تنظيم العالم البشري قراءة جان بيار فرنان

كتب بواسطة سلمى فرود


لم يسهم الغليان الديني في نشوء الحقوق وحسب. فقد هيأ كذلك جهدا في التفكير الخلقي الذي توجهه التأملات السياسية. فقد تمكنت أوساط الطوائف من المساهمة في صياغة صورة جديدة للفضيلة. كانت الفضيلة الأرستقراطية صفة طبيعية مرتبطة بتألق الولادة، وهي تظهر عبر الجدارة في المعركة، وعبر السعة في نوعية الحياة. وفي المجموعات الدينية لم تقم الفضيلة فقط بنزع مظهرها الحربي التقليدي، ولكنها تعرف بتناقضها مع كل ما يمثل مثالا للبذخ بصفته تصرفا وشكلا من الحساسية. فالفضيلة هي ثمرة تدرب طويل وشاق، ونظام قاس وصارم؛ وهي تضع موضع العمل كرقابة يقظة على التراث وانتباها مستمرا للتخلص من إغراءات اللذة ومن جاذبية الميوعة والشهوانية، وتفضيل حياة مكرسة بكاملها للجهود الشاقة. بهذه المقدمة المهمة افتتح جان بيار فرنان حديثه عن تنظيم العالم البشري.
إن الميول المتشددة نفسها التي نراها نامية بشكل من الأشكال في أوساط الطوائف حيث تحدد نظاما تقشفيا يسمح للمتدربين الجدد بالتخلص من ظلامات الحياة الدنيا والخروج من دورة التقمص والعودة إلى الإله، نجدها تعمل بقوة في الحياة الاجتماعية مبدّلة السلوكيات والقيم والمؤسسات بعيدا عن الاهتمام هذه المرة بالأمور الأخروية .
وهكذا فالبذخ والميوعة واللذة أمور مرفوضة؛ والترف محظور في اللباس والسكن والطعام؛ والثراء مرفوض بقوة. ولكن الإدانة تصل إلى نتائجها الاجتماعية والأمراض التي تولّدها في الجماعة، والانقسامات والأحقاد التي تثيرها في المدينة؛ىأي حالة التوقف التي تؤدي إليها في نوع من القانون الطبيعي. لقد حلت الثروة محل كل القيم الأرستقراطية: فالزواج والشرف والامتيازات والسمعة والسلطة تستطيع أن تؤمنها كلها. من الآن فصاعدا بات المهم هو المال، والمال هو الذي يصنع الرجل. والحال أن الثروة على عكس كل “القدرات” الأخرى، لا تنطوي على أية حدود: فلا شيء فيها يمكن أن يسجل نهايتها أو يحدها أو ينجزها. إن جوهر الثروة هو المغالاة؛ وهي الصورة نفسها التي تتخذها المغالاة في العالم .
ومن هنا يمكن القول أن: “من يملك الكثير هو الذي يطمع في مضاعفة ما يملك. والثروة تصبح عند الإنسان جنونا”. فمن يملك يريد المزيد. والثروة تنتهي بأن تصبح غاية نفسها دون أي شيء آخر. وبعدما كانت غايتها إشباع حاجات الحياة، ووسيلة بسيطة للاستمرار، أصبحت غاية في حد ذاتها وطرحت نفسها بمثابة حاجة عامة جشعة وغير محدودة، ولا شيء يستطيع أن يشبعها أبدا .
اعتبارا لذلك يؤكد جان بيار قائلا إننا نكتشف إذن في أساس الغنى طبيعة مشوبة بالعيب وإرادة منحرفة وسيئة أي: رغبة في الامتلاك أكثر من الغير، أكثر مما قسم للمرء لا بل الحصة كلها. فالثورة تنطوي في أعين اليونانيين على حتمية، ولكنها ليست ذات صفة اقتصادية؛ إنها بالضرورة الملازمة لمزاج معين، لمزاج عام، أي لمنطق نمط معين من التصرف. فالإشباع والمغالاة والرغبة في الامتلاك أكثر من الآخرين، هي أشكال الغباوة التي ارتدتها العجرفة الأرستقراطية في العصر الحديدي، أي روح النزاع هذه التي لم تتمكن من أن تولّد سوى الظلم والقهر والانقسام بدلا من المنافسة الشريفة .
في مقابل المغالاة في الثروة ارتسم مثال السيطرة على الذات. وهو يقوم على الاعتدال والتناسب والقياس الصحيح والوسط الصحيح من الأمور. “لا مغالاة في شيء” تلك كانت صيغة الحكمة الجديدة. هذا التقرير لما هو متزن ولما هو وسيط، يعطي الفضيلة شيئا من “المظهر البورجوازي”: إنها الطبقة الوسطى التي ستتمكن من لعب دور الاعتدال في المدينة، عبر إقامة التوازن بين أقصى الطرفين: اقلية الأثرياء الذين يريدون الاحتفاظ بكل شيء؛ وجمهور الناس الفقراء الذين يريدون الحصول على كل شيء. وإن من نسميهم الوسطيين ليس فقط أعضاء فئة اجتماعية خاصة تقع على مسافة متساوية من الفقر والغنى: فهم يمثلون نموذجا من الرجال يجسدون القيم المدنية الجديدة، كما يمثل الأثرياء جنون المغالاة. كان الوسطيون يلعبون نتيجة لموقعهم الوسيط في المجموعة، دور تثبيت التناسب، وصلة الوصل بين الفريقين اللذين يمزقان المدينة لأن كلا منهما كان يطالب بكامل القيادة لنفسه .
