“إن المساهمة العلمية في تصحيح تاريخ فلسطين القديم وتخليصه من الهرطقات والأحداث الاستشرافية الزائفة، يصبح اليوم واجبا أخلاقيا ويتوجب توسيع نطاق الاهتمام به، ذلك أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق دون تحرير صورتها التاريخية من الأوهام والمختلفات الأوربية”
تلك هي أحد فقرات كتاب المفكر العراقي فاضل الربيعي، القدس ليست أورشليم. وهي بالضبط الفكرة التي من أجلها كرّس مشروعه في إثبات وبشكل علمي جغرافيا وتاريخيا ولغويا الخطأ والتزييف والتحريف والتدليس عن عمد، لجغرافيا المنطقة وتاريخها لصالح الاحتلال الصهيوني المعاصر.
في الحقيقة الموضوع كبير ومتشعب مما استدعى من الربيعى تكريس عمرا من البحث فيه، وأفراد كتبا كثيرة للتحدث عنه. فهو بمثابة مشروع وليس مجرد كتابة موضوع.
قدس التوراة ليست قدسنا
أهم وأول ما جاء في هذا الكتاب هي الفكرة التي يراها “فاضل الربيعى” مسّلمة حتى يأتي من يرفضها بالأدلة على نقضها، وهي فكرة أن القدس الموصوفة في التوراة، وطبقا للنص العبري لا علاقة لها بالقدس الحديثة إطلاقا.
فالقدس ليست أورشليم كما يزعم المستشرقين، وقد ساق الربيعى البراهين على ذلك، وأثبت بالبحث التاريخي والزيارات الميدانية على أرض الواقع أن كل ما أشير إليه في التوراة من حوادث لم تحدث على أرض فلسطين على الإطلاق، بل هي أحداث ومعارك وجغرافيا، لاتزال حتى الأن، قائمة في اليمن.
اليمن القديم وليس فلسطين
لا يوجد بالتوراة قط ما يقول إن “قدس” هو أورشليم، بل أن التوراة تتحدث عن مكانين الأول “أورشليم” وهي مدينة دينية وثنية. والثاني قدس/قدش، وهو جبل.
وهذا الجبل لا يوجد في فلسطين، ولا يوجد وثيقة أو مخلفات تاريخية أو أيٍ مما يدل على أن القدس المدينة العربية، هي نفسها القدس التي تقصدها التوراة. بل أن كل الوصف الجغرافي ينطبق على المنطقة الممتدة من وادي الرمة حتى جنوب مدينة تعز اليمنية.
وهذا ما أثبته الربيعى بعدما ترجم النص العبراني للعربية واستند في اثبات جغرافيا المكان على ما ذكره المؤرخ اليهودي القديم “الحسن بن أحمد أبو يعقوب الهمداني” وتحديدًا كتابه “وصفة جزيرة العرب” وهو المرجع الرئيسي في الكتاب، والذي قال إن جبل قدس/قدش، هو الجبل الواقع جنوب مدينة تعز اليمنية.
ثم تناول الكاتب لإثبات أن الجغرافيا المذكورة في التوراة هي جغرافيا اليمن وليس فلسطين، مسألة إعادة الإعمار بعد الانتهاء من السبي البابلى وتحرير الفرس لليهود وإعادتهم إلى منازلهم (مناطقهم) منها تلك المنطقة والتي يقع فيها الأثر التاريخي (السور) سور أورشليم، الذي رممته القبائل العربية من سراة اليمن، وتنافس بعضهم في إعادة الترميم.
وفيه استنادا على (وصفة جزيرة العرب للهمدانى) والذي ذكر موضع كل قبيلة بالضبط وما شاركت فيه من اعادة بناء منازلهم القديمة والتي تقع بجوار أو بين جبال عدة مناطق ليس لها وجود في فلسطين، بل في صنعاء وأبين ومأرب وغيرها من المناطق التي ما تزال حتى الآن بالاسم نفسه، بل وبعض القبائل تنتسب جذورها لبعض القبائل المذكورة في تاريخ الهمداني والتوراة.
من هذه القبائل العربية التي شاركت في بناء السور ووردت في النص العبري (المرء، وشنوب/شنؤب القبيلة اليمنية الشهيرة من قبائل الأزد. وقبيلة حور، والوحش) اشتركوا في بناء مدينة السلام أو الأورشليم من السور الذي أبتدأ من جبل الغنيم إلى الغرب من صعدة، كما ذكر الربيعى مما استمده من كتاب الهمداني.
