تفاقم اللامساواة في العالم

مقدمة:

يسعى التقرير الجديد الصادر عن المنظمة العالمية للامساواة المكون من 230 صفحة باللغة الإنجليزية؛ لتوضيح أهمية البيانات وتدفقها الحُر لبناء معرفة متماسكة، وواضحة، قادرة على تلمس الإشكاليات التي يواجهها العالم يوما بعد يوم. كما يسعى التقرير لرسم صورة، مهما كانت قاتمة، عن اللامساواة في الثروات الخاصة والعامة، وتوزيعها الذي يعتمد على عوامل كثيرة، من بينها العامل العرقي، الجندري، والمحيط البيئي.

يناقش هذا التقرير الكيفية التي يجب أن توزع الدول الدخل الذي تجنيه من خلال السكان في جميع أنحاء العالم، والتي أصبحت مصدر نقاش ساخن في الفترة الأخيرة. كما يطرح أسئلة من قبيل: هل النمو الاقتصادي موزع بشكل عادل؟ هل شبكة الأمان الاجتماعي واسعة وعميقة بدرجة كافية؟ هل تستطيع البلدان ذات الدخل المنخفض اللحاق بالبلدان الأغنى؟ هل التفاوتات العرقية والجندرية من الممكن أن تتلاشى؟

تقدم هذه الورقة تصورا ً مختصرا ً عن هذا التقرير، ليس بسبب أهميته، وبسبب العمل الطويل الذي استمر لأربع سنوات من جامعات وقارات عالمية مختلفة للقيام به، بل بسبب تأثيره المباشر على الفرد، وبشكل خاص في الدول التي تنعدم فيها الفرص المتساوية بين الأفراد، ليس في الجانب السياسي للوصول للمناصب، بل حتى أيضا في الجانب الاقتصادي الذي من الممكن أن ينتشل الفرد من وضعه المالي.

لا يهدف التقرير ليتوافق الجميع على اللامساواة: فهذا لن يحدث بشكل نهائي، لسبب بسيط هو عدم وجود حقيقة علمية واحدة فيما يتعلق بالمستوى المثالي لهذا التفاوت، ناهيك عن السياسات والمؤسسات الاجتماعية المثالية التي ستكون مطلوبة لتحقيق والحفاظ عليه. في النهاية، لا يمكن اتخاذ هذه القرارات الصعبة إلا عن طريق المداولات العامة وعبر المؤسسات السياسية. فالهدف بكل بساطة: الوصول لإتفاق معين على حقائق معينة حول عدم المساواة، عن طريق الجمع بين سلسلة بيانات جديدة من قاعدة بيانات الثروة والدخل على المستوى العالمي، من أجل توثيق العديد من النتائج الجديدة حول اللامساواة العالمية وتطورها.

جزء من أهداف هذا التقرير -كما يرد في المقدمة- هو الضغط على الحكومات والمنظمات الدولية لنشر المزيد من البيانات الأولية حول الدخل والثروة. فالافتقار إلى الشفافية حول اللامساواة في الدخل والثروة يقوض بشكل خطير إمكانيات المناقشة الديمقراطية السلمية في الاقتصاد المعولم اليوم. وبشكل ٍ خاص، من المهم جدا ً أن توفر الحكومات وصول الجمهور إلى إحصاءات ضريبية موثوقة ومفصلة، الأمر الذي يتطلب بدوره تشغيل أنظمة تقارير تعمل بشكل صحيح عن الدخل والميراث والثروة. بدون هذا، من الصعب جدًا إجراء نقاش مستنير حول تزايد اللامساواة وما يجب فعله حيال ذلك.

