الإرادة والحظ في صناعة المشروع الإبداعي

كتب بواسطة لبيد العامري

إذا حاولنا أن ننظر إلى مفهوم صناعة المشروع الإبداعي من جانب الحظ والإرادة، ففي أحيان يطغى جانب الحظ على جانب الإرادة، وأحيان أخرى يهيمن جانب الإرادة على جانب الحظ؛ لكن دون شك أن جانب الإرادة، حتّى لا نبخس أهميتها القصوى، هو أساس نجاح أبرز المشاريع الإبداعية، التي تعتمد على منهجية، عادة لا تكون ظاهرة، بل مبرمجة في وجدان المبدع. ومن هنا فإنّ مفهوم الإرادة يفوق محدوديته الإبداعية كونه أحد ركائز الوجود، وطريقة عيش وفعل مقاومة، كما ارتكزت على ذلك فلسفة آرثر شوبنهاور، و”إرادة القوة” لدى فريدريك نيتشه، فيقول نيتشه: “لا تمشِ في طريق من طرق الحياة إلا ومعك سَوْط عزيمتك وإرادتك؛ لتلهب به كل عقبة تعترض طريقك.”

في جانب الحظ، فبإمكاننا أن نوضّح أكثر ما نقصده بالحظ في الحقل الإبداعي بتقسيمنا له إلى قسميْن رئيسين: الحظّ المتعلق بالموهبة، والحظ المتعلق بالمسيرة. أما فئة حظ الموهبة، فهو يعتمد على الموهبة الفطرية التي تعلقت بخلقة المبدع البيولوجية والسيكولوجية أو حتى الفيسيولوجية. وتجدر الإشارة هنا أن المبدع الذي يكتشف مكمن طاقته الإبداعية يستطيع أن ينميها ويُغذّيها بالمعرفة والتجربة. ولسنا هنا بصدد تفسير كيف تأتي الموهبة، فالموهبة، منذ القدم، مسألة شائكة صَعِبَ على القدماء تفسيرها، لذلك نرى أنّ قدامى العرب كانوا يعتقدون أن لدى الشاعر قرين جني من وادي عبقر يلقّنه ويمدُّه بالشِّعر.

أما في حظ المسيرة، فهو الحظ الذي يصاحب الفنّان أو الأديب في مسيرته الإبداعية، قد يعود ذلك لفعل الصدفة التي ترفع من مبدع وتحطّ من آخر، فإذا أمعنّا النظر أكثر، سنرى بجلاء أن بعض المبدعين سطع اسمهم وخلّدهم التاريخ، في حين آخرين، لا يقلّون إبداعًا عنهم، لا بل يفوقونهم إبداعًا وتمكّنًا، لكن لا نرى لاسمهم ذاك السطوع والنجاح الذي حصده غيرهم. قد يقول قائل إن ذلك ربما يعود لعدة عوامل مؤثرة كالبقعة المكانية والفترة الزمنية، أو حتى شخصية المبدع والعلاقات والسعي وراء الأضواء.

بعد هذا الاستهلال، وفي السياق نفسه، كنت عاكفًا، قبل أيام معدودة، على أعمال الشاعر الفرنسي العالمي الذي وُصِفَ بموهبته الشعرية الخارقة حيث أنه بدأ كتابة الشِّعر في سنٍّ مبكرة، ثم توقف عنه بشكل كامل وهو في بداية العشرينات من عمره، إلّا أنّه يُعتبر أحد أهم رموز الشِّعر الفرنسي والعالمي، هو آرثر رامبو. استدركني مقطع قصير من قصيدته “المركب السكران” يقول فيه: “تركتني الأنهار أنحدرُ حيثما كنت أشاء” وأنا أكتنه هذه العبارة العميقة، استحضرت بتلقائية فلسفة النهر لدى هِرقليطس، التي يُلخّصها في شذرة مختزلة يقول فيها: “إنك لا تستطيع أن تسبح في النّهر مرتين، لأنّ مياهًا أخرى ستغمرك من جديد”.

