مشكلات العائلة وحيرة الأولاد في رواية “جدٌّ على الورق” للكاتبة الفرنسية “كلودي ساندرين بيرنوش”

كتب بواسطة سريعة سليم حديد


جدٌّ على الورق رواية مميَّزة للكاتبة الفرنسية “كلودي ساندرين بيرنوش”. ترجمة الدكتورة رندا إسماعيل، رواية تحمل في صفحاتها لمسات إنسانية لافتة بما تطرحه من أفكار مميَّزة، فلا تخصُّ شريحة الفتيان فحسب بل توجِّه الانتقاد إلى تصرُّفات الكبار أيضاً.
الشرخ الكبير الذي يحدث في العائلة، لا يمكن للكبار أن يلغوا تأثيره على الأولاد مهما فعلوا، من هنا تأتي أهميَّة الرواية لتكون ضابط إيقاع بين الفتيان وذويهم. فقد عمدت الكاتبة إلى كتابة روايتها بأسلوب بسيط لطيف، وبطريقة محبَّبة للقارئ، الناشئ، فتلامس قلبه، وتشغل تفكيره بما تحمل من لمسات تشويق على مدى صفحاتها.
لقد صوّرَت الكاتبة المشاهد بطرق تعبيرية لافتة، وكأنها تعيش الأحداث طفلة صغيرة لا تلبث أن تعي نفسها في مواجهة المشاكل التي تمرُّ بها.
الرواية مقسَّمة إلى ثمانية فصول، يحتوي كل فصل على عنوان مناسب يفي بالغرض المطلوب.
ــ الفصل الأوَّل بعنوان: قريباً سيكون الميلاد. الصوت الذي يقود الرواية هو صوت “إميلي” الطفلة ذات التسع سنوات ونصف. فمنذ الصفحة الأولى نلمس دقَّة الكاتبة في إظهار الأحداث بطريقة لطيفة، حين تدعو الأم ابنها “نيكولا” لانتعال حذائه بقصد الذهاب إلى المتجر من أجل شراء بعض اللوازم لعيد الميلاد. لكن “نيكولا” يتقصَّد إزعاج “إميلي” بمناداتها إميل، مما أثار غضب الأم، فطلبت منهما الاعتذار وإلا ستلغي فكرة الذهاب إلى مخزن الألبسة.
في الفصل الثاني يستمر الخلاف بين “إميلي” وأخيها على أمور صغيرة، تحصل كثيراً بين الإخوة. وكالعادة تتدخَّل الأم، وتحسم الموضوع، لكن “إميلي” تخلُّفت عن تلبية توجيه أمها، فكان عليها البقاء قربها، وقرب أخيها في جناح الطائرات الإلكترونية. هذا ما جعلها أمام مشكلة حذَّرتها منها أمها سابقاً، فقد اتجهت إلى جناح الألبسة، ووقفت أمام فستان الساتان الأبيض الملكي، مما عرَّضها إلى مشكلة مع الرجال الذين يقومون باختطاف الأولاد، كما تخيَّلت.
وقفت “إميلي” أمام فستان الساتان الأبيض، وهي تفكِّر كيف ستلبسه، سوف يكون زيَّاً تنكُّرياً رائعاً في حفلة عيد الميلاد. وكالعادة في إثارة الغيرة بين الفتيات ظهرت لها صديقتها “ماري صوفي” وهي تنظر إلى الفستان، وتبدي إعجابها به.
لفت نظرها رجل عجوز، فاقترب منها، وسألها: هل أنت وحدك هنا. فارتعبت كثيراً، وراحت تسقط عليه من خيالها شخصيَّة “بابانويل” وتتخيله أنه الرجل الذي يخطف الصغار، وراحت تصرخ من الخوف.
لكن ما حيَّرها، وحيَّر “نيكولا” تصرُّف الأم، فقد حاولت أن تخرجهما من المحل بسرعة، لحظة شاهدت الرجل العجوز يقف بالقرب من ابنتها، وطلبت منهما الذهاب إلى المحل الآخر بسرعة، لكن “إميلي” استغربت الموضوع.
يبدأ الفصل الثالث بعنوان: سباق الجري، لم يغب عن ذهن الكاتبة طرق تحايل الفتيات على آبائهن للوصول إلى رغباتهن. “إميلي” تطلب من والدها أن تخرج معه إلى رياضة الجري نحو الغابة القريبة من منزلهم، ولم يغب عن ذهن الوالد أن ابنته تريد أمراً ما وراء هذا الطلب، فهذا الأسلوب (الدبلوماسي) طالما كرَّرته معه في المرَّات السابقة، ومع ذلك أخذها معه، لكنه لم يتوقَّع أن تلقي ابنته عليه سؤالاً محرجاً إلى هذه الدرجة.
