سيطرة الاعتبارات الاقتصادية على الاهتمام العقلي حيث يقول معلقا على ذلك “فلقد كان على الثورة الصناعية على أي حال أن تمد التفكير باتجاه جديد، إذ أكدت التحرر من العلاقات غير الدنيوية، وذلك بتركيز الانتباه على إمكانية التحسن في هذا العالم بالسيطرة على القوى الطبيعية واستغلالها. وقد فتحت هذه الثروة آفاقا وإمكانيات هائلة في الصناعة والتجارة، وهيأت ظروفا اجتماعية جديدة للاختراع، والمهارة، والعمل، والطاقة البناءة، وعادت عقلية مجهولة تتناول لا الظواهر. ولكن الحركات الجديدة لا تبدأ من ميدان جديد وواضح”. فمضمون المؤسسات القديمة وما يتمشى معها من عادات لتفكير تستمر في وجودها. ولقد انحرفت هذه الحركة الجديدة نظريا لن الظروف المقررة السابقة في انحرفت بها عند الممارسة. وهكذا أصبحت الثورة الصناعية الحديثة في مجملها هي الإقطاع القديم يعيش في مصرف بدلا من أن يعيش في قلعة، ويهز صك نقود لحسابه بدلا من أن يهز السيف بتعبير ديوي.
واستمر بذلك مبدأ لاهوتي قديم –حسب ديوي- عن الفساد التام في شكل فكرة مؤداها أن الطبيعة الإنسانية لديها كسل فكري يجعل منها نافرة من العمل النافع ما لم يرشدها توقع اللذات، أو يدفعها الخوف من الآلام. ولما كان هذا هو “الباعث” إلى العمل كانت النتيجة أن أصبح مركز العقل ووظيفته هما إنارة الطريق للبحث عن الخير أو الربح، وذلك بتقرير إحصاء دقيق للأرباح والخسائر. وبهذا كانت الساعدة هي الربح الخالص من اللذات على أساس مشابهة ذلك للعمل من أجل الربح المادي الذي يعتمد على علم المحاسبة الذي يتناول كميات الدخل والمنصرف في شكل وحدات مالية محددة، لأن العمل كان يوجه في الحقيقة على أساس الحصول على الربح وتجنب الخسارة.
بناء على هذا، يرى ديوي أنه إذا ما سلمنا على أن فكرة الحساب المالي تتيح تقديرات أكثر دقة لنتائج كثير من الأعمال مما لو استعملنا وسيلة أخرى، وعلى ذلك باستعمال النقود والحساب قد يكون انتصارا لتطبيق الذكاء في الحياة العادية. على أنه يبقى بعد ذلك اختلاف في النوع بين حساب العمل للأرباح والخسائر وبين المداولة الفكرية في شكل الأهداف. وبعض هذه الاختلافات فطرية لا تقهر، وبعضها الآخر يرجع إلى طبيعة العمل الحاضر الذي يدار للربح المالي، ويختفي إذا ما سار العمل لخدمة الحاجات أولا. على أنه يضيف ديوي من الأهمية بمكان أن نعرف كيف يحدث حساب الأرباح والخسائر في العمل وكيف تحدث المداولة الفكرية، ولن يكون هذا بأن نجعل المداولة الفكرية مساوية لحساب الأرباح والخسائر، ولكن في الاتجاه المضاد يجعل الحساب والمراجعة عاملا مساعدا للكشف عن معنى النشاط الحاضر.
من هذا يخلص ديوي إلى أن الشيء الذي يتعرض للخطر في الواقع في أي مداولة فكرية جادة، لا يتعلق باختلاف في الكمية، ولكنه يتعلق بنوع الشخص الذي سيكونه الفرد، ونوع لذات التي تأخذ طريقها إلى التكوين، ونوع العالم المتكون، ويتضح هذا تماما في تلك القرارات الهامة حيث يتجه مجرى الحياة في مسالك مختلفة. ويحث يصبح نمط الحياة مختلفا ومصطبغا بألوان مختلفة طبقا لما نختاره من بديلات، يقول ديوي “فالمداولة الفكرية في أن الفرد تاجرا أو مدرسا، طبيبا أو سياسيا ليست اختيار الكميات. إذ من الواضح أنها اختيار لأنواع من الحياة تتعارض فيما بينها وتدخل فيها تضمينات وفروض معينة. ومع الاختلاف في نوع الحياة في تكوين الذات، وفي تكوين عادات التفكير والشعور وفي عادات العمل الخارجي. واختلافات عميقة في جميع العلاقات الموضوعية المستقبلة. وتختلف قراراتنا البسيطة في وقتها ومداها ولا تختلف في المبدأ. وعالمنا لا يعتمد اعتمادا واضحا على أي منها، على أننا إذا ما وضعناها جميعا جنبا إلى جنب أعطت للعالم معناه الذي يظهر لكل فرد منا. وتصبح القرارات الهامة مجرد كشف عن القوة المتجمعة لأنواع الاختيار التافهة”.
والخلاصة بعد هذه الوقفة نستنتج أن كل الحركات العقلية تنتظرها نتيجة مفجعة. وتوجد هذه النهاية بالنسبة للنظرية النفعية فيما وجه إليها من نقد متكرر في أنها غالت في دور التفكير العقلي في السلوك الإنساني وأنها فرضت أن فرد يحركه تدبر واع وأن كل ما هو ضروري في الحقيقة هو أن ننير عملية التدبر إنارة كافية. ثم تعارض في أن السيكولوجية الأفضل هي التي تكشف عن أن الناس لا يحركهم التفكير، ولكن تحركهم الغريزة والعادة. يقول ديوي هنا “ويمكننا في الحقيقة أن نبدأ ونحن مطمئنون من فرضية أن الدافع والعادة، وليس التفكير، هما المحددات الأساسية للسلوك. ولكن النتيجة التي يمكن الوصول إليها من هذه الحقائق هي أن الحاجة أعظم إلى تنمية التفكير، وخطأ النظرية النفعية ليس هنا، ولكنه في مفهومها الخاطئ لماهية التفكير والمداولة الفكرية وعملهما.

أدب العدد الأخير العدد السادس والعشرين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

نعيمة البخاري