طغيان التنوير!

كتب بواسطة مصطفى شلش

عام (2018) أعلن الملياردير الأمريكي بيل غيتس أن كتاب “التنوير الآن” لعالم النفس ستيفن بينكر هو كتابه المُفضل عبر العصور، بينما أعلن بيت الحكمة 2.0 (مشروع يهدفُ إلى إثراء ويكيبيديا العربية والمحتوى العربي على الإنترنت، أطلقته منظّمة أفكار بلا حدود بالتعاون مع مؤسسة أنا أصدق العلم في نهاية عام (2018) عن ترجمة كتاب “التنوير الآن” للعربية وبطبع الآلاف النسخ وتوزيعها بصورة مجانية. ما يدفعنا لتساؤل: هل ستيفن بينكر هو فيلسوف عصر التنوير الحديث؟
من بعض النواحي، تبدو إجابة نعم معقولة، ولكن على عكس معظم المفكرين المعاصرين يكتب بينكر بحماس عن مجموعة واسعة من المعرفة البشرية من العلوم الإنسانية إلى العلوم الاجتماعية إلى الفيزياء والبيولوجيