شذرات فلسفية في العشق من وحي اليوم العالمي للحب

كتب بواسطة عبد الصمد زهور

في البدء، الحب ليس امتلاكا
جعل الفلاسفة الحب صلة وصل بينهم وبين الحكمة، وقالوا عن أنفسهم أنهم ليسوا بحكماء، ما الذي يعنيه ذلك؟ معنى ذلك أن الحب في اللغة اليونانية لا يعني امتلاك المحبوب بقدر ما هو سعي دائم لتحقيق هذا الامتلاك، إن الحب الحقيقي يكمن في المطالبة المرفقة بالممانعة، وكل مطالبة ليست معها ممانعة لا يعول عليها بلغة ابن عربي، ذلك هو ما يجعل الأنثى المتمنعة عنا دوما، مرغوبة من قبلنا دوما.

في الأصل، الحب عودة إلى الأصل الإنساني
بجعل قصة الخلق موضوعا للتأمل الفلسفي، يظهر أن الإنسان في البدء لم يكن إلا واحدا، بل إنه لم يكن واحدا ذكرا أو أنثى بل كان إنسانا كاملا، فما كان من الممكن أن يحب إلا ذاته، وما كان ينبغي أن يبحث عنه كان يوجد فيه، غير أن الخطيئة العظمى انشطر معها الإنسان إلى ذكر وأنثى وعن ذلك تولد الحب من حيث هو رغبة في العودة إلى الأصل، وهكذا يكون حب المرأة للرجل رغبة منها في العودة إلى أصلها لأنها خلقت من ضلعه، وحب الرجل للمرأة رغبة منه في العودة إلى أصله فقد خرج من بطنها.

الاتصال في ضرورة ربط الصلة بالمتعالي
لا يتحقق الحب كونه اتصال جسدي بين الذكر والأنثى فقط، بل يمكن أن يتحقق كونه اتصال روحي بين الخالق والمخلوق، ما دام الأول قد نفخ من روحه في الثاني، وفي كلتا الحالتين تبقى ماهية الحب واحدة، من حيث كونه محاولة للعودة إلى الأصل تستلزم تضحية وشقاء، إنه محاولة الاتصال، في بعدها الإنساني تتخذ طابعا جسديا، وفي بعدها الإلهي تتخذ طابعا روحيا، وهذا ما راهن عليه المتصوفة عندما تغنوا بالحب والعشق والوجد والهوى وآمنوا بإمكانية الاتصال والحلول.

مهلا، فالحب حرب
في بحثه عن الأصول الأسطورية التي حكمت التصور الغربي للحب بيّن فياتشيسلاف شستاكوف Vyacheslav Shestakov في كتابه “الإيروس والثقافة: فلسفة الحب والفن الأوروبي” كيف أن الأساطير اليونانية القديمة ترصد بداية الإنسان كبداية مزدوجة ليست بذكرية خالصة ولا بأنثوية خالصة، فهي لم تصر كذلك إلا بعد أن ارتكب الإنسان خطيئته، فعوقب بأن شطر إلى نصفين، ذكر وأنثى، ومنذ ذلك الحين وكل إنسان يبحث عن نصفه الثاني، فإن عثر عليه حق له أن يكون سعيدا، وإن أخطأ التقدير فتلك طامة الحياة وركيزة التعاسة فيها.
شيء من ذلك نجده عند الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche في قوله أن الحب على الحقيقة حرب، فالمرأة لا تحب إلى محاربا، قادرا على موجهة الكثرة من أجل الاتصال وتحقيق الوحدة الحقيقية وليست تلك الوحدة المتوهمة بالظفر بأي كان، وهذا ما حصل له في قصته بمحبوبته التي رأت نصفها الحقيقي في فاغنر Wagner وليس فيه. لقد جن الرجل يا لوسالومي Lou Andreas-Salomé.

رمزيات القوس والسهم وزبد البحر
الإله إيروس في الأسطورة اليونانية إله مسلح بالقوس والسهم، وهو إله الحب في الثقافة اليونانية القديمة، ذلك ما يفسر كيف أن محبينا يعبرون عن حبهم لمحبوباتهم باختراق القلوب بالأسهم على الجدران، وعلى طاولات المدارس، وفي رسائل العشق، أما إلهة الحب عندهم فقد خلقت من زبد البحر، وهو ما يفسر ميول المحبين إلى الجلوس على شاطئ البحر كلما أتيحت لهم فرصة الاقتراب من بعضهما البعض. ما معنى ذلك؟ يعني ذلك أن رمزيات الحب ليست لها حدود ثقافية صارمة، فالحب معطى كوني.

الحب في تعددية المسمى
هو في الثقافة الغربية إما جسدي يرمز إليه بالإيروس Eros، وإما أخوي ذو طبيعة روحانية يرمز إليه بالأغابي agapy ، وإما ذو طبيعة أخلاقية تقترب من معنى الصداقة ويرمز إليه بفيليا philia، أما عندنا فهو الحب، وهو الهيام، وهو الصبابة، وهو العشق، وهو الهوى، وهو الوجد، وهو التتيم. إنه ماهية الوجود الأرضي للإنسان من حيث هو وجود وجب الارتقاء عنه إلى وجود ينطبع بطابع الخلود ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحب بمختلف درجاته التي ترمز لها مسمياته.

طوق الحمامة فقيه يتحدث عن الحب
يعد “طوق الحمامة في الألفة والألّاف” لابن حزم من أروع ما كتب عن الحب في ثقافتنا الإسلامية، وابن حزم فقيه يكتب عن الحب مما يعني أن الحب ضرورة للحياة في أشد النصوص حياء. أولم تأتِ تمشي على استحياء؟ أولم يشغف امرأة العزيز حبا؟ أولم يشرب من حيث كانت تشرب؟ يحدثنا ابن حزم أن للحب علامات: كثرة التبسم، والسهر، وخفقان القلب عند رؤية المحبوب وعند سماع صوته. كما يحدثا عن أن الوقوع في الحب يكون بطرق شتى: قد يحصل من نظرة واحدة ليس لها ما بعدها، وذلك أشد العذاب، وقد يحصل بالسمع، وقد يحصل بأني يحكي أحد عن المحبوب فتميل النفس إلى صفاته دون رؤيته. أما عن الزيارات فيقول أن ما جرت به العادة هو أن يزور المحبوب محبوبته، أما أن تزور المحبوبة حبيبها فذلك وجه نادر، لكن هيهات أن يصح ما يقول ابن حزم مع بنات اليوم، فهن أشد جرأة من لولدان.
يحذرنا ابن حزم من الصديق (مرسول الحب) ويحكي حكايات عن أن هنالك من كان له رسول إلى محبوبته يوصل إليها أخباره ويأتيه بأخبارها حتى استفرد بها دونه، وعليه وجب أن يكون اتصال الحبيب بالمحبوبة اتصالا مباشرا فكلما تكاثر وتداخل الناس في علاقة المحبين ببعضهم كان ذلك سببا من الأسباب المنذرة بالخراب، وقس على ذلك فيما يتعلق بالأسرة.

الحب والزواج، لمن الأسبقية؟
عن ذلك اختلف المختلفون، ومن بينهم الفيلسوف الألماني هيغل Hegel، وزعيم الوجودية سورن كيرغوكارد Kierkegaard، فقد رأى البعض أن الزواج لا يمكن أن يتحقق بغير حب، لأن الزواج ميثاق مغلظ يصعب التراجع عنه ولذلك وجب أن يتوطن الحب في النفس قبل الإقدام عليه، وهنالك من رأى أنه لا سبيل لتحقق الحب إلا بالمداومة والمطاولة التي تستوجب الزواج، فالحب ليس شيئا يُعطى وإنما هو شيء يُبنى، وعن الآخرين يقول هؤلاء أنه كم من زواج تم بمسمى الحب وفشل، وكما من حب تولد مع الزواج وطال واستدام.

في الأولاد العودة إلى الأصل عودة تحيل على المستقبل لا على الماضي
قيل أن الحب محاولة للعودة إلى الأصل لأن الإنسان في البداية كان واحدا لا اثنين، وهنالك من رأى أن هذه العودة تسير عكسا نحو المستقبل وليس نحو الماضي، فولادة الأولاد لا تتم إلى باتصال روحي وجسدي بين المحبوب وحبيبته، ويكون المولود لا الأم وحدها ولا الأب وحده، وعليه فهما يجتمعان مجددا في الابن رمز الخلود الذي كان يتغنى الإنسان به في البدء.

الحب الأول، لماذا لا يُنسى؟
كتب بول ريكور Paul Ricœur، الفيلسوف الفرنسي المعاصر، كتابا بعنوان “الذاكرة والتاريخ والنسيان” وطرح ضمنه سؤالًا حول لماذا نتذكر ما نتذكره وننسى ما ننساه؟ وفسر ذلك بما سماه قانون التجربة الأولى، فالتجارب الأولى التي يمر بها الإنسان في حياته لا تنسى لا لشيء إلا لأنها الأولى، كذلك نحن نتذكر أول يوم لنا في المدرسة، ونتذكر أول مرة دخلنا فيها المستشفى مع شخص مقرب أجرى عملية جراحية، ونتذكر أول حادثة سير وقعت لنا في حياتنا، ونتذكر كذلك أول محبوب. ما الذي يعنيه ذلك؟ لا تجعل نفسك سجينة تجربة مرت ولم يعد من الممكن أن تتحقق من جديد، ابحث عن حب جديد وستجده، وتذكر لها، وتذكرك له، ليس إلا فعالية لقانون غير مرتبط بالحب بقدر ما هو مرتبط بالذاكرة. ما زال بإمكانك أن تُحِبَ وأن تُحَبَ.

المرأة، لماذا تتمنع المرأة عن البوح بالحب لمحبوبها؟
في الحقيقة لا جواب واضح لدي، ربما ترى نفسها في علاقة الحب منفعلة وليس فاعلة بسبب القوامة ورمزية الجسد لدى الذكر والأنثى، غير أن ذلك يضيع فرصة العثور على الحب الحقيقي، لا بأس في أن تبوح المحبوبة بحبها لمن تحب فليس ذلك بانتقاص منها ما دام ليس بانتقاص من الرجل ذاته عندما يبوح بحبه لمحبوبته، فإدخال منطق المحاسبة على الحب يفسده.

يمكنك أن تقرأ عن الحب. لمن؟
لأمبادقليتس Empédocle لتفهم الحب بمعناه الأنطلوجي الموحد للأستقصات الأربع، ولأفلاطون Plato “المأدبة” فهي في الحب في نقائه الأفلاطوني الصاعد إلى عالم المثال، لا تنسَ أرسطو Aristote فمعنى فيليا يتجاوز الصداقة إلى المحبة، واحذر من حب المنفعة وحب المتعة ورم حب الفضيلة، وأيضا طوق الحمامة لابن حزم إذا أردت أن تظفر بحمامتك، أيضا لابن عربي عن العشق الإلهي، واقرأ شذرات حول الحب لرولان بارت Roland Barthes، وأقرأ أيضا ستة تأملات في الحب، والفلاسفة والحب، ومشكلة الحب، قبل كل ذلك طالع حياتك أيضا فهي مليئة بالحب.

أدب العدد الأخير العدد الثامن والعشرون بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

عبد الصمد زهور