ليلى العثمان، أيقونة القصة الكويتية

كتب بواسطة محمد عطية محمود


“الأسى الذي عشت به خلق مني الكاتبة، الألم يساعد على الإبداع”، ليلى العثمان.
(1)
في قصص وروايات الكاتبة الكويتية البارزة “ليلى العثمان” يبدو ذاك الحس الأنثوي المعجون بالحياة، والضارب في أغوار علاقاتها الحميمة والمشتبكة معها، والمشبع بالألم على نحو كبير مؤصل بمزيد من التجارب الحياتية الممضة والشجية والطريفة في الآن ذاته، من خلال تيمات سردية لا تبتعد عن بؤرة الواقع المرئي والمعيش، ومن خلال المجتمع الذي تنطلق منه، والمغلف بقضاياه الشائكة التي تعتركها المرأة كونها إنسانًا، بشعورها وبذاتيتها، سواءً كانت الذاتية المفردة/ الجوانية، أو تلك الذاتية الشاعرة بآلام من حولها من شخوص وكائنات، قد تربطها بهم بعض الصلات، وقد يكونوا قد مروا عابرين محملين بأرق المعاناة وموشومين بنار التجربة الحياتية التي فرضت وجودها على وعي المبدعة، سواءً من ذاكرتها البعيدة أو مخزونها الشفاهي من الحكي أو تفاعلها الإبداعي مع نماذج متعددة تدور في فلك المجتمع الكويتي في عهديه القريب والبعيد.
كما تدور في أغوار النفس البشرية والذات الأنثوية الساردة بطموح هتك ستر المسكوت عنه، والإطاحة به، طموحًا في معانقة الحلم، الذي يرتبط دوما بالليل والحكايات والأسرار، وفي متن هذه النصوص الخارجة من رحم الإحساس بالحياة ومعاناة الوجود بها، تشكل بها مشاعر وأحاسيس تتجسد على خلفية البيئة المكانية والنفسية التي تتناوب عليها عوامل عدة، وتيمات عدة، تساعد على إبراز أهم مميزات تلك العلاقات المتشابكة.
فالحكاية القديمة (شهرزاد) ما زالت تحكم قبضتها السردية، وتشعل جذوة الحكي في حفيداتها المبدعات، وتشغلهن دوما بكل ما هو جديد ومعاصر ومتسق مع البيئة كونه مكان دال، والزمان كونه خط طولي لا يقطع امتداده شيء، وبهذه العلاقة المتواشجة التي تفرض سمات كل مرحلة، وذلك مما يجعلها بالفعل أيقونة للسرد الكويتي بأعمالها المتعددة منذ بدايتها بقصة “امرأة في إناء” الصادرة في الكويت 1976، مرورا بأعمالها السردية التي كانت تثير جدلًا على مستويي الشكل والمضمون، والفكرة المؤطرة لذلك وصولا إلى كتابها الأحدث “ريشات من أجنحة السفر” 2019، والتي تؤكد زخم العلاقة بين الكاتبة وكل تلك الإشكاليات التي يفرضها الوجود بالحياة والمجتمع، والذات الأنثوية المفرطة الحس والتأثر بالواقع المحيط.
فتبدو العلاقة بين تيمات: الطفولة، والليل، والحلم، والانتظار على نحو من التشابك والتعقيد، لتنتج علاقات أساسية تتناولها هذه النصوص من خلال محاورها، وتتفاعل بها على نحو من التركيز، وباتكائها على شاعرية المعنى ورهافة تحول الحدث إلى علاقة ضمنية مع الحياة ومفرداتها الدالة عليها، من خلال تجسيد هذه الفعاليات وهذه الأنات الكونية المتمحورة حول قيمة الإنسان، والأنثى كمشتق من هذا المعنى الأكبر للحياة، ومن خلال لغة يتباين إيقاعها ويتداخل لتعطي مزيجاً من الشاعرية، والواقعية الصرفة المادية التي تطرح الحياة على وجوهها المتعددة، وبحيث يؤدي كل نص من النصوص دوراً مختلفاً في هذا السياق الضمني الذي يتفق إلى حد كبير مع التوجه إلى الكتابة الإنسانية التي تطرح الرؤية من خلال الواقع ومن منطلق التجاوز نحو الحلم الذي هو ثورة بقدر ما هو انطلاقة نحو الخيال، وهو الذي ربما وجدنا متجسدا في النموذج الذي نتعرض له من خلال بعض من نماذج قصصية لها.

المكان دالّ، ومؤسس:
تأتي الانطلاقة من وعي ذكرى الأنثى المرتبطة بالمكان، المضفر بالشحنة النفسية الإنسانية العميقة؛ حيث “يكون المكان –عادة– متحكمًا في حركة القصة وفاعلًا فيها، فهو يساهم في إظهار مشاعر الشخوص من خلال إيراد ما تتأملها أو تحلم بها من أماكن، أي أن حضور المكان في هذه الحالة هو معاضد لاستبطان الشخصية ومساهم بسماتها وإيحاءاتها في تقدم العمل، أو في التعبير عن أحاسيس الشخصيات ورؤاها” .
وكمعادل ضمني للحياة القديمة عبر أجواء المكان الذي يفرض وجوده كمكان ساحلي، مرتبط حتما بأجواء البحر والعمل به، وبعلاقة الاغتراب المادي والمعنوي، والاستلاب معه، من خلال نص “الطاسة” القادم من أغوار عالم قديم، والذي وفقت المختارات في تصديره لهذا الكتاب، كمدخل إلى عالم الكاتبة الإبداعي، وكمفتاح لفك شيفرة المكان والذات معا؛ ليؤطر لحالة من الشجن المترسب بالنفس، حيث تقول الراوية/ الحكاءة/ الساردة، بحس الطفولة الشفيف المراوغ الباحث عن عين من عيون الحقيقة المتدثرة في زوايا الماضي وسحر الطفولة بحكاياتها:
“استمر انحدارنا.. البحر حلم أزرق يمتد.. أمي ونحن خلفها كالبطات البيض.. تتقدمنا جدتي حاملة فوق رأسها ” بقشة ” الثياب، وبعض الحاجيات اللازمة لحمّام البحر، وتحت ذراعها اليسرى تدفن طاسة الحناء”
الطاسة/ مهر المرأة من زوجها المغترب، التي كانت تخضب بحنائها التي تعجنها فيها شعر بناتها وشعرها، تمثل هنا المعادل الموضوعي لحياة/ مستقبل المرأة/ الأسرة التي تعاني من غياب زوجها، وتحاول تجميل واقعها من خلالها، في مجتمع قديم يطل من الذاكرة البريئة، يضطر الرجل فيه إلى الاغتراب عن أهله، حيث يشدهم البحر بسحره، وبحاجتهم الماسة إليه كمصدر للاغتسال والتطهر من أدران الحياة، في مجتمع فقير، بالإضافة إلى غوايته أو غواية مصدر الرزق الوحيد والمتوارث.