“إميلي” تريد حقيقة شيئاً ما، ولكن لن تطلبه إلا بعد أن تثير إعجاب والدها في سباق الجري معه، وسوف تحاول قصارى جهدها أن تنال إعجابه، وبعدما يتم ذلك، تصرِّح عن رغبتها في الذهاب إلى مخزن الألبسة، إلى حيث فستان الساتان الأبيض المعلَّق على الواجهة.
تحاول الكاتبة إثارة مواطن الغيرة كالعادة، ولكن هذه المرَّة بين “إميلي” وصديقتها “ماري صوفي” حدث هذا أمام الفستان الملكي الأبيض، فقد تبادلتا عبارات الإغاظة حول امتلاك الثوب، لكن نهاية الفصل كانت محرجة جداً بالنسبة للأب الذي أخذ يتهرَّب من أسئلة ابنته التي دارت حول الرجل العجوز الذي أثار إزعاج والدتها. كذلك عادت “إميلي” إلى حالة الشك والريبة، والنظر إلى والديها على أنهما يخفيان شيئاً ما عنها.
من الملاحظ ضبط الكاتبة لأسس الآداب بالنسبة لتصرُّفات “إميلي” وبشكل صريح. هذا ما يعزِّز القيم التربوية في الرواية، ولكن هل سارت الكاتبة على هذا المنوال في كل فصول الرواية؟
(الرجل البابانويلي): هو اللقب الذي أطلقته “إميلي” على الرجل العجوز الذي شاهدته في مخزن الألبسة. وقد أصبح شغلها الشاغل الآن. حيث تندفع الأحداث كاشفة عن إصرارها على معرفة حقيقة ذلك الرجل الذي ترك لها في الطريق بطاقة تحمل رقم هاتفه. وبأسلوب مقنع عرفت الكاتبة كيف تستخدم الفتيات طرقاً لافتة من خلال مساعدة الصديقات في مثل هذه القضايا الصعبة بالنسبة لهن.
اتصلت “إميلي” من عند صديقتها (إريان) بالرجل العجوز. لكنها فوجئت بما طلبه منها، لقد طلب أن يراها مع أي شخص تختاره من الكبار ليبعد الشك عن قلبها في أنه رجل يقوم باختطاف الأطفال.
وكالعادة ختمت الكاتبة الفصل الرابع بأسلوب لطيف من التشويق. فقد أظهرت صرامة الأم في منع ابنتها من الذهاب إلى (إريان) لتقف “إميلي” عند مشكلة أخرى، فقد خشيت أن تراقب أمها تحركاتها خارج المنزل، بذلك سيتعرقل مشروع رؤية العجوز (ستانسيلا).
من اللافت طريقة الانتقال من فصل إلى آخر، حيث تقدِّم الكاتبة في كل فصل شخصيَّة جديدة، وخاصة في الفصول الأولى من الرواية، تدخلها في الأحداث بطريقة مبسَّطة، مما يجعل المتلقي يتقبَّل تعدد الشخصيات بشكل مريح غير مربك.
اكتشاف السر: عنوان الفصل السادس. تبرع الكاتبة في مداورة الأحداث فتجعل من “إميلي” شخصيَّة قويَّة تتحدَّى المشكلة، وتتابع البحث من خلال الأسئلة الملحة على الرجل العجوز الذي دعاها وصديقتها إلى محل الحلويات. فتكتشف الحقيقة أكثر فأكثر لحظة صعدت السقيفة، وشاهدت صورة لها، وعمرها سنتان في حضن الرجل العجوز. كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لها، ولكن هذا لم يدفعها إلى تلبية طلب الجد في أن تطبع قبلة على خده.
تبدو نبرة العجوز مؤثرة جداً حين يعترف بـأنه جد “إميلي” ويرغب دائماً في رؤيتها ورؤية “نيكولا” أيضاً، وهنا تبرز فكرة محور عنوان الرواية.
نقتطف من الرواية:
” إميلي، اسمعيني جيداً، أرغب بصدق في أن أكون لك جداً حقيقياً، ولأخيك بالطبع، ولا يرضيني أن أبقى جداً على الورق. أرغب في أن أراكما من غير أن أختبئ…” ص83
أخد الجد يوضِّح لها سبب الفراق الذي حدث بينه وبين ابنته والدة إميلي وهو الآن بصدد رفع دعوى قضائية على الأم كي يتمكَّن من رؤية أحفاده.
