منذ الصباح الباكر استنفرت آلاف الأعداد في خلية النمل، جيش كبير من النملات كان يتشكل في صفوف طويلة يدفع به النشاط في ذلك الصباح لتلبية الواجب، وكان الطريق طويلا الذي ستسلكه النملات في خط طويل منتظم، ما أن تخرج من الخلية، سيتخطى البقع القليلة من الظل ليدلف سهوب شاسعة من المساحات المفتوحة التي تسلط عليها شمس الصيف أشعتها الحارقة، مضى جيش النمل برغم الصعوبات متقدما في طريقه، قادة المفارز يلهبون حماسة الجند ويستحثونهم، مفارز كانت تتقدم واثقة الخطوة نشيطة الهمة، عشرات ومئات وألوف من مفارز الجند وعلى كل مفرزة قائد عشرات وقائد مئات وقائد ألوف، يقودها ويستحث حماسة الجند نحو التقدم إلى الأمام وبذل الجهد والنشاط لإعلاء مكانة الخلية وتحقيق أهدافها التي تصب في المصلحة العامة لمجموع النمل سكان الخلية.
كانت المهمة حتى هذه اللحظة غير واضحة وغير معروفة، من جميع الجند في الجيش، الذي كان بدون هذه المعرفة كأنه يمشي ويتقدم على غير هدى، فقد كانت المعلومات عن مهمة الجيش الذي استغرق وقت الصباح كله في التقدم وشارف الظهيرة القائضة لذلك النهار، متكتما عليها بحرص شديد، كعادة الاجراءات والتدابير العسكرية دائما التي تتخذ في غرف مغلقة، وفي إطار من السرية، خشية تسرب المعلومة وإفشال هذه الاجراءات والتدابير من طرف مناوئ، وربما هذه المعلومة تكون في عهدة أحد أفراد أركان الجيش من أصحاب الرتب العليا، أو تقتصر المعرفة حول هذه المعلومة لدى دائرة ضيقة من أصحاب الرتب العليا في الجيش.
شح المعلومات جعلت الجند يتداولون إشاعات كثيرة عن المهمة ضبابية الوجهة التي يشاركون فيها، من بين هذه الإشاعات مثلا والتي تقبلها الجند بحماسة، بأن الجيش في طريقه للاستيلاء على موقع خلية أخرى واحتلالها وهو ما يعزز آمال الجنود الشبان في الجيش، المتحمسين، والحالمين بالقوة والنفوذ، والتوسع لخليتهم، بينما إشاعة أخرى تتعلق بتصور نبيل عن المهمة، وهو توجه الجيش لنصرة خلية صديقة ونجدتها من هجوم واعتداء تتعرض له، بينما نجد آخرين في الجيش يعتقدون بأن الجيش هو في مهمة روتينية من مهام التدريب ورفع الكفاءة لمقاتليه، خاصة إذا ما عرفنا بأن كثير من مفارز الجيش تتكون من جنود مستجدين تنقصهم الخبرة العسكرية وعريكة القتال.
استمر الجيش في تقدمه يصنع مسارا خطيا تارة في المساحات المفتوحة المنبسطة، وخطا متعرجا تارة أخرى، في الأماكن التي تواجهه فيها عوائق طبيعية وعقبات لا يمكن تخطيها، إلا بالالتفاف من حولها من نقاط مفتوحة سهلة للعبور، حيث عبر جيش النمل أثناء تقدمه مساحات من الأرض تتباين معالمها من مكان إلى آخر، وتتنوع تضاريسها، بين أماكن مفتوحة سهلة العبور، ومنخفضات وبطون عميقة صعبة العبور، من الأرض، ومرتفعات وأماكن عالية أشد صعوبة وأكثر بطأ في التقدم المنتظم لأرتال طويلة من الجنود.
واصل الجند طريقهم خطوة بخطوة، لا يشغل بالهم برغم عدم معرفتهم الوجهة، إلا تنفيذ الأوامر والاستجابة لها بطاعة عمياء، كما جرت العادة بالنسبة للجنود، الذين كأنما خلقوا في هذه الحياة، من أجل تنفيذ الأوامر وطاعتها.