“هو ذا البحر يعانق العين.. هو ذا الأزرق الذي نستفيق على موسيقاه الوالهة.. ونراقب من الأسطح سفنه.. وأشرعتها المبحرة مع الرياح.. ونشم عبير هوائه زفر الهامور والزبيدي، ورائحة جدي الذي رحل.. وأبي الذي حمل الزوادة.. وودعنا.. ليعود”
والبحر هنا أيضاً هو أحد المكونات الطبيعية الدالة على سمات المكان وبيئته، والذي تنعقد بينه وبين الساردة/ مجتمعها هذه العلاقة الحميمية/ المصيرية المتلازمة، والجدلية في ذات الوقت؛ ليطرح النص فكرة الارتباط بالمكان من خلال الذكرى التي لا تتخلى عنها النفس المرتبطة بمعنى المكان كوطن تركن إليه كل الأشواق والذكريات والأتراح، وتنطلق منه الأحلام، والصور المجازية والبلاغية، هو الذي أفنى الجد، وما زال الأب يجاهد فيه، لكنه ما زال مناط الغواية بسحره وديمومة جريانه الدالة على ديمومة الحياة والمعاناة والنزق معها:
“موجة.. موجة.. والبحر يرقص.. ونحن نتداعب ونتراشق بالماء.. وشعر أمي الطويل يتحنى بكفها خصلة.. خصلة.. والبحر غدار.. مخادع.. وأمي سعيدة بشعرها.. والبيض من تحتها دافئ والموج يصفع الرمل.. والرمل يصرخ.. وتنطلق صرخته.. لتحرك الطاسة المعدنية.. فتخرج من بين فخذيها كخروج الطفل من مخبئه، وتصرخ أمي: الطاسة.. الطاسة”
فالبحر أيضاً هو الذي سحب الطاسة/ المهر القديم/ الإرث/ المتاع الذي تحتاط به المرأة/ الأم في مواجهة أعباء الحياة، ليجلي النص مدى سطوة الاستلاب المادي الذي يتضافر مع الاستلاب المعنوي الذي أنتجته علاقة اغتراب عائل الأسرة عن بيته، لترصد ملمحًا من ملامح شائهة قديمة، تحكمها هذه العلاقة الجدلية مع الطبيعة والمحفورة في ذهن الذات الساردة أو المسرود عنها، حيث يتحقق للمكان هنا هذه السمة التي تجعل منه:
“وسيلة يقدم من خلالها جملة من الآراء الفكرية والإنسانية المرتبطة بالمجتمع الإنساني وشرائحه، منطلقا من رؤية وموقف ثابت لدي (القاص/ السارد)؛ لأن المكان هو الفسحة/ الحيز الذي يحتضن عمليات التفاعل بين الأنا والعالم، ومن خلاله نتكلم وعبره نرى العالم ونحكم على الآخر”
(2)
براعة الاستيهام، والاستلهام

“في النهار تتلون عيناها الطفلتان بلون الورد الأحمر كلما تلاقتا مع صورة الأم تحضن طفلها إلى صدرها. تلك اللوحة الجبارة بمعانيها التي لم تعرف معنى منها قط. تهزها اللوحة التي حفرتها أنامل أختها على الحائط المقابل، ولونتها بالفحم الأسود، وملأتها حناناً أمومياً هي لا تعرف كيف استطاعت أختها المحرومة أن تجسده في اللوحة، رغم أنها عانت الحرمان مثلها”
تأتي براعة الاستهلال في نص “لعبة في الليل” من خلال المشهدية الحزينة لتؤكد على علاقة الفتاة الصغيرة، الكاشفة المتسقة مع خصوصيات المكان كدال على الحالة المعنوية التي تدخل النص/ الفتاة في أجواء الحرمان الذي تطرحه العلاقة المتوترة مع الحياة من خلال معاناة الفتاة وشقيقتها من فقدان الأم، ومن خلال حالة الاستيهام التي تفرض وجودها على المخيلة، وهو ما نراه من خلال تجسيد اللوحة – ببراعة وجودها على خلفية النص – مأساة الفتاتين الحقيقية، وهي الشعور المر باليُتم، مع اختلاف زاوية التأثير لكل من الفتاتين، فالحرمان هنا أنتج من الشقيقة الأخرى فنانة، ولديها اختلفت المسألة لتقتصر على شفافية التلقي والتأثر الفطري. وتقنية الصورة بلا شك هي من وسائل التعبير التشكيلي التي تؤدي بسلاسة إلى إيصال المعنى المراد بإيجاز وبراعة من خلال مشهدية متحركة مع بداية النص، وفي متنه؛ لتتكامل الأحداث معها، مع اختلاف الحال أو نقيضه مما يحدث في الليل كمستودع للأسرار والآلام من جهة، وربما كمخبأ للممارسات الخفية من جهة أخرى:
“وفي الليل.. تسهد العينان الطفلتان.. تتلونان بلون الليل الأسود.. وجراح النهار الحمراء التي حمل بهما صفاء العين.. فينزف صامتا حين يهبط الجناح الرمادي على الأرض.. فتغفو كل العيون، إلا عينيها.”
