“تتضمن الصحة العقلية استعادة كاملة للماضي”. هذا هو السطر الافتتاحي لفصل آرثر شوبنهاور “عن الجنون” في المجلد الثاني من رائعته ” العالم إرادةً وتمثلاً” (الطبعة الثانية، 1844). هذا زعمٌ مُثير للدهشة ومشكوك فيه، إذا ما نظرنا إليه على حده. من الواضح أن التذكر الجيد للماضي أمر مرغوب، لكن التذكر التام للماضي قد يكون أمراً غير صحي بطريقته الخاصة. فبعد كل شيء، أشياء كثيرة تستحق النسيان. وعلى أي حال، سواء كان الأمر مرغوبا أم لا، يجب أن يكون للصحة العقلية ما تتصف به أكثر من الاسترجاع التام للماضي.
إذن كيف توصل آرثر شوبنهاور إلى هذا الاستنتاج؟ وما الذي يعنيه حقاً؟
بدأت القصة عام 1811 وهو العام الذي بلغ فيه شوبنهاور 23 عاماً والتحق بجامعة برلين. وصل تحدوه آمال كبيرة في التعلم مباشرة من بعض أعظم فلاسفة ألمانيا الأحياء. لكنه سرعان ما أصيب بخيبة أمل. المحاضرات التي ألقاها المحترم يوهان غوتليب فيشته الوريث الزائف لإيمانويل كانت وصفها شوبنهاور بأنها روث.
أزعجته إحدى ملاحظات فيشته بشكل خاص. علّم فيشته، وفقاً لشوبنهاور، أنه في حين أن العبقرية إلهية، فإن “الجنون” حيواني بطبيعته. شك شوبنهاور في أن الأمر أكثر تعقيداً، وحتى أن العكس قد يكون صحيحاً: فبدلاً من أن يكونا متعارضين، ربما كان الجنون والعبقرية مرتبطين.
لإرضاء فضوله، قام شوبنهاور بشيء غير عادي بالنسبة لفيلسوف لكنه يتسق تماماً مع شخصيته: ذهب وألقى نظرة بنفسه. في شتاء 1812 زار شوبنهاور المقيمين في جناح الطب النفسي –أو “جناح الكآبة”- في مستشفى برلين شاريتي. وليس لمرة واحدة فقط. جعل الزيارة عادة منتظمة.
كان النزلاء الذين التقى بهم بائسين بالفعل، معطوبين ومستضعفين لكن، بالإذن من فيشته، لم يكونوا أقرب إلى الحيوان. كان بعضهم، في الواقع، قادراً تماماً على إشراك شوبنهاور في محادثات من شأنها أن تترك انطباعاً مديداً على تفكيره حول الصحة العقلية والمرض.
هذا لا يعني أن شوبنهاور تمكن من تجاوز كل افتراضات عصره.
بينما يُظهر السطر الافتتاحي ل “عن الجنون” أن شوبنهاور كان لديه مفهوماً عن الصحة العقلية (Gesundheit des Geistes)، فهو، بعد كل شيء، فصل عن موضوع الجنون ” Wahnsinn“ والخبل ” Verrücktheit“. بصرف النظر عن كونها فجة، وشاملة لكل المصطلحات التي تتضمن الذهان والاكتئاب والرهاب وصعوبات التعلم والخرَف وغير ذلك فهذه لغة محملة بتضمينات مهينة لا مكان لها في علم النفس اليوم. كلمتي “مجنون” و” ممسوس” استخدمتا في هذا المقال فقط لأن شوبنهاور استخدمهما. ومع ذلك، ونتيجة للبحث عن المعرفة المباشرة بالناس الذين عاشوا هذه الظروف، ابتعد شوبنهاور عن المقارنة الصريحة المُجرِدة للإنسانية التي ادعى أن فيشته قام بها.
