حوار مع الروائي والقاصّ السعودي ناصر سالم الجاسم
حاوره: محمد الإدريسي
يعيش الحقل الأدبي السعودية طفرة حقيقية في الإنتاج الروائي على حد تعبير الناقدة السعودية سلوى الميمان. أسهمت التحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي مر بها المجتمع السعودي خلال العقود الثلاثة الأخيرة في فتح المجال أمام الكتاب والروائيين لخلق دينامية إبداعية بالمجال التداولي المحلي، كما وكيفا. تبعا لذلك، بدأت القصة القصيرة السعودية هي الأخرى تجذب اهتمام الكتاب والقرّاء والنقاد بالخليج العربي كما باقي الدول العربية خلال العقد الأخير بفعل انتقال المركزيات الثقافية العربية من محور بيروت-دمشق- القاهرة نحو عواصم دول الخليج العربي. من أهم الأسماء البارزة في الحقل القصصي السعودي المعاصر، نجد الأستاذ ناصر سالم الجاسم. من بين أهم أعماله القصصية: النوم في الماء، العبور، الموت في المدينة، العدو بالأيدي، الثائرة، النور الأسود، هكذا يزهر الحب، وغيرها.
نستقبل الأستاذ ناصر سالم الجاسم للحديث عن وضع القصة القصيرة السعودية المعاصرة في سياق انتقال المركزيات الثقافية بالعالم العربي.
- بدءًا نرحب بك أستاذ ناصر الجاسم في هذا الحوار. كقاص وباحث في القصة القصيرة، كيف تقيم وضع الإبداع القصصي بالسعودية خلال السنوات الأخيرة؟
الكتابة السردية لدينا إجمالاً في الأيام الأخيرة تنمو رأسياً باجتهادات فردية يقوم بها محبون للسرد بالفطرة، أو مغامرون سرديون إن صحّ التعبير، وهي تأتي على أشكال ثلاثة، الشكل الأول: فئة تمارس الكتابة السردية من خلال تعلمها في الصفوف الدراسية بشكل نظري وتطبيقي، أو تعلّمها عن بعد عن طريق دروس الإنترنت، وهي الفئة الظاهرة على السطح أو الغالبة. والشكل الثاني: فئة اتخذت مبدأ التعلم عن طريق المحاكاة والتقليد الذاتي بالقراءة لأعلام ورموز الكتابة القصصية والروائية في العالم، والميل بشكل واضح نحو أدباء أمريكا اللاتينية وأدباء القارة السوداء ونحو الفائزين بجائزة نوبل والبوكر والروائيين الجدد من الصين والهند وكوريا واليابان، مع تراجع الرغبة في محاكاة كتّاب العرب البارزين كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وأدباء الروس البارزين كتشيخوف وتولستوي ودوستويفسكي وغيرهم.
والشكل الثالث: مَن بقي من كتّاب الجيل القديم وكتّاب السبعينيات حتى نهاية التسعينيات، منهم من توقف عن الكتابة القصصية وتحول إلى الرواية، ومنهم من ظل يمارس الكتابة القصصية على وضعه السابق نفسه من دون تغيير في مستواه الفني، ومنهم من جدد في كتابته القصصية وتقاناته السردية وزاوج بين كتابة القصة والرواية وربما المسرح أيضاً.
وقد ظهر في العقد الأخير ما يعرف بالورش القصصية التي تقام في أكثر من جهة أدبية أو تعليمية وفي الكليات الجامعية، ولكن مع كل ذلك بقي أمر ظهور الكاتب العبقري شحيحاً، فعندنا تقريباً في كل عشر سنوات يظهر كاتب مبدع أو كاتبة مبدعة في القصة القصيرة تحديداً.
- – ارتبط تطور الإبداع القصصي بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عايشها المجتمع السعودي خلال العقود الثلاثة الأخيرة. إلى أي حد يمكن القول بأن القاص صوت مجتمعه؟
هذا القول يبدو أنه من الصعب أن ينسجم مع واقع الإبداع القصصي السردي في المملكة العربية السعودية الصادر في المرحلة التي سبقت عام 2017 ذلك أن الإبداع القصصي الذي أنتج في المرحلة السابقة لم يكن مشاكلاً ولا متماهياً ولا عاكساً لحقيقة الواقع الاجتماعي المعيش، يمكن وصفه في بعض منه بأنه كاذب، خاصة الذي قدّم شخصية الفتاة السعودية والفتى السعودي في وضع ملائكي أو سامٍ عن الرذائل والنواقص البشرية أو الأخطاء، يمكن وصفه بأنه كان قصاً مدرسياً وعظياً أخلاقياً لأن غايته إظهار الفضيلة فقط وقبر الرذيلة، ولو قلنا إنه قصّ بارد لا حرارة فيه لربما جاز الوصف أيضاً، هو يمثّل واقعنا بنسبة محدودة منه ولكنه مثلاً ليس كالقصّ في مصر حيث المشاكلة للحياة الواقعية 100%، فكان جلّ كتابنا يخافون خط الرقابة ويؤثرون السكوت والصمت عن كثير من الإشكاليات المجتمعية، ولا يعني هذا الرأي أنه كان يوجد من قدّم سرداً طبيعياً واقعياً بامتياز، ولكنهم قليل جداً.