بهذه المقابلة، وهذا التلاحق المكمل لعناصر الصورة والممهد لفعاليات الليل من خلال الخوف الذي يبثه النص/ المجتمع في صورة من صوره الدالة على سماته، في قلب الفتاة من خلال الاستعانة بالغيبيات أو الخرافة التي تبثها التيمة الشعبية، متمثلة في هذا المقام في (زائرة الليل) أو (الفزَّاعة) التي يُفزِع بها الكبار صغارهم حتى يناموا. وفي مفارقة عجيبة تحاول الصغيرة استدعاءها، ربما للخلاص من آلام الحاضر أو اللحظة الآنية الكاشفة لسر العذاب أو مصدره، ولتفتح بابا للتمني على أعتاب الإحساس المرير بالفقد:
“فلتأت الزائرة إذن.. ولتحملني إلى دنيا بعيدة مبهمة.. فمن يدري.. لعل زوجة أبي تكذب. إنها تكذب على أبي كثيراً.. فما الذي يمنعها من أن تكذب علىَّ؟ وتصور لي الزائرة بتلك الصورة.. وترعبني وهي تقول إنها ستأكلني.. لم لا تكون الزائرة حنوناً وتحب الأطفال”
هنا تتضافر عملية الاستيهام مع عملية الاستلهام التي تأتي بها الساردة من خلال الغيبيات التي تمثل موروثا شعبيا ساكنا في النفوس، ويعطي بعدا جديدا للحالة المتشابكة، ومن خلال هذا التساؤل المر المخلوط بالتمني والرجاء يفتح النص باباً للولوج إلى عالم الأسرار أو المسكوت عنه في خضم هذا الليل الذي يمثل ستاراً حديدياً، وفي نفس الوقت يمثل برزخا تنتقل عبره العلاقات المستورة نحو انكشافها ومن ثم كشف عورة المجتمع وسوءاته؛ فالليل تلك اللوحة البديعة التي يصر النص على إحيائها من خلال المشهدية الناعمة، في أكثر من موضع بالنص أيضا، بالرغم مما يحدث فيه من ممارسات للخوف وغيرها من قبيل المسكوت عنه، والمتوارث:
“النسمات تهب باردة رطبة.. تنذر بدخول الشتاء.. بعض الندى الخفيف يتقاطر.. وثمة ضباب يحجب ضوء القمر.. وعرائسه المدللات الطامعة بليلة عشق مع الرجل الأنيق”
هنا يبدو القمر، وسط كوكبة النجوم كرموز أنثوية، تبتغيه، كرمز ذكوري دال على تأصل رغبة كل مجتمع إلى من يعتلي قمته السلطوية، لكن هذه السلطة الذكورية تأتي هنا لتظهر علاقات السوء غير الشرعية المتوارية، في علاقة تلك المرأة التي تمثل حجر العثرة في طريق حياة الفتاتين اليتيمتين الآنية، بهذا الشبح الوهمي ذي الأجنحة المستعارة، الذي يتقمص دور زائرة الليل الأسطورية، والتي تشبع النص بأيديولوجية وجودها استنادًا إلى موروث شعبي يتصل باللا معقول، ويتعاطى الخرافة ليصل بها إلى توظيفها إلى حد التضليل والتدليس وتزييف الواقع، فالوهم الذي انطلق من هاجس خوف الفتاة يتجسد لها هنا ليصنع حقيقة موازية يلونها النص بلون براءتها المخدوعة:
“تدفع الباب بحذر وتقع عيناها على أجنحة السعف ملقاة على الأرض. يدور شيء في رأسها وهي تشاهد الساحر يشارك زوجة أبيها الفراش.. طنين هادر.. وسؤال يتجرأ ويلح:
ـ ترى! ما هذه اللعبة الليلية التي يمارسها الساحر مع زوجة أبيها!”
ليميط هذا السؤال ببراءته الفطرية، اللثام عن عورات المجتمع، بكشف المسكوت عنه في علاقة زوجة الأب بعشيقها، وكما يقول جاك دريدا: “الوهم أشد رسوخًا من الحقيقة”، حيث تكمن الإجابة دائما في تلك المناطق المحظورة المسكوت عنها التي تستلهم القصة حكاياتها، إلى جوار استيهامها للحالة النفسية والوجدانية للشخوص التي تعاني وهدة الوقوع في البيئة الحاكمة/ المكان

علاقات متوازية

في نص “اللبلابة”5، تبدو علاقة التماثل، أو الموازاة بين الأنثى المتطلعة إلى التواصل مع الحياة من خلال عنصرها الآخر/ الرجل من جهة، واللبلابة من جهة أخرى، على نحو من الاقتراب الشديد والتماهي الدال على حدس الأنثى المسرود عنها بتوحد المصير؛ فاللبلابة التي تتلاعب بها الرياح والصقيع تنبت إلى جوار نافذة تلك الأنثى السادرة في لملمة شتات حياتها الآنية، مع شتات ذكرياتها الحارقة:
“الريح تحاصرها، تنتفض كأنثى يطاردها مزاج رجل مجنون، تحاذي الزجاج تصفقه كمن تود اقتحام الغرفة بحثاً عن الدفء والأمان. أثارت اللبلابة المتأرجحة شفقتها، همست بسرها: “لا حماية لك داخل غرفتي لو كنت مكاني لعرفت كيف يكون للغرف المغلقة صقيعها الحارق”
من خلال همس الأنثى لذاتها، تبرز دلالات الوحدة والحيرة التي تنتاب الأنثى/ المسرود عنها، لينفتح النص على سيَّال ذكرياتها ومواقفها الشجية، مشتبكاً مع أحداث يومها العاصف، والممثل لنموذج من نماذج أيامها المتوالية، لكنه على أية حال يمثل الحالة الفارقة التي يستدعيها النص لتعميق رؤيته:
“أسدلت الستارة بوجه اللبلابة. تأهبت للخروج. دست كفيها داخل القفازين، تدثرت بمعطف المطر، اندفعت إلى السيارة، أدارت المحرك. كادت تنفلت بها. دغدغها صوته: “السيارة كالمرأة، لا تطاوع قبل أن تمتليء بالدفء والحنان”
هنا تتوازى المرأة وتتعادل مع السيارة كونها مرادف من مترادفات تسيير الحياة، فالنص هنا يؤنسن السيارة/ الجماد بوهبها سمات المرأة الأنثى/ الكائن الحي، ويلقي في ذات الوقت بسمات النقصان والعطب على المرأة بتجريدها من الحياة إن لم تحصل على الدفء. كما تتوازى قيمة الوقود المادي، مع قيمة الدفء المعنوي، ليعقد النص هذه العلاقة الجدلية التي تبرز إلى حد كبير ما آل إليه حال أنثى النص المعذبة.
