مدخل إلى التسامح الديني والحوار الحضاري خلال العصر الرقمي
هل يمكن للشرط التاريخي أن يعيق سيرورة بناء التعايش والتسامح في عالم اليوم؟ كيف يمكن للإنسانية أن تصفح عما لا يقبل الصفح وما لا يقبل التقادم والغفران؟ إلى أي حد يمكن الرهان على العالم الرقمي للانتقال من ثقافة العفو إلى ثقافة الصفح؟
شكلت العلاقة بين العفو والصفح والغفران قضية سجال وحوار مستمر بين الفكر الفلسفي والفكر الديني طيلة قرون، قبل أن يتم النظر إليها كونها مدخل رئيس لتحقيق الحوار الحضاري والتسامح الديني بين الإنسانية خلال العقود الأخيرة من خلال ربطها بالممارسة السياسية، بتعبير فتحي المسكيني، من جهة، والرهان عليها لتنظيم العلاقات الإنسانية داخل المجال العام، بما في ذلك العالم الرقمي، من جهة أخرى. وتبعا لذلك، لم تعد هذه المسألة مرتبطة بالفكر الفلسفي والديني، أو حتى السياسي، بقدر ما أصبحت مقولة إنسانية يتم بموجبها تجسير الحوار حول المشتركات الإنسانية للخروج من لوثة العصبيات الثقافية، التطرف والإرهاب والعنف واعتناق المنطق الأخلاقي للوجود الإنساني.
في الشرط الإنساني للعفو:
يقترن العفو بالمسامحة والتجاوز والقدرة على النسيان دون محو الأثر. إنه فعالية أخلاقية نابعة من دافع إنساني نحو التسامح والتعايش والحوار دون إسقاط شرط الرغبة في العقاب أو المحاسبة. لهذا، يحدث أن يغفر الإنسان دون إطفاء نار الرغبة في الانتقام. في هذه الحالة، نكون أمام عفو دون صفح وتجاوز حقيقي. في الواقع، ترتبط مسألة العفو بالتنظيمات الاجتماعية والسياسية التي تسامح وتعفو عن المذنب دون أن تنسى خطأه من جهة، تربط العفو برهانات إستراتيجية بالأساس من ثانية، وتذكّر بأن شرعنة العقاب أو العفو تظل فوقية الإنتاج من ثالثة. نتيجة لذلك، يكون العفو مرتبطا بمصالحة مشروطة برهانات خاصة قد تسهم في تحقيق التعايش والتسامح والحوار الظرفي إلا أنها لا تصل إلى مرحلة تخليص الذاكرة الجمعية من لوثة التعصب والانتقام والعنف التي لا تتقادم ولا تنساها الأجيال المستقبلية دون وجود صفح تام.
إن العفو إنساني بطبعه ورهين بحاضر الجماعة، لا يتصالح مع الماضي بشكل أخلاقي خالص ولا يستشرف المستقبل باسم حماية المشتركات الإنسانية. لقد أظهر تعقيد الشرط المنتج للعديد من الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية أن العفو وحده غير كافٍ للمصالحة مع التاريخ، الذاكرة والماضي الإنساني دون وجود نية خالصة للصفح المطلق عن الذنب أو الفعل المرتكب من قبل الضحية. يظل العفو مدخلا للتسامح متى اقترن بإرادة الصفح وتجاوز العلاقة العمودية المنتجة له أو الرهانات المنظمة للقول به. إننا نعفو عند المقدرة عن ذنب لحقنا في الماضي أو الحاضر دون أن نفكر فيما إذا كان أبنائنا وأحفادنا سيعفون أم سينتقمون؟
في الشرط الفلسفي للصفح:
إن الصفح مسار فعل يحوي الذاكرة، التاريخ والنسيان وينطلق من ينبوع عدم التناسب القائم بين الذنب والصفح، بلغة بول ريكور، بين عمق الذنب وعلو الصفح. لهذا، تتم مناشدة الصفح مدخلا للتسامح من جهة، ولضمان عدم تكرار الذنب والخطأ من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، لا يعني الغفران نسيان الذنب وإنما النظر إلى الماضي بعيون المستقبل. إنها معادلة صعبة وتتطلب شجاعة كبرى تتوسل بالعقل والأخلاق والتاريخ والذاكرة طريقا لها. تبرز الحاجة إلى الغفران لمجاوزة الشر نفسه. فمادامت “تفاهة الشر” تربط الأفعال الشريرة بأبسط الناس ومن لم نتخيل أنهم قد يرتكبون أبشع الجرائم، بلغة حنا أرندت، فإن مناشدة الصفح يجب ألا تنفصل عن الشرط الإنساني وتصبح قاعدة أخلاقية كونية مرتبطة بالشروط الموضوعية والذاتية المنظمة لحياة مختلف الأفراد والجماعات الإنسانية على اختلاف مرجعياتها الثقافية والأخلاقية.
إن الصفح كذلك يقترن بالقدرة على التوقف عن التفكير في الشر عينه، أو إعدامه، وبالتالي التفكير فيما لا يقبل الصفح الذي هو الملازم الممكن الوحيد لصفح جدير بهذا الاسم، بلغة جاك دريدا. بمعنى، أنه لا يمكن التفكير في الصفح إلا إزاء الأفعال التي لا تقبل الصفح ولا تقبل التقادم. لا يرتبط الصفح إذن بالمؤسسات أو الجماعات بقدر ما يستلزم المواجهة فردا لفرد بين المذنب ومرتكب فعل الشر والصافح من أجل المحو الأخلاقي للأثر النفسي الذي يلحق الذات وضمان عدم تكرار الخطأ. في الواقع، لا يستلزم طلب الصفح من أجل منحه، بل أعمق الصفح وأبلغه ما يمنح دون طلبه أو يمنح في عمق الأزمات الجذرية ودون وجود نية الإقرار بالذنب أو التوبة. إنه سلوك روحي وأخلاقي سامي يستلزم قوة تتجاوز منطق الجرح والانتقام نحو التفكير في المشتركات الإنسانية والتعايش والتسامح بين بني البشر. لن يكون هناك معنى لطلب الصفح وأخذه من عدمه، بل تأثيره في المذنب وفعل الشر الخالص نفسه يكمن في تجاوزه وإعدامه بقوة الأخلاق والرابطة الإنسانية التاريخية والكونية.
يظهر إذن أن الصفح أعمق من العفو. إنه يتطلب شجاعة خاصة لقبول مقولات “اللاعنف” و”اللانتقام”، بلغة غاندي، إزاء الأفعال والجرائم والشرور التي يظهر أنها تتجاوز الشرط الإنساني نفسه. لهذا، لا يمكن تصور أي فعل، كيفما كانت درجة شره الجذري، إلا وكان قابلا للصفح دون طلبه؛ بل إن الشر المطلق هو الجذير بالصفح. فالأقوى في هذه المعادلة ليس الشر، الذي يمر دون عقاب أو انتقام، وإنما فعل الصفح الأخلاقي الذي يتعالى عن منطق العقاب نحو المجاوزة ونسان الأثر من الذاكرة أو على الأقل النظر إليها من منظور العلاقة بين الماضي والمستقبل من جهة، والانتصار لقدرة الأخلاق والتسامح الروحي على استذكار المشتركات الإنسانية في ظل الأفعال التي تبدو غير قابلة للصفح أو النسيان من جهة أخرى.
في الشرط الديني للغفران:
يتم استعمال لفظ الغفران رديفا للفظ الصفح في الكثير من السياقات. فكلاهما يتجاوز منطق العفو عند المقدرة دون القدرة على نسيان الأثر، وكلاهما لا يقبلان بحدود للصفح والتجاوز ولا يشتغلان إلا إزاء الأفعال غير القابلة للتقادم والصفح. لكن، يختلف الغفران عن الصفح باستلزام الاعتراف بالذنب وطلب التوبة. في هذا المستوى، يصبح الصفح متجاوزا للشرط الإنساني في حد ذاته نحو الشرط الديني. يمكن أن يصفح الإنسان عن مختلف الشرور التي تلحق به وينسى آثارها المختلفة، إلا أن القطع مع مصدر الشرور يستوجب طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى. تبعا لذلك، وكما أن الصفح يجب أن ينبع من إرادة أخلاقية سامية للتجاوز، فإن الغفران يشترط إرادة أخلاقية خالصة لدى المذنب للتوبة النصوحة والقطع مع مصدر الشر، كيفما كان نوعه، في حضرة الرعاية الإلهية. لهذا، يمنح الغفران لمن يطلبه ولمن لم يطلبه، شريطة أن يطلب المغفرة من الله تعالى أولا. نتيجة لذلك، يسمح الغفران بقطع مصادر الشر الجذري في الإنسان، كيفما كانت تفاهته، من خلال مصالحة الحاضر بالماضي والمستقبل في ظل توجيه الشرط الديني.
في الحاجة إلى صفح رقمي:
تبرز الحاجة إلى الصفح الرقمي من منطلق أن العالم الرقمي قد أضحى يشكل جزءا رئيسا من تفاعلاتنا اليومية العابرة للحدود الوطنية، الثقافية، الاجتماعية والدينية. إذا كان الصفح يستلزم التفاعل الفردي، أو الجماعي، بغرض المجاوزة والتسامح، فإن أخلاق الصفح يجب أن تكون محركا أساسا لمختلف التفاعلات التي تجمعنا بجماعة الأغيار، كيفما كانت طبيعتها. لقد أظهرت صدمة الجائحة أن اعتمادنا على التقنيات الحديثة، العالم الرقمي وتفاعلنا مع الثورة الصناعية الرابعة يجب أن يستتبعه نقاش مجتمعي عميق حول أهمية تطوير منظومة أخلاقية تتلاءم وهذه التحولات الكونية. لهذا، من المهم التفاكر والتعاقل حول أخلاق العفو والصفح والغفران بوصفها مدخلات رئيسة للتفكير في المشتركات الإنسانية، التسامح الديني والحوار الحضاري، كيفما كانت مجالات، حوامل وسياقات التفاعلات الإنسانية المستمرة.
إن العالم الرقمي يفتح إمكانية التفكير في الصفح والغفران كونها مرتكزات أخلاقية للتفاعلات الرقمية مع الأغيار من جهة، ومن جهة أخرى يوفر الحامل الرئيس لنشر هذه الأخلاقيات على نطاق واسع. وإذا أردنا أن نجعل الحوار والتسامح والتعايش مدخلات أساس لتفاعلاتنا الواقعية، فمن الضروري استحضار الشرط الرقمي باعتباره صوت المستقبل والذي يستلزم تأطيره أخلاقيا، فلسفيا ودينيا حفاظا على الطابع الإنساني للعوالم الرقمية المتحولة والمتطورة باستمرار.
الهوامش:
- فتحي المسكيني، الفلاسفة و العفو ..تمارين في الغفران، https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=349582
- بول ريكور، الذاكرة التاريخ النسيان، ترجمة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009، ص: 661.
- جاك دريدا، الصفح، ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم، ترجمة: عبد الرحيم نور الدين ومصطفى العارف، منشورات المتوسط 2018، ص: 67.
- المرجع نفسه، ص: 25.