عند اقتراب الجيش من وجهته، أخذت ترشح بعض المعلومات القليلة المتضاربة التي كانت تتناقل على ألسنة الجند، حول مضمون المهمة التي يؤديها الجيش، ويتداولونها بينهم، معلومات رغم أنها غير مؤكدة حتى تلك اللحظة، لكنها باتت تضع هدفا واضحا للحملة، وهو ما أشاع الحماسة في نفوس الجنود، خاصة عندما عرفوا حسب فحوى المعلومات المتواردة بأن الهدف من حملة الجيش، وضع اليد والاستيلاء على رفاة حشرة كبيرة توجد في مكان مشاع غير خاضع لسيطرة أحد، وهو ما هلل له الجنود فرحا، أولا لأن المهمة سهلة ومأمونة لكونها ليست مهمة قتالية، وثانيا وهو الأهم لتهليل الجنود وفرحهم، كون أن نصيب كل جندي من جنود الجيش من المواد الغذائية لمخزون الشتاء، سيزيد بفضل هذه المهمة أضعافا مضاعفة، وليس جنود الجيش وحدهم، وإنما نصيب كل فرد من أفراد خلية النمل والمنتمون لها، ستؤمن هذه الحشرة زيادة مضمونة مضاعفة له.
من المؤكد بأن هناك من يتحكم بدفق المعلومات في الجيش كمؤسسة قائمة على السيطرة والتحكم، ويصيغ تدفقها بالكيفية التي تسمح بضبط حماسة الجنود والسيطرة عليها، أو الإفادة منها بحسب ما تتطلبه المهمة، لذلك في الأميال الأخيرة المتبقية من مسيرة الجيش وقبل الوصول إلى الوجهة بقليل، أعلن بشكل شبه رسمي للجنود وبشكل واضح لا لبس فيه هذه المرة، بأن المهمة التي يضطلع بها هذا الجيش بكل أفراده الذين سيفخرون بأداء هذه المهمة، خدمة للواجب و شرف الانتماء للخلية، وقادته الذين لا يقلون فخرا بهذه المهمة، التي ترتكز على وضع اليد على رفاة جرادة كبيرة، ستعزز مأونة الخلية من الغذاء للشتاء القادم.
لقد فاجأ الإعلان عن المهمة بصيغته الواضحة معظم الجنود، فقد تلقوا الإعلان باندهاش كبير رسم مسحة سحرية على ملامحهم، وهم يسمعون التفاصيل المفاجئة التي تضمنها، ذلك أن أغلب عناصر الجيش من اليافعين الشباب، وكلمة جرادة التي كانت البؤرة المركزية في الإعلان إذا جازت العبارة، أثارت دفق من السحر والاندهاش لدى الجنود الشباب الذين يسيطر على مخيلاتهم منذ الصغر دفق من الاسطرة التي تحيط هالته بهذه الحشرة العاتية جوابة الآفاق المسافرة على أجنحة الرياح، وهي تعبر مساحات شاسعة من الأرض بأعداد هائلة تشكل جيشا يحجب قرص الشمس يقوده نهم مجنون وشهية نباتية مفتوحة يزدرد كل أخضر في طريقه، إنها أحد جيوش الدمار والخراب في الطبيعة، تقذف بهم المناطق الصحراوية ما أن ينهون فترة التفقيس والحضانة وسط أجواء ملائمة من الحرارة وجفاف الجو في أعداد مهولة، كجنود للعقاب السماوي يلحق بالحواضر والنطاقات الزراعية، المستوى المطلوب والقاسي من العقوبة السماوية، على البشر، من الخراب والدمار، والذي يأتي في إثرهما الجوع كخاتم للعقوبة ومصدق عليها.
تعليقا على هذا الخبر، قال جندي في أحد المفارز بفرحة غامرة: ما ألذ لحم الجراد، فيما عقب جندي آخر على كلامه: ما ألذ الشتاء مع لحم الجراد، ما جعل بقية الجنود في المفرزة يتصايحون فرحا، ما ألذ الشتاء مع لحم الجرادة، ما ألذ الشتاء، بعد ذلك، وبعد أن أصبح خبر الجرادة خبرا رسميا، تولى أحد المطلعين من أصحاب الخبرة في الجيش مهمة تقريب صورة الجرادة للجند، في وصفها قائلا: إنها خلقة على هيئة عشرة من جبابرة الحيوانات لها وجه الفرس، وعينا فيل، وقرنا أيل، وفخذا جمل، ورجلا نعامة، وذنب حية، وصدر أسد، وبطن عقرب، وجناحا نسر، وعنق ثور.