يتكون التقرير من 10 فصول مختلفة، مع ملخص ومقدمة وخاتمة. يناقش الفصل الأول رؤى مختلفة حول اللامساواة الاقتصادية على المستوى العالمي، كما يناقش الفصل الثاني اللامساواة العالمية من عام 1820 حتى الآن: استمرار وتغير اللامساواة الشديدة. في حين يعنون التقرير الفصل الثالث بدول غنية وحكومات فقيرة، مناقشا ً فيه معنى الثروة وماذا يعني حيازة رأس المال من قوة وسيطرة. بينما يتطرق الفصل الرابع اللامساواة في الثروة العالمية: صعود أصحاب الملايين، وفيه يتطرق لمواضيع كثيرة من بينها العوامل التي تقود اللامساواة في الثروات على المستوى العالمي. في الفصل الخامس يناقش التقرير حصة دخل العمل النسائي من منظور عالمي، بينما يتطرق الفصل السادس لموضوع أصبح متصدرا ً للنقاشات الاقتصادية العالمية وهو اللامساواة العالمية في الكربون، حيث يدعو هذا الفصل لضرورة مراقبة هذه اللامساواة العالمية والعمل على التخفيف منها. في الفصل السابع يتحدث التقريرعن خارطة طريق لاعادة توزيع الثروات العالمية، حيث أن السنوات القليلة الماضية تميزت بتجدد النقاشات حول الضرائب التصاعدية progressive wealth taxation على الثروة. في حين أن ضرائب الثروة التدريجية آخذة في الانخفاض في البلدان الغنية، إلا أنها لا تزال موجودة بأشكال مختلفة في العديد من البلدان، مثل هولندا أو النرويج أو إسبانيا أو سويسرا. بينما نجد في الآونة الأخيرة، أن بعض البلدان ناقشت أو صوّت لصالح إدخال ضرائب ثروة جديدة (مثل الأرجنتين)، بينما في العديد من البلدان الأخرى، كانت هناك مناقشات حول ضرائب الثروة بناءً على مقترحات مفصلة (كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا أو المملكة المتحدة أو تشيلي). أثار هذا الاهتمام المتجدد بفرض ضرائب تصاعدية على الثروة عاملين: الزيادة في إجمالي الثروة الخاصة بالنسبة إلى الدخل القومي، وزيادة تركيز الثروة. حيث تزايدت هذه الظاهرة خلال أزمة فيروس كورونا: فبينما انخفض الدخل القومي، زادت قيمة الثروة الخاصة، وكانت هذه الزيادة شديدة بشكل خاص بين المليارديرات. في حين أن الفصل الثامن يطرح تساؤلا ً حول إمكانية فرض ضرائب على الشركات متعددة الجنسيات أم فرض ضرائب على الأفراد الأثرياء؟ وذلك لتنظيم اللامساواة ومعالجة احتياجات الإيرادات الناشئة عن جائحة Covid-19 وتغير المناخ والاستثمار العام (في الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية)، فإن التعاون الدولي أمر بالغ الأهمية. فعلى مدى العقد الماضي، كان هناك تقدم في بعض مجالات التعاون الضريبي الدولي: حيث أتخذت بعض الدول مزيدا ً من تبادل المعلومات بين البلدان، كما اتخذت خطوات نحو مكافحة أكثر أشكال المنافسة الضريبية، ومع ذلك، فإن الإجراءات المطلوبة طموحة بشكل كبير مثل فرض حد أدنى من الضرائب على الأرباح متعددة الجنسيات، أو فرض ضريبة عبر وطنية على الأثرياء، أو ضريبة الكربون العالمية، التي قد تستغرق وقتًا طويلاً حتى تتحقق. وفي هذا السياق، من المفيد التساؤل عما يمكن أن تفعله البلدان بشكل منفرد من جانب واحد ومدى فائدة مثل هذه المبادرات الأحادية. بينما يتناول الفصل التاسع وجهات النظر العالمية حول العدالة الضريبية. أخيرا في الفصل العاشر، يتطرق التقرير للتحرر وإعادة التوزيع والاستدامة.

في الصفحات الختامية لهذا التقرير، يتناول بعض الدول كحالات نموذجية لتطبيق المفاهيم منها اللامساواة في الدخل، مركز الدولة على المستوى العالمي، التغير الذي شهدته الدول في اللامساواة على المدى الطويل، اللامساواة القائمة على الفروقات الجندرية، وغيرها من المفاهيم والمعادلات المهمة التي أصبح ممكنا مناقشتها بفضل توفر البيانات عن بعض الدول. في مقابل ذلك، غابت الكثير من الدول عن هذا التحليل التفصيلي المهم بسبب انعدام هذه البيانات، الأمر الذي يجعلها مجهولة من الناحية الاحصائية لقياس اللامساواة فيها.