كما يتدخل صوت آخر من الذاكرة، وهو صوت هذا الغائب الذي تستعيض به الشخصية عن خوائها كمؤنس لها، ومؤكد في نفس الآن على شعورها بالاغتراب، وفقد سبل الدفء، بفقد التواصل مع تلك الشخصية الغائبة، الحاضرة بشجون تداعي ذكرياتها على الوعي الذاتي للمسرود عنها. فهنا يتجه النص نحو تيمة استبطان المشاعر أو تجليتها من خلال تتابع الأصوات على ذهن الأنثى الواقع تحت تأثير هذا الاستلاب المعنوي، والذي ربما تخطى ذلك نحو فقدان التواصل مع سبل الحياة المادية المتمثلة في أجهزتها المنزلية الفارغة أو المتعطلة:
“استعجلت العامل، ابتسم وهو يجعر بصوته: “أنبوبة نظيفة كطلبك دائماً”.. فرت من ابتسامته، انتشرت غيمة سوداء، توقفت عند محل الكهرباء، سلمته خلاط العصير المعطل وتسلمت منه المكواة التي أصلحها. اشترت دزينات من اللمبات ذات المائة شمعة والستين شمعة. واصلت… “
لكن الاعتياد وفلسفة الحياة الغامضة التي تدفع إلى الابتعاد عنها، من جهة، ومحاولة الدنو منها مرة أخرى، تطرح نفسها للظهور على سطح حياة النص الذي يجعل من الكتابة نوعاً من الحنين إلى الذكريات، باستدعائها المتلفع بروحها التي تغلف حياة المسرود عنها بالاستعاضة بالروائح، كما سبقت بالأصوات، وبالملمس، وبالمذاق المعنوي المتمرد، الحالم بالعودة عبر أعطاف النفس المستوحشة لزمانها، ومحيط حركاتها المكبلة، على نحو:
“انتثر عطر البن، تمادى يوقظها حنينها لدرجة الغليان تذكرته ذلك النهار وهي تحدق بفنجانه تداعبه بقراءة خطه. تاقت لجنائن صدره بعثر المطر نشيده فوق سقف السيارة ستعود إلى البيت، تفتح رسالته تتذوق طعم شوقه تستحلب نشوة افتقدتها منذ غادرها آخر مرة”
تلك المؤثرات المعنوية/ الحواس التي تشعل في القلب والجسد حمى الحياة والأمل المتواصل بها، لا تني توقد حتى تقتلها المفارقة المنتظرة والمحتملة، وهاجس الارتباط باللبلابة، ليلقي النص بسوداويته على نفس المسرود عنها/ الأنثى التي تماهت نفسياً إلى درجة التمادي إلى التماهي المادي، مع مفارقة اللبلابة لحياتها حال عودتها إلى منزلها وسط فورة الطبيعة التي اقتلعت بهجتها المنتظرة:
“بحثت عن اللبلابة، دفعت نظرتها إلى الأسفل، رأتها متكومة كجثة. أحست الريح تفتح ثقوباً بكل عظامها فتتكسر بداخلها الأغصان. انتفضت، تهاوت إلى الأرض وأجهشت”
ليرصد هذا الالتباس مدى ارتباط الأنثى باللبلابة كمعادل موضوعي لحياتها، ومواز لها على طول السرد الذي تميز بحميميته العالية، وانصهار المشاعر والأحاسيس مع الصور البلاغية الدالة الرهيفة المكملة لعناصر إبداع نص مفارق. وكانتقاء لنصوص ربما مثلت أو عبرت عن مسيرة قصصية تعانق البعد الإنساني، وتتعامل معه بحميمية الارتباط بالمكان والوعي به حد التشرب، إيغالًا في عمق العلاقة الأزلية بينه وبين الزمان الذي يعطي مروره تاريخًا مجسدًا لهُويَّة المكان، وكذلك هُويَّة الكتابة غير المنفصلة عنه وعن إنسانيتها، وعن تكوينها المعرفي الذي يمدها بهذه الطاقة الشعورية والإبداعية التي أنتجت عددا ضخما من المجموعات القصصية والروايات، والسيرة الذاتية، وغيرها، بخلاف ما كتب عنها من مؤلفات مواكبة لهذا الزخم الإبداعي المتوهج، إلا أنها تقول في معرض حديثها عن سيرتها الذاتية: الأسى الذي عشت به خلق مني الكاتبة.. الألم يساعد على الإبداع”

الهوامش:

  1. خالد حسين خالد: شعرية المكان في الرواية الجديدة، كتاب الرياض، العدد (83)، 2000م، ص 60.
  2. من نصوص مجموعة “الحب له صور” – 1982.
  3. خالد حسين خالد: شعرية المكان في الرواية الجديدة، كتاب الرياض، العدد (83)، 2000م، ص 60.
  4. من نصوص مجموعة الحب له صور – 1982
  5. من نصوص مختارات “حلم غير قابل للكسر” – 2003 – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أدب العدد السابع والعشرون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد عطية محمود