وما هي إلا أميال من الترقب قطعها الجيش، حتى ظهرت لهم الجرادة التي كانت تشغل مساحة واسعة بجسدها كبير الحجم مستلقية وسط خلاء مفتوح، الأرض فراشها والسماء المطرزة بأشعة شمس الظهيرة غطاءها، اندفع عندها الجنود في زمرات، في مخالفة صريحة للانضباط، وفي اقتراب تخلوا فيه عن مسافة الأمان، من جسد الجرادة، يقودهم إشباع الفضول لرؤيتها، وتفحص هذه الدويبة التي شغلت خيالهم منذ الصغر، عن قرب.
لم تكد زمرات الجنود تقترب، حتى تحركت الجرادة تحت صخب دبيب زمرات النمل، حركة واهنة إنما بدت صاخبة، بالنسبة لمجاميع النمل الضئيل الحجم، شملت قائمتها الأمامية، التي اندفعت كسهم مصوب ناحية الجموع المندفعة، مما جعلهم يلوذون بالفرار في اندفاعة معاكسة.
جرادة حية ترغم الجيش بلا شك إلى تغيير خطته، حيث الاستيلاء السهل ووضع اليد، حلم بدده الواقع، فجرادة جريحة ومنهكة تظل برغم ذلك أقوى من جثة جرادة، دفعهم الواقع الجديد في قيادة الجيش، إلى انتهاج مبدأ التفاوض الذكي والبرجماتي مع الجرادة بخصوص ما يؤول إليه مستقبلها نتيجة واقعها الحرج الذي تعيشه.
وأهم شرط في نجاح أية مفاوضات هو توفر الشريك المفاوض الذي يتميز بالواقعية، فبدون مقدار ولو ضئيل من الواقعية، لا يمكن أن تنجح المفاوضات، وهذا ما ابدته الجرادة منذ الجولة الأولى من التفاوض مع الوفد الممثل لقيادة جيش النمل، الذي فرض طوقا محكما بكل الأعداد الكبيرة من مفارز الجند الذين اصطفوا على مبعدة كافية من حولها بما يسمح بخلق مسافة أمان لأهداف الحماية، برغم إنها غير مؤذية ولا يتوقع بأن تكون لها ردات فعل خطرة في وضعها البائس هذا، لكن في الحقيقة فإن هذا الطوق المحكم من الجند الذي يحيط بالجرادة هو لحماية موضوع التفاوض، حمايته من تعديات الغير.
لقد اتجه الجيش بعد توقع باستغراق المهمة أياما طويلة وربما أسابيع أطول، في التخندق وبناء مرافق دفاعية تحت مستوى الأرض، وتوفير مصادر لتوفير الغذاء والتموين، فأصبح ما كان جيش عابر ثكنة متموقعة.
في الجولة الأولى من المفاوضات، شكرت الجرادة وفد النمل المفاوض على مبادرتهم الراقية، في التفاوض معها، للوصول إلى اتفاق يراعي ظروف الطرفين، وللخروج بتوافق بينهما يقوم على الاستجابة لمصلحة كل طرف، بدون الاخلال بمصلحة أي طرف من الأطراف، وقد شكرت الجرادة وفد النمل تقدير حالتها، وأثنت على النمل وامتدحته، كجنس يتميز بسموه وحكمته بين الحشرات، وعلى القيم الاجتماعية التي يتميزون بها، وروح النشاط والمبادرة التي تميزهم، لخدمة الجماعة ومصلحتها، مؤكدة في حديثها بأن هذه الميزات هي قواسم مشتركة قوية بينهم وبين الجراد الذي يتميز بنفس الميزات في حياته، وإنهم كجماعتين حشريتين، استطاعوا أن ينتزعوا بفضل هذه الصفات والميزات التي تميزهم، احترام الطبيعة وتقدير ساكنتها لمكانتهم، وأن يفرضوا حضورهم في نطاق واسع من الطبيعة، وأضافت بعد ذلك، وما يؤكد القواسم المشتركة ما بين الجراد والنمل على أعلى المستويات هو اقتران ذكر الجراد والنمل في أحد أهم الكتب المقدسة للبشر، والاحتفاء الذي أولاه في تناول سيرتهم كحشرات مقدسة لهم دور منوط بهم في سياق الذكر الحكيم للتبليغ بحكمة الخالق وتعاليمه للبشر.