مفاهيم مفتاحية:

للوصول لفهم ٍ أفضل لهذا التقرير من الضروري معرفة المفاهيم المتداولة في التقارير الاقتصادية، والتي من خلالها يمكن معرفة وقياس الدخل والثروات ومنها قياس اللامساواة بين الأفراد. ومن أهم هذه المفاهيم: الدخل القومي National Income والثروة الوطنية National wealth. الدخل القومي هو مجموع كل المداخيل التي يتلقاها الأفراد المقيمون في بلد معين على مدار عام. يتخذ الدخل أشكالًا مختلفة ونميز عادةً بين مصدرين كبيرين: الدخل الناشئ عن عمل الأفراد (مثل الأجور أو المرتبات) والدخل الناشئ عن ثروة الأفراد (مثل الفوائد والأرباح). الثروة الوطنية هي مجموع قيمة جميع الأصول المملوكة للأفراد في بلد معين.وهي المخزون الناتج عن تراكم رأس المال (من المدخرات، أي الدخل الذي لم يتم استهلاكه) وتأثيرات الأسعار، ففي عام 2021م، بلغ الدخل العالمي 86 تريليون يورو (122 تريليون دولار) بينما يبلغ صافي الثروة العالمية ستة أضعاف هذه القيمة، 510 تريليون يورو.وبلغ متوسط ​​الدخل العالمي لكل شخص بالغ في عام 2021م هو 16700 يورو أو 1،390 يورو شهريا ً (على التوالي 23،380 دولارًا و 1950 دولارا ً)، في حين أن متوسط ​​الفرد البالغ يمتلك 98600 يورو (139000 دولار أمريكي) من صافي الثروة.

توزيع الدخل والثروات:

بحسب التقرير فإن 10% من سكان العالم يحصلون على 52% من إجمالي الدخل العالمي، في حين يحصل أفقر من 50% من سكان العالم على 8% فقط من الدخل العالمي. كما يجني/ يحصل الفرد في شريحة 10% الأغنى سنويا ً على المدى المتوسط 87,200 يورو أي ما يعادل 122,100 دولار وبالريال العُماني 470,360 ريالا ً عُمانيا ً، في حين يجني/ يحصل الفرد في شريحة ال50% الأفقر من سكان العالم في المتوسط السنوي على 2,800 يورو أي ما يعادل 3,920 دولار وبالريال العُماني 1,510 ريالات، ليصل الدخل في الشهر الواحد ما يقارب 126 ريالا عمانيا.

غير أن هذه الفجوة تتسع إذا انتقلنا من الدخل إلى الثروة، فبحسب التقرير، لا يمتلك نصف السكان الأفقر في العالم أي ثروة، وبمعنى أدق يمتلكون 2% فقط من إجمالي ثروات العالم. بهذا المعنى، تمتلك شريحة 10% وهي الأغنى عالميا ً ما يعادل 76% من إجمالي الثروات عالميا ً. وهذا ينطبق بطبيعة الحال على متوسط الثروة التي يمتلكها الفرد في شريحة 10% مقارنة بالفرد الذي ينتمي لشريحة ال50% الأفقر والتي لا تصل إلى 5,000 دولار، أي ما يعادل 1,300 ريال عُماني. بالإضافة لذلك، وبعيدا ً عن الصورة العامة التي بحاجة لمزيد من التوضيح المكاني والجغرافي، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي المناطق الأعلى من حيث اللامساواة وأوربا هي الأقل على المستوى العالمي.

خاتمة:

يختتم هذا التقرير بمقولات لمحرريه، التي تشدد على نقطة مهمة، وهي أن “التاريخ يعلمنا أن النخب تكافح من أجل الحفاظ على اللامساواة بشكل ٍ كبير، ولكن في النهاية، هناك حركة طويلة المدى نحو المزيد من المساواة، على الأقل منذ نهاية القرن الثامن عشر، وسوف تستمر”، كما أن التقرير يكشف أن اللامساواة ليست أمرا حتميا، بل هي قرار سياسي بيد النُخب وصُناع القرار والذين يمتلكون الثروات والنفوذ.

العدد الأخير العدد السابع والعشرون بعد المائة سياسة

عن الكاتب

علي بن سليمان الرواحي

كاتب وباحث عماني