- ضمن مراحل تطور القصة القصيرة السعودية، نجد ذلك الارتهان السردي بانشباك وتعقيد العلاقات الاجتماعية بالمدينة والعالم الحضري. هل بالإمكان الحديث عن طابع حضري للقصة القصيرة السعودية، مقارنة بالرواية التي ارتبطت بداياتها بالقرية؟
نعم يمكن ذلك، فالمملكة العربية السعودية وطن ذو بيئات متعددة ومتنوعة، والثورة السردية القصصية والروائية كائنة ومتحققة لدينا في كل البيئات، فلم تعد بيئة الحجاز هي البيئة الأدبية الوحيدة في السعودية، فقد كان ذلك في زمن مضى منذ مدة بعيدة، وبعد هذه البيئة قد ظهرت ثلاث بيئات أدبية جديدة وإن لم يكن ظهورها في وقت زمني واحد، وأعني بذلك بيئة الأحساء الأدبية وبيئة وسط المملكة العربية السعودية (نجد) وبيئة المنطقة الجنوبية، وقد كان طابع السرد في هذه البيئات الجديدة في أوله ريفياً قروياً زراعياً، ويظهر ذلك بجلاء عند كتّاب القصة القصيرة في المنطقة الجنوبية، ولكن تجد القصة القصيرة المدنية الحديثة التي تقدّم واقع المدينة الجديدة ماثلة بجلاء عند كتاب القصة القصيرة لدى عموم الكتّاب في الوطن منذ بداية الثمانينيات الميلادية حتى اليوم.
- – في العديد من أعمالك القصصية (الثائرة، النوم في الماء، العبور…)، نجد حضورا قويا للقضايا الاجتماعية الراهنة (المرأة، الألم، الذات والآخر، الحرية، المدينة…) كمحرك أساس للعملية الإبداعية. كروائي وقاص مخضرم، هل تواكب السرديات الإبداعية لناصر الجاسم التحولات الاجتماعية والقيمية بالمجتمع السعودي؟ وهل يجد فيها إلهامه الإبداعي؟
لو تحدثت عن كتاباتي كناقد لها وكباحث وفاحص عن مضامين القصّ والرويّ فيها لقلت لك بفخر وبثقة عريضة نعم، فأنا قارئ جيد لمجتمعي ومتأمل كبير لأنماط شخصياته ومتماسّ مع بيئاته المتنوعة ومستوعب بشكل حاد للتحولات السريعة التي مرّ بها منذ أواخر السبعينيات الميلادية حتى اللحظة، فالإنسان السعودي والمكان والزمان السعوديان كل ذلك حاضر في وجداني، أكتب وهو رهن استدعائي له.