ومع ذلك لم يدحض كل تفاعل أطروحة فيشته. كان هناك-على سبيل المثال- صبي “ضعيف الذهن” يبلغ من العمر 11عاماً قام شوبنهاور بزيارته مرات عدة في أحد الملاجئ. ظهر وصفه لهذه الزيارات لأول مرة في ورقة من الملاحظات المخطوطة المكتوبة عام 1814 لكنه نُشر في المجلد الأول من “العالم إرادةً وتمثلاً” (1818) على النحو التالي:
كان عقلانياً (بما أنه كان قادراً على التحدث والفهم)، ولكن كان لديه فهم أقل تطوراً من العديد من الحيوانات. في كل مرة أزوره فيها كان يحدق في نظارة أحادية “لعين واحدة” أرتديها حول رقبتي، كانت تعكس نوافذ الغرفة وذرى الأشجار بحيث بدت وكأنها خلف رقبتي. كان ينظر إلى هذا بمفاجأة وسعادة كبيرتين في كل مرة كنت هناك، كلما نظر إلى الزجاج بذهول ثابت: لم يستطع فهم السببية المباشر للانعكاس.
يضيف شوبنهاور في ملاحظاته أن الصبي الذي لم يكن قادراً على فهم أن الصورة ناتجة عن انعكاس، لم يستدر أبداً لينظر من النافذة ويرى الأشجار ذاتها.
عدّ شوبنهاور أن هذا الصبي ليس مجنوناً، بل مجرد “غبي”. الغباء، حسب شوبنهاور، هو فشل في فهم السببية –أو بعبارة أخرى، سبب وجود الأشياء. نظراً لأن بعض الحيوانات تُظهر فهماً للسببية (القليل منها قد يفهم سببية الانعكاس) فإن شوبنهاور يقوم بالمقارنة اللاإنسانية (المُجردة للإنسانية) نفسها التي انتقد فيشته من أجلها. لاحِظ أن شوبنهاور يأخذ قدرة الصبي على الكلام، وبالتالي قدرته على فهم المفاهيم، كدليل على أن الطفل كان -مع ذلك- عقلانياً.
على النقيض من “غباء” الصبي، الذي تصوره على أنه قدرة متخلفة على الفهم، فإن تصور شوبنهاور للجنون يتعلق بملكة العقل. مرة أخرى، لم يجد سبباً ليظن أن المجانين يفتقرون إلى هذه الملكة تماماً. بل على العكس من ذلك، فقد ظهروا في المحادثة “عقلانيين بشكل مذهل” في قدرتهم على التحدث، والفهم، والحكم، والاستنتاج. بدلاً من ذلك، يتساءل في ملاحظاته: “ألا يمكن أن يتألف الجنون من فقدان الإرادة السببية المتعلقة بالإدراك؟ وبالتالي ألا يمكن أن يكون الجنون مجرد تشويش للذاكرة؟
بعبارة أخرى، يبدو أن الأشخاص المجانين، تبعاً لتجربة شوبنهاور، لم يفقدوا العقل نفسه، وإنما السيطرة المتعمدة على العقل. كانوا قادرين تماماً على امتلاك الأفكار المجردة وتمريرها، خاصة استجابة لمحيطهم الحالي، لكنهم جاهدوا لاستدعاء هذه الأفكار أو التخلص منها حسب الرغبة.
قد يكون من الغريب أن يحدد شوبنهاور هذه السيطرة العامة على أفكارنا بالذاكرة على وجه التحديد. ما كان يعنيه، أن هذا الافتقار إلى السيطرة قوّض قدرة الأشخاص المجانين على استخدام تجربتهم السابقة للتأثير على تفكيرهم الحالي.
لكن القصة لا تنتهي هنا. غيّر شوبنهاور رأيه مرة أخرى رداً على ملاحظاته. في ملاحظات من عام 1816 –قبل عامين من نشر المجلد الأول من العالم إرادةً وتمثلاً- يكتب “ظننتُ لوقت طويل أن الجنون هو في الحقيقة مرض يصيب الذاكرة، ليس الأمر على هذا النحو؛ لأن العديد من المجانين لديهم ذكريات جيدة. لم يستطع ببساطة أن ينكر أن بعض الأشخاص المجانين يمكنهم التحكم في توارد أفكارهم بإرادتهم.