جبل صهيون أيضا وما يدّعون أنه يقود لأورشليم ليس في فلسطين على الإطلاق وإن كان موجود، فأين هو؟ فلا يعقل أن يزول جبل من جغرافيا مكان أو ينسي اسمه بهذا الشكل بينما ما تزال بعض المخطوطات قائمة.
أيضا أسماء القبائل العربية التي أتخمت بها التوراة تُعد دليلا إضافيا على التزييف فبالبحث عنها لم يُعثر على أي اسم من أسماء القبائل العربية التي ذكرتها التوراة في أي منطقة من فلسطين الحديثة، بل هي يمنية الأصل وما يزال بعضها قائما حتى الآن، وذلك أيضا استنادا على أسماء القبائل التي ذكرها الهمداني في كتابه وتطابقت مع ما ذكر في التوراة، وصدّقها ووثقها شعراء العصر الجاهلي كأمرؤ القيس، في قصائدهم ومعلقاتهم. وكلها كانت في أرض اليمن.
أيضا مما يدل على التزييف الصهيوني الحديث للجغرافيا هي الاحتلال الروماني لبلاد العرب، ففي الحقبة التي تصفها التوراة كانت الإمبراطورية الرومانية تتوسع في الجزيرة العربية لضرب نفوذ الفرس عدوهم الأكبر حينذاك، ودارت معارك كثيرة وصفتها التوراة ووصفها الهمداني أيضا٬ بين القبائل العربية اليهودية في اليمن بقيادة الملك “يهوذا المكابي” وبين جيوش الامبراطورية الرومانية. وحينها لم تنصع تلك القبائل اليهودية من اليمنين لرغبة الرومان في الانضواء تحت لوائهم لأسباب منها: امتنانهم للفرس بعد التحرر على أيديهم من السبي البابلي، وأيضا كانت قبائل مستقلة ترفض هذه الاحتلال.
وكل المعارك التي وُصفت في التوراة وتاريخ الهمداني دارت على أرض يمنية، والدليل على ذلك أن الرومان لم يكونوا بحاجة لمعارك في بلاد الشام، من ضمنها المدينة الفلسطينية الحديثة، لأنها كانت بالفعل تحت سيطرتها بالإضافة إلى مصر.
تدليس في الترجمة لتزيف الجغرافيا والتاريخ.
بنو إسرائيل هم قبائل اليمن القديم، سكان فلسطين هم أحد قبائل بلاد الشام القديمة. لا وجود لشعب كنعان إلا في اليمن، الكنعانيون في كل السجلات السبأية والأشورية هم سكان “حوز بيحان”. هذا تماما ما أكد عليه “الربيعي” وأثبت به زيف ما آتت به المرويات اليهودية المعاصرة.
هكذا وكما أعتاد المؤرخ العراقي “فاضل الربيعي” نسف النظريات التاريخية المتوارثة، ينقل مسرح أحداث التوراة من أرض فلسطين الحديثة كما هو مزعوم إلى أرض اليمن القديمة. مستعينا في ذلك بإثباتات تزيف التاريخ والجغرافيا التي بدأت من عصر الاحتلال الروماني واتخذوا من تزييف الترجمة وسيلة لهذا التدليس. فكانوا، حسب قوله، يترجمون “فلشتيم” وهي قبيلة يمنية وثنية، إلى فلسطين.
يختتم “فاضل الربيعي، كتابه القدس ليست أورشليم” بتأكيده على ضرورة العمل على شطب عصر بأكمله نُسب خطأ إلى فلسطين وذلك استنادا على كل الأدلة التي جاء بها وإعادة تفنيد التاريخ، تاريخ المنطقة عامة وتاريخ فلسطين خاصة، وأن يعاد وضعه بأمانة.
لكن هل ونحن في غُمرة أحداث تطبيق ما يعرف “بصفقة القرن” ولو تخيلنا أمرا بشكل فنتازي٬ وعلى حسب نظريات الربيعي، هل إذا اعتنق الصهاينة نظرية الربيعي وسلموا بصحتها وتخلوا عن تاريخهم المزعوم في أرض الاحتلال الحالية، هل سنراهم في القادم يذهبون لاحتلال اليمن؟