إن فكرة السيطرة على الذات سبق وظهرت في مؤسسة مثل مؤسسة التحفظ الإسبرطي، مع سمة اجتماعية أساسا. فهي تصرف منضبط ومنظم ومطبوع بالاعتدال، يقتضي بالشاب أن يراعيه في جميع الظروف: اعتدال في مشيته وفي نظره وفي أحاديثه، اعتدال أمام النساء وفي مواجهة الأبكار وفي الأغورا (الساحة العامة)، واعتدل أمام النساء والملذات والمشروب .
فمواطن المستقبل ينبغي أن يُدرّب من أجل السيطرة على أهوائه وانفعالاته وغرائزه. وهكذا يخضع مبدأ السيطرة على الذات كل فرد إلى نموذج عام يتفق مع الصورة التي تكونها المدينة عن “الإنسان السياسي” في علاقته مع الغير. ونتيجة لاعتدال المواطن في تصرفاته، فإنه يبتعد عن اللامبالاة وعن الابتذال الساخر الخاص بالعامة كما عن التسامح الفوقي والعجرفة المتعالية .
فالأسلوب الجديد للعلاقات الإنسانية حسب جان بيار يجب أن يخضع لنفس قواعد الرقابة والتوازن والاعتدال، التي تعبر عنها أقوال مأثورة مثل “اعرف نفسك”. “لا افراط في شيء” “والتصرف المعتدل هو الأفضل”. كان دور الحكماء في حكمهم وقصائدهم، استخلاص القيم التي كانت تبقى إلى حد ما ضمنية في سلوك المواطن وحياته الاجتماعية، والتعبير عنها شفهيا ولكن جهدهم الفكري لم يؤد فقط إلى صياغة إدراكية، وإنما حدد موقع القضية الخلقية في إطارها السياسي العام، وربطها بتطور الحياة العامة. ونتيجة لانخراطهم في النضالات المدنية، واهتمامهم في وضع حد لها بعملهم التشريعي. وكذلك بفعل وضع اجتماعي واقعي في إطار تاريخي مطبوع بصراع القوى والمواجهة بين المجموعات، أعدّ الحكماء علم الأخلاق الخاص بهم وحددوا بطريقة وضعية الشروط التي تسمح بإقامة النظام في عالم المدينة. فدون مساواة لا وجود للمدينة لعدم وجود الجماعة .
ويعدّ دعاة الانسجام إدخال الإنصاف في العلاقات الاجتماعية بفضل اهتداء خلقي، وتحول نفساني لدى النخبة: فبدلا من البحث عن القوة والثروة، تم تكوين “الأفضل” بواسطة مذهب فلسفي يقوم على عدم تمني الحصول على المزيد، وإنما على العكس، على إعطاء الفقراء بفضل ليبرالية كريمة، هؤلاء الفقراء الذين يكون من المستحيل عليهم ماديا تمني الحصول على المزيد. وهكذا تمت المحافظة على الطبقات السفلى في الوضع الأدنى الذي يناسبها، دون أن تتعرض مع ذلك لأي ظلم. تبقى العدالة التي تحققت متناسبة مع الجدارة .
وقد ذهب التيار الديمقراطي أبعد من ذلك؛ فهو يعرّف جميع المواطنين، بحد ذاتهم، دون اعتبار لثروتهم أو قوتهم، وكونهم “متساوين” يتمتعون بنفس حقوق المشاركة في كل مظاهر الحياة العامة. إن القياس العادل الوحيد القادر على توفيق العلاقات بين المواطنين هو المساواة التامة والكاملة. وإخفاء كل الفوارق التي تخلق التناقض بين مختلف فرقاء المدينة. وتوحيدهم بواسطة الدمج والمزج.
استخلاصا مما سبق نؤكد على أن العالم لكي يكون عالما منظما يسوده التسامح والتعايش والأخوة الإنسانية، يستلزم أن تقوم البشرية بإعادة النظر في العلاقات المبنية على المصالح الضيقة وأن تستحضر ضميرها في سبيل الوصول إلى مجتمع كوني قائم على العدل والحقوق والانصاف.
الهوامش:

  1. أصول الفكر اليوناني، جان بيار فرنان، ترجمة: سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1987، ص: 73.
  2. أصول الفكر اليوناني، مرجع ساق، ص:73.
  3. نفسه.
  4. أصول الفكر اليوناني، مرجع سابق، ص: 74.
  5. نفسه، ص: 74- 75.
  6. أصول الفكر اليوناني، مرجع سابق، ص: 81.
  7. نفسه.
  8. نفسه
  9. أصول الفكر اليوناني، مرجع سابق، ص: 86
أدب العدد الأخير العدد السابع والعشرون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

سلمى فرود