وجهة النظر المدروسة التي توصل إليها شوبنهاور أخيراً، وجهة النظر الموجودة في المجلدات المبكرة والمتأخرة من أعماله المنشورة بالإضافة إلى ملاحظاته، هي تعديل لنظريته القائمة على الذاكرة، بدلاً من التخلي عنها أو عكسها. يستقر على وجهة النظر بأن الجنون هو “خيط الذاكرة الممزق”.
وفقاً لوجهة النظر هذه، يستطيع المجانين جلب أفكار التجربة الماضية للتأثير على تفكيرهم الحالي لكن محتويات هذه الأفكار، وفقاً لشوبنهاور، غالباً ما تُحرّف تجربتهم الماضية. وجد أن أفكار المجانين تحتوي على فجوات، أو شواش أو حتى قصص عن تاريخهم الشخصي. يقول شوبنهاور “من الصعب جداً سؤال مجنون عن حياته السابقة” إذ “يمتزج الصواب والخطأ بشكل متزايد في ذاكرته”.
خمن شوبنهاور بشأن تمزق خيط الذاكرة بهذه الطريقة. يدور تفسيره حول عدم رغبتنا في ارتكاب تجارب مؤلمة وعنيفة على الذاكرة. عدم الرغبة هذا أمر طبيعي تماماً، فعملية استيعاب التجارب السلبية ليست سهلة وخالية من الألم لأي شخص. لكن هذه العملية مؤلمة للغاية بالنسبة للبعض الآخر بحيث لا يمكن الاضطلاع بها على الإطلاق، لذا فهم بدلاً من ذلك يرفضون ويقاومون تلك الذكريات، الأمر الذي يترك ثغرات كبيرة في ذاكرتهم، أو أنهم يملئونها بالتخيلات.
لم يقدم الكثير من التفاصيل حول أنواع التجارب المؤلمة التي قد تعجل من الجنون، لكن الأمثلة القليلة التي قدمها شوبنهاور تشير إلى أنها يمكن أن تكون من أي نوع تقريباً. يُظهر أحد الأمثلة إلى أي حد يمكن أن يكون الألم خفيفاً: “أتذكر شخصاً في غرفة المجانين، كان جندياً وأصيب بالجنون لأن الضابط خاطبه بصيغة الغائب “(ie, ‘er’، شكل من أشكال الخطاب المستخدم للأقل شأناً). على الطرف الآخر من الطيف، يُقدم شوبنهاور مثالاً خيالياً لعلاقة حب محكوم عليها بالفشل لا يمكن أن تنتهي إلا بانتحار مزدوج “فكر في روميو وجولييت”، إلى أن تنقذ الطبيعة الحياة من خلال السماح للجنون بالظهور، الجنون الذي يلقي بحجابه على وعي تلك الحالة الميؤوس منها”. في مثل هذه الحالات، فإن الانحدار إلى الجنون يقبض علينا قبل أن تدفعنا عواطفنا المؤلمة إلى تدمير الذات.
من أجل الحفاظ على الذات، لا يكون خيط الذاكرة حينها ممزقاً بقدر ما يكون مقطوعاً. يبدو شوبنهاور هنا سابقاً لعصره، كاتباً نظرية الكبت قبل عقود من سيجموند فرويد. وبالفعل يُنبئ شوبنهاور بنظرية فرويد عندما يقول: “إذا تم كبت أحداث أو ظروف معينة بالكامل من العقل لأن الإرادة لا تستطيع تحمل رؤيتها، وإذا ما تم ترقيع الفجوة التي تنشأ بعد ذلك ببعض الاختلافات بسبب من الحاجة إلى الترابط المنطقي، فهذا هو الجنون”.