بعد الثناء في خطابها اتجهت الجرادة إلى إثارة شهية النمل على التفاوض، بلغة تقدم الإغراء بنيل المكافأة والهدية الثمينة التي ينشدها جيش النمل، بعد هذه المسافة الطويلة التي قطعها الجيش والصعاب التي تحملها، قائلة بإغراء شهي يذهب مباشرة إلى مخاطبة العصارة الهضمية لمعدات النمل: إن جسدي الذي تأود وتغذى على أفضل المكونات الغذائية النباتية في مائدة الطبيعة وأكثرها فائدة، جعل من هذا الجسد مكونا غذائيا عالي الجودة في الطعم والقيمة الغذائية، مما جعل من البشر الذين أمثل أخطر الأعداء لهم في الطبيعة، يعتبرون جسدي برغم كرههم وبغضهم المقيت لي، مصدرا ممتعا للغذاء خاتمين عداوتهم وكرههم لي بأكلي هنيئا مريئا على موائدهم، إن هذا الجسد بمكونه الغذائي الطيب الذي صنع من أجود المكونات النباتية في الطبيعة، سيكون بمثابة تقدمة فاخرة أزجيها إليكم بكل طيب خاطر، حيث أجد أنه من الفخر والاعتزاز لي، بأن تكون بطونكم أنتم أيها الجنس المقدس من الحشرات، قبرا لجسدي مشكلة بطونكم وعصاراتكم الهضمية، نهاية مشرفة لهذا الجسد تنال فيها كل التكريم والاحترام والتقدير، نهاية هي في نظري أشبه بضريح إمبراطوري يناله جندي مجهول كمكافأة توازي تضحيته في حرب آمن حتى آخر نفس لفضه قبل موته، بأنها حرب عادلة خاضها بشجاعة من أجل قيم الخير والعدل والشرف التي من أجلها نحيا ونموت.
بعد ذلك تحدث رئيس وفد النمل المفاوض بكلمات عبرت في مضمونها عن تأثره بعمق خطاب الجرادة والصدق الذي حملته كلماتها، موضحا في حديثه، تقدير الوضع الصعب الذي تمر به الجرادة، مشيرا إلى إنه برغم المهمة التي انطلق الجيش منذ البداية لإنجازها وبرغم الهدف الأساسي لتحركه، إلا أنه يجد هذا الجيش لزاما عليه واجب حمايتها وصون حياتها، وذلك انطلاقا من عقيدته، التي يؤمن بها كل منتسب في صفوفه ويحرص على مراعاتها وتمسكه بها وإعلائها فوق كل الأهداف والغايات، هذه العقيدة التي تتمثل في صيانة الحياة في كل جسد حي والمحافظة عليها ووضعها فوق كل اعتبار، مؤكدا في ختام حديثه، بأن الجيش منذ هذه اللحظة لا يجد غضاضة في تأجيل مهمته أو حتى التخلي عنها، إذا ما أرغمه التطور الحسن للظروف الصعبة للجرادة، فيما لو تم نجاتها من خطر الموت المحدق بها وتعافيها وعودتها حرة إلى السماء، وإن مهمة الجيش بجميع أفراده منذ اللحظة، تتمثل في حراسة الجرادة وحمايتها من كل ضرر خارجي، والسهر على رعايتها وتوفير كل سبل الراحة المناسبة لها في وضعها الصعب.
لم تكن الجرادة أقل تأثرا وإدراكا للوضع التي تفاوض بسببه، من حديث رئيس وفد النمل المفاوض، فهي من عمق معاناتها ومن صميم إحساسها بفظاعة النهاية التي تنتظرها جراء تسرب أنفاس الحياة شيئا فشيئا منها، في هذا الخلاء المقطوع، مشلولة بشكل بائس وعاجزة عن الحركة، وعن الطيران كحجر ثقيل مرمي على قارعة الطريق، فهي في صميم معاناتها لوضعها الصعب وإحساسها بفظاعة دنو نهايتها، تدرك جيدا بأنها باتت مجرد مكافأة لصبر جموع النمل التي تحيط بها، مجرد مادة بروتينية هدية للنشاط والصبر تزجى إليهم.
إلى جانب حراسة جسد الجرادة في صراعها للنجاة من وضعها المريض والبائس، كانت مهمة الجيش توفير أسباب المعيشة لهذا الجسد من غذاء ومشرب: توفير الماء والغذاء الأخضر الطازج الذي يطلبه جسدها بنهم، كانت مهمة صعبة توازي في صعوبتها طاقة جيش بكاملة يعمل ليل نهار بكامل نشاطه وقوته في البحث عن الغذاء بمواصفاته الخضراء الطازجة وتوفيره إشباعا لنهم الجرادة في الأكل.