نقتطف:
“لكن، أريد أن أفهم، لماذا أمي لم تكن مرتاحة لأن ألتقيك؟
ـ لأنني منذ سنوات طويلة اقترفت خطأً مع أمها.
ـ جدتي؟!
ـ نعم، لقد غرقتُ في الحب، حب كرستين، لذلك طلقتها، وتزوجت من كرستين. أما أمُّ أمك فلم تتقبَّل ذلك، وصادف أن توفيت بعد سنة من ذلك، فبقيت أمك تحمِّلني مسؤولية موت أمها.” ص87
يقع الفصل السابع تحت عنوان: اعتراف أمي. وهنا أولت الكاتبة اهتمامها بتأكيد فكرة إلحاح “إميلي” على معرفة الحقيقة من أمها، وتحت ضغطها المتواصل. لقد اعترفت الأم بعد محاورة محرجة بأن (ستانسيلا) هو جد “إميلي” حقيقة، لكنها ما زالت تحمل في نفسها لوماً كبيراً عليه، مما دفعها لإخفاء وجوده من حياتهم.
تلعب الكاتبة على رسم الحالات النفسية للشخصيات بطريقة مثيرة للانتباه، وخاصة شخصية “إميلي” فقد تلفَّظت بعبارات غير مهذَّبة تجاه أمها: ” لقد كذبت عليَّ.” ص93 و “ما أنت إلا مخادعة و…” ص94 فهذا الأسلوب غير لائق في مواجهة الأحداث، فهو يعكس جانباً سلبياً في شخصيَّة “إميلي”، مع أننا نلمس الكثير من مواطن الحذر في ترشيد وتوجيه القارئ الفتي نحو السلوك الصحيح.
الفصل الأخير يحمل أحداثاً قدرية هامة إنه الفصل الثامن. الذي بعنوان: الحادث.
“إميلي” في المدرسة، وعند خروجها مع أخيها “نيكولا” تعرَّض الأخ، وهو يقطع الشارع إلى حادث كاد يودي بحياته. كانت الأم شاهدة على ما جرى، لكن رجلاً عجوزاً أنقذ “نيكولا” بدفعة عاجلة منه، إلا أنه سقط على الأرض متأثِّراً بعواقب الصدمة.
تابعت الكاتبة سرد الأحداث بطريقة عاجلة. الرجل الذي أنقذ “نيكولا” هو الجد (ستانسيلا) وهنا المفاجأة. فقد اندفعت الأم إلى والدها وأخذته بسيارة الإسعاف إلى المشفى.
من اللافت استخدام الفتاة “إميلي” بعض الكلمات التي تجعل من المتلقي يضع بعض الخطوط الحمراء عند المرور بها. “إميلي” تلوم “نيكولا” وتنعته بالقاتل، هذا النعت صادم بالنسبة للمتلقي الفتي.
نعم لقد نجا الجد من الموت، بعدما سهرت والدة “إميلي” قربه في المشفى، وعندما علم “نيكولا” أن جدَّه قد أصبح بخير، راح يصيح: أنا لست قاتلاً.
يأتي فصل الخاتمة لينير الأحداث بما يحمل من بهجة ترضي المتلقي الفتي. الخاتمة التي يرغب فيها كل متابع للأحداث. (ستانسيلا) يخرج من المشفى، وقد وضع طوقاً طبياً حول رقبته، و”إميلي” مستلقية في فراشها تفكِّر في عيد الميلاد، فهي ما زالت لا تريد الثوب الملكي، ما تريده فقط هو جدها. ويأتي “نيكولا” ليسحبها من الفراش ويريها مفاجأة غير متوقَّعة، إنه الجد (ستانسيلا) حاضر في عيد الميلاد، والأجمل من هذا هديتها التي كانت عبارة عن علبة يظهر منها ثوب الساتان الأبيض، وهو يتلألأ داخلها.
من اللافت أن الكاتبة اعتمدت على حل المشكلة بطرق المصادفة، فلولا وجود الجد أثناء خروج “نيكولا” من المدرسة والحادث الذي تعرَّض له، ووجود الأم أيضاً لما تقرَّبت الأم من والدها، وحدث ذلك الصلح بينهما، أي أنها لم تعرض حلولاً فكرية من شأنها فتح آفاق التفكير في مثل هذه المواقف.

الرواية: جد على الورق.
الكاتبة: كلودي ساندري بيرنوش.
ترجمة: الدكتورة رندا إسماعيل.
دار النشر: التوحيدي.

أدب العدد الأخير العدد السابع والعشرون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

سريعة سليم حديد