- نعيش خلال السنوات الأخيرة انتقالا في المركزيات الثقافية العربية من محور بيروت-دمشق-القاهرة نحو عواصم دول الخليج العربي. ما موقع القصة القصيرة ضمن سيرورة هذا الانتقال؟
القصة القصيرة تبدو حسب سؤالك هذا ككائن حي يتأثر بالحياة من حوله، أو بالمحيط الذي يعيش فيه، وهي فعلاً كذلك، فمثلما نرى الطيور تهرب من صقيع سيبيريا في أشهر الشتاء مهاجرة إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، ونرى كذلك العمال المغاربة وكذا الأفارقة يهاجرون نحو الغرب الأوروبي بحثاً عن وضع معيشي أفضل، ومثلهم أيضاً كثير من الآسيويين كشعب الهند وباكستان وبنجلاديش والفلبين يقصدون دول الخليج من أجل الحصول على الثراء؛ إذن فالمال والاستقرار يوفّران المناخ الجيد للحياة إجمالاً وليس للإبداع فقط، ودول الخليج وفّرت خلال الستين سنة الماضية البيئة المثال لصناعة الإنسان المنتج حيث التعليم الجيد والعيش الكريم والنأي عن النزاعات السياسية والداخلية قدر المستطاع فكان نتيجة لذلك أن جاءت المخرجات مبشرة برفاهية في الفكر وفي الثقافة وفي المواهب الأدبية بفعل النشاط القرائي المنظم والمحاكاة المستمرة وغير المنقطعة مع دول المركز العربي (القاهرة، بيروت، دمشق) ومراكز الإشعاع الأوروبي والأمريكي أيضاً فحدث التحوّل الطبيعي في التبدل من كونها دول هامش إلى أن تكون دول متن، ومع ذلك ظلّ إنسان معين كالإنسان العراقي هو الأكثر قراءة والأكثر إبداعاً وإنتاجاً في الشعر وفي السرد، وظلّ أخوه الإنسان المغربي أكثر تفوقاً من أخيه المثقف العربي في كل مكان في ممارسة النقد، وبالرغم من ذلك تبقى الأولويات التي حققها السعوديون أو الخليجيون على مستوى فن السرد طبيعية ومستحقة؛ لأن العقل الإنساني من وجهة نظري واحد لا فرق بين عقل وآخر، سواء شرقي أو غربي، عربي أو أعجمي، وإنما المعوّل عليه هو أن المدخلات الجيدة لهذا العقل تعطي مخرجات جيدة، وأن هذا العقل يتأثر وكذا القلب معه بالبيئة التي يكون فيها.
- برأيك، كيف يمكن للحلقات النقاشية، المعارض والجوائز الأدبية أن تسهم في تطوير الممارسة القصصية المحلية؟
هي تطور حركة الكتابة القصصية في المجتمعات ككل وبشكل أفقي عادة، لكن على المستوى الرأسي الفردي فلا يطور الفرد إلا اهتمامه بنفسه وتعبه على ذاته المبدعة بالتغذية القرائية الجيدة وبتأسيس الوعي النقدي الذي يرفد موهبته ويحسن من أدائه الكتابي.
- تبعا للتحولات الاجتماعية بالمجتمع السعودي، أي موقع للمرأة ضمن نسق الإبداع القصصي؟
موقع الكتابة القصصية النسائية في المملكة العربية السعودية مضطرب أشد الاضطراب ولا يمكن أن نخضعه لمنحنى إحصائي، أو نراقب حركة التغيير فيه على مدى زمني بعيد، وسبب هذا الرأي أنه يوجد لدينا ظاهرة المرأة الكاتبة صاحبة القصة القصيرة الواحدة، كذلك يوجد لدينا المرأة الكاتبة صاحبة المجموعة القصصية الواحدة، ويوجد لدينا أيضا ظاهرة المرأة التي تكتب قبل الزواج وتتوقف بعد الزواج، ويوجد لدينا المرأة الكاتبة المشكوك في أنها هي من كتبت مجموعتها القصصية أو روايتها، ويوجد لدينا مجاملة كبيرة من قبل المشرفين على الملاحق الثقافية الأدبية ومن قبل المؤسسات الثقافية كالأندية الأدبية ومن قبل النقاد للمرأة الكاتبة، فهناك من تُعطَى لقب “قاصّة موهوبة” وهي ليست موهوبة في الأصل إنما يمكن أن تكون قاصة فقط، ويحدث ذلك من باب التشجيع لهن ومن باب تكوين تاريخ للكتابة السردية النسائية في السعودية، وكل ذلك طبيعي في مجتمع كان يقمع المرأة الكاتبة ولا يزال جزء منه يفعل ذلك أيضاً، وللأسف أن هذه الظاهرة- ظاهرة الرقم واحد في تاريخ المرأة الكاتبة- لم تقتصر على المحاولات القصصية فقط بل امتدّت لتسم أيضاً كاتبات الرواية، لذلك يصعب جداً أن ننظر إلى الإبداع النسائي القصصي نظرة واحدة، ولدينا في الوطن مع كل ما قلت عدد لا بأس به من القاصات المجيدات والروائيات المتمكنات اللاتي نفخر بهن.
- كيف ترى دور التقانة والرقمنة في تكسير المسافة بين القاص والقارئ وتعزيز حضور القصة القصيرة ضمن الذوق الأدبي العربي العام؟
إنها تحقق صداقات إبداعية مهمة للغاية، وتتيح فضاءً واسعاً جداً للانتشار، وتساهم في إعطاء من لا يأخذ حقه الإبداعي أو الأدبي في وطنه من قبل نقاده ومؤسساته الرسمية الفرصة لأن يحصل عليه بشكل أكثر حضارة ورقياً من نقاد أحرار أو مؤسسات محايدة.