على الرغم من رؤيويتها، إلا أن نظرية شوبنهاور لا تخلو من النقاط العمياء الخاصة بها. خلال تطورها، كانت تكتسب تركيزاً ضيقاً على التفكير المضطرب، والتي يصوغها “أي النظرية” في مكانين بعبارة بسيطة ” الجنون يحرّف الأفكار”. يغض الطرف عن الخبرات أو السلوكيات التي كان يمكن أن يُعرِّف الجنون بها لولا ذلك. يزعم أن التشوهات الإدراكية مثل الرؤى والهلوسات ما هي إلا تجليات للأمراض الجسدية وليست اضطرابات نفسية بالمعنى الدقيق للكلمة. يمكن العثور عليها لدى المجانين، لكنها عرضية لجنونهم. يعترف بالغضب والهوس والحنق والمسّ على أنها أنواع من الجنون، ولكن ليعلل ذلك عليه أن يخرج عن نظريته المستندة إلى الذاكرة، بدلاً من ذلك يجادل بأن الإرادة في هذه الحالات قد احتلت الإدراك تماماً لتصبح “قوة طبيعية قوية مطلقة”.
ليس من الصعب أن نفهم لماذا بدأ شوبنهاور يعدّ ما يسميه الجنون على أنه ما يمكن أن نسيمه اضطراباً إدراكياً بالنظر إلى طريقته في التحقيق. إذ تشكلت نظريته من خلال مقابلة أشخاص يعيشون هذه الحالة والتحدث معهم بشكل مثالي. يجب أن تكون الملكات المعرفية للأشخاص الذين التقى بهم سليمة بما يكفي لجعل ذلك ممكناً، ومع ذلك مختلة بما يكفي (في بعض الأحيان) لتضمن لهم العيش حيث وجدهم، في المستشفيات والمصحات. مع استمرار المحادثات وبروز تفكيرهم المضطرب، سيكون من الطبيعي أن نستنتج أن هذا هو المكان الذي تنشأ فيه مشاكلهم.
كيف يمكن أن يكون كلً هذا توبيخاً لأطروحة فيشته القائلة بأن الجنون بهيمي والعبقرية إلهية؟ يدّعي شوبنهاور أنه لاحظ عكس ذلك: “في زياراتي المتكررة إلى المصح وجدتُ أفراداً يتمتعون بمواهب رائعة لا لبس فيها، وكانت عبقريتهم واضحة للعيّان من خلال جنونهم”. يشير غالباً إلى أن العبقرية والجنون يشتركان بالاستغراق في اللحظة الحالية، على الرغم من أن هذا يحدث في حالة الجنون بسبب خيط الذاكرة الممزق في حين أنه في العبقرية هو القدرة الاستثنائية على إدراك الجوهر السرمدي للأشياء بدلاً من المظاهر المؤقتة.
ومع ذلك، لا يقدم شوبنهاور أي تفاصيل محددة حول علامات العبقرية التي لاحظها. ويلجأ بدلاً من ذلك إلى أمثلة خيالية عن البصيرة المجنونة مثل الملك لير وأوفيليا؛ “لأن إبداعات العبقرية الأصيلة، حقيقة تماماً مثل الأشخاص الحقيقين”.
للعثور على الإنسانية التي تنجو من الجنون، يجب أن نبحث في مكان آخر في تحقيق شوبنهاور. لم يشك في أي مرحلة من المراحل في النتيجة التي توصل إليها منذ عام 1814: “في كثير من الأحيان، عندما أراقب المجانين لا أجد أن ملكة العقل لديهم أو فهمهم بائسين، على الأقل من كل ما يعانيه أفضل ما في الإنسان”. لم يفقد الناس الذين التقاهم شوبنهاور الملكات التي جعلتهم بشراً. وبدلاً من ذلك، خلص إلى أنهم توقفوا عن استخدام هذه الملكات ليتذكروا خبراتهم السابقة. لقد فقدوا أنفسهم، وبفقدانهم أنفسهم فقدوا قبضتهم على الواقع في الماضي والحاضر والمستقبل.
على النقيض من ذلك، فإن الذاكرة الموثوقة لماضي المرء هي “الذكريات المثالية ” التي تتكون منها الصحة العقلية – ليس أن تتذكر كل شيء بالطبع، ولكن أن تتذكر من أنت.
- ديفيد باثر وودس، زميل تدريس أول في قسم الفلسفة بجامعة وارويك في كوفنتري بالمملكة المتحدة.
- رابط المقال: https://psyche.co/ideas/what-arthur-schopenhauer-learned-about-genius-at-the-asylum.
- ترجمة: أزدشير سليمان.