بعد أيام من الضيافة التي قام بها كافة أفراد الجيش على أكمل وجه ناحية الجرادة، ها هي تتحسن صحتها وتظهر عليها علامات النشاط والعافية، بفضل المكون الغذائي الذي يسري في عروقها، بدأت تحرك أرجلها في خطوات تستعيد الثقة بالنفس، وتلوح بقرنيها في اندفاعة إلى الأمام وهي تحرك رأسها وترفعه شامخا، تمضى في خطوات متعثرة، تدب مثيرة الهرج والمرج بين جموع النمل الذين راحوا يتراكضون في كل إتجاه خشية أن تصطدم بهم وتدهسهم بأرجلها العملاقة.
ظهر كما يبدو من الوهلة الأولى، بأن كل أوصالها بدت خفيفة حرة، لا أثر للمرض عليها وهي مبرأة من كل سوء، مستعيدة أولى خطواتها بكل ثقة إلى الحرية، لكنها حرية حتى الآن مربوطة بالأرض، ذلك بأن الثقل كل الثقل، وانعدام أدنى حركة، كأنه تركز على الجناح، فهي لا تتحكم بجناحيها وكأن الجناحين أصبحا مجرد ثقل زائد على الجسد، الذي ينشد بأن ينطلق بحرية ويعاود الطيران بفضلهما، كان الجناحين بالكاد يتحركان تحت إلحاح أوامر جسد الجرادة وحثه كل خلية فيه، بالانعتاق من القيد الأرضي، والتحليق عاليا.
مع الحركة والنشاط الذي بدأ يدب في جسد الجرادة، كان الخوف يتعاظم في أفراد جيش النمل من خسران مكافئة تفانيهم وصبرهم، كان نجاح الجرادة في التحليق وارتفاعها فوق رؤوسهم المشغولة بالمكافئة أو المسكونة بها إلى حد الهوس، يعني لهم في النهاية الخسارة من كل الجوانب، خسران المكافئة وضياع الجهد بعد كل ما لاقوه من تعب ومشقة أثناء مسيرتهم الطويلة، وانتظارهم الذي استغرق أياما طويلة، والذي استنفروا فيه كل طاقة الجيش، في خدمة الجرادة والعناية بها.
كان شبح العودة خالي الوفاض من نيل الجائزة، بدء يطل برأسه ويؤرق كل جندي في جيش النمل، الذي عقد اجتماعا على مستوى القيادة العليا للجيش، والذي من الواضح أن الدعوة إلى انعقاده كان تحت إلحاح جناح متشدد من القادة الذين يدعون إلى انتزاع المكافئة بأي ثمن، داعيا هذا الجناح إلى التنصل من روح الاتفاق الذي تم عقده مع الجرادة وذلك بأخذها غنيمة حية إلى أن يتكفل الجوع والعطش بإتمام بقية الاتفاق بسلاسة ويسر، لكن تصدي بعض القادة النزيهين في القيادة والذين يحافظون على وعودهم، ألجم هؤلاء وجعلهم يتراجعون عن مسعاهم، فكان الانتظار مهما بدى ثقيلا ومملا، لابد منه، لتنفيذ الاتفاق بين الطرفين. لم يكن أحد يتوقع بأن يكون هناك شيا مفاجئا وراء هذا الانتظار مهما طال وقته، فإما أن تتمكن الجرادة من الطيران والتحليق فوق رؤوسهم، أو الذهاب بالاتجاه إلى حال أسوأ من حالتها الراهنة وهو ما يقربها بأن تكون غنيمة ميته تتوج الاتفاق وتنهيه نهاية مرضية للجيش وأفراده الذين ينتظرون مكافأتهم كختام للاتفاق المبرم.
في صباح أحد أيام الانتظار المملة كان الجيش في موعد مع دخيل عملاق، هو واحد من الكائنات التي لا تعتمد على مبدأ التخزين في تحصيل غذائها والتي تقودها حاجتها دائما إلى الطعام في بداية اليوم، بعد أن تستيقظ على معدة خاوية، إلى التفتيش عنه، وطلبه بإلحاح، كل يوم بيوم، كانت الدجاجة بحجمها العملاق وحركاتها السريعة المهتاجة بسبب الجوع، بمثابة مشكلة صعبة لجيش النمل، عليه مواجهتها، فخلال الخطوات الأولى المفاجئة التي خطتها الدجاجة صوب ثكنة الجيش، استطاعت أن تدحر دفاعات جيش النمل في طريقها، وهي متجهة في خط مستقيم، بخطوات حثيثة ناحية نقطة الحراسة الأهم في المعسكر، حيث يوجد جسد الجرادة، تحيط به قوة ضاربة من مفارز الجيش، والتي تتكون من نخبة من الجنود في الجيش، تلك التي تتحمل دائما على عاتقها، القيام بمهام خاصة، تؤهلهم لادائها بمستوى عال من الاحتراف، شدة عريكتهم والتدريب المتقدم الذي اخضعوا له منذ بداية انخراطهم في العمل العسكري.
من بين كافة الكائنات تتركز حماقة الدجاج في ردود أفعاله، فالدجاجة دائما ما تكون في ردود أفعالها غير منضبطة، وهي سريعة الغضب لأتفه الأسباب، ما يجعلها تستشيط غضبا وحماقة في نفس الوقت، في موقف يتطلب التأني والتدبير والتخطيط، وهو الأمر الذي يقودها إلى حتفها في كثير من الأحيان.
لقد استغلت القوة الضاربة من نخبة الجيش التي تحرس الجرادة، هذا الغضب المنفلت في الدجاجة، ما أن توغلت في اقترابها من الموقع الأهم في ثكنة الجيش، فقاموا على استثارة ردود أفعالها الغاضبة، بقرصاتهم التي نفذوها بأنيابهم في سائر جسدها، مما جعلها تتخبط في حركاتها التي غدت بلا هدف سوى التنفيس عن شدة استيائها من قرصات النمل على جسدها، وهي تقوقء في غضب حانق لا يضار منه أحد في الحقيقة، ومع استمرار القرص على ذات الوتيرة، أرغم ذلك الدجاجة على مغادرة المكان، والهرب، وهي تجر أذيال الخيبة.
في أحلك ساعاتها تكتشف الجرادة في خضم المأساة التي تعيشها عالة على جموع النمل، في مأكلها ومشربها، وفي صون حياتها وتوفير الأمان لها، تكتشف في أحلك هذه الساعات التي تمر بها، بأن الأرض هي فخ لكل ما يطير واعتاد على التحليق عاليا، فخ سرعان ما يقود الطائر إلى مواجهة الهلاك في نهاية مأساوية، نهاية لكل من خانه جناحه عن التحليق وسقط في جوف الأرض ليستحيل رميما على أديمها، مجرد رميم أصبح من نصيب الأرض، مكونا غذائيا لها تزدرده في معدتها، يضاعف من خصوبتها.
أن مشاهدة بؤس الدجاجة وهي الكائن العملاق، تهزم بمذلة من كائنات ضئيلة لا تقارن بحجمها، جعلها تتعمق في مأساتها، فهي برغم سوء الحظ الذي قذفها إلى حضيض البؤس الذي تعاني منه حاليا، إلا أن العناية والاهتمام المكثفين التي تلقتهما من النمل في الأيام الأخيرة، جعلها أكثر شبها بالدجاجة في حالتها، الدجاجة التي استدرجها التدجين منذ أن كانت طائرا حرا في الغابات يحلق بجناحيه في السماء، لتتحول في فخه، إلى كتلة بليدة وحمقاء من اللحم، مكسوة بريش، وجناحين لا فائدة منهما سوى التخبط والقفز فوق الجدران الأقل علوا، وهي تهرب مذعورة من مشاكسات القطط وهجمات الثعالب الأكثر مهارة منها حتى، في القفز واعتلاء الحوائط والجدران.
بعد أن سمنت الجرادة وزاد وزنها، دخلت في أعراض الخدر والشلل التام الذي اجتاح سائر جسدها، وهو ما جعلها تقترب من الموت شيئا فشيئا في هدوء وفي تسليم تام لمعانقة مصيرها، نامت الجرادة تحت إلحاح الخدر والشلل الذي اجتاحها، والنوم يعتبر بمثابة الباب الخلفي الذي يدلف بنا للدخول في رحاب الموت، دخلته وهي مستغرقة في حلم تحلق فيه ضمن أسراب الجراد الذي تقوده شهيته النباتية لاقتحام الآفاق، كانت في مكان آخر تحلق بسعادة غامرة فوق شرفات السماء، خارج جسدها الذي تركته كمكافأة حسب بنود الاتفاق، للنمل الذين مضوا مسرعين به، وهم عائدين إلى الخلية، فرحين بغنيمتهم التي ستعزز مئونتهم لاستقبال الشتاء ببطون لا يهددها الجوع.