فهِرقليطس الذي أسقط على حركة النهر الدائمة رمز ديمومة الوجود والتغير الدائم والزمن المتحرك دون توقف، ربما كان رامبو في قصيدته يقصده تماما، هو ذلك النهر، نهر حياته، الذي ساقه حيث هو شاء وأراد. بينما في سياق مشابه ومتعلق بما نتحدث عنه، حيث النّهر، نهر الحياة، هو الثيمة الرئيسية، يقول الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر في إعلائه من قيمة الإرادة والعمل التطبيقي: “عن السباحة، فقط قفزة في النهر ستخبرنا”.

في المقابل، كانت نظرة شاعر العرب العظيم أبو الطيب المتنبي تتعارض مع فلسفة آرثر رامبو، فيقول في بيته الشهير:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه       تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

في أحيان كثيرة، قد لا تكون للمبدع تلك الإرادة الكبيرة والرغبة في الإنجاز والتحقيق والعمل على مشروع إبداعي له أثره، لكن تلعب الموهبة، التي تنتمي إلى فئة الحظ، دور ذلك كله بفرض نفسها بتلقائية وآلية، كأن يرسم الرسام لأنه يحب الرسم أو يعتبره ملاذا ومتنفسًا لما يعتلج في روحه من أحاسيس وأحزان وعواطف، أو لأمور أخرى، في حين لا تتصف تلك اللوحات التي رسمها بالعادية، بل تكوّن تجربة إبداعية ثرية وقيمة. يحيلني هذا السياق، دون إرادة مني، إلى ما قاله محمد الماغوط في المقابلة الأخيرة، قبيل وفاته، على قناة الجزيرة 2006، يقول فيها:
“ما كان يخطر لي في يوم من الأيام أن أصل الّذي وصلت له”.

وفي أحيان أخرى، وهذا يحدث بكثرة، أن يستزف الفنان والكاتب كل إرادته وعزيمته في تحقيق ما يصبو إليه، لكن لا يتحقق سوى القليل مما أراده أن يكون، بفعل إرادته، ويعود ذلك لافتقاره وعوزه للحظوظ، كالموهبة الكافية أو الشخصية التي تتوافق مع مهنته، والبقعة المكانية والزمانية وأمور أخرى. فيقول أبو العلاء المعري:

ولا تطلُبنَّ بغيرِ الحَظِّ رُتبةً      قلمُ الأديبِ بغيرِ حَظٍّ مِغزلُ

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل الإرادة أم الحظ من يحقق المشروع الإبداعي؟

كثير منّا يقول لا يمكن أن نحقق أي شيء دون إرادة وعزيمة، أي برغبة ودافعية ذاتية، فيقول نيتشه: “لا يمكن لأحد أن يبني لك الجسر الذي تعبر منه لتغيّر مجرى حياتك، لا أحد يمكنه ذلك سواك أنت”.

لذلك هنا أعدُّ الإرادة هي الأساس والمقوّم لكل مشروع إبداعي حقيقي. فيصعب جدا، إلا ما قلّ، أن ينجح كاتب، معتمدا على موهبته فقط، أو على حظوظ أخرى كوجوده في بقعة مكانية تحترم المبدعين، دون استخدام وقود عزيمته وجهده وتنمية موهبته وتغذيته لها بالثقافة والاحتكاك والممارسة.

لكن دعنا كذلك لا نقلل من أهمية الحظ، كالموهبة التي هي الطاقة المختزنة في كل كائن بشري، ويختلف موضع مكمنها من إنسان إلى آخر، والفائز هو من يكتشفها ويعتقها من محبسها. لذلك في الخلاصة نقول إن كل مشروع إبداعي يحتاج بشكل أساسي إلى عنصري الإرادة والحظ، اللذين ينصهران في بوتقة المشروع الإبداعي الحقيقي. فأغلب المشاريع يتوفر فيها هذان العنصران الحيويّان، ولو بعض من أجزائهما، لخلق تجربة إبداعية متحققة. فكل من العنصرين مكمل ومتمم للآخر؛ لينصبا بانسياب، ملتحمين وذائبين، في كأس المشروع الابداعي الناجز.

أدب العدد الأخير العدد الثامن والعشرون بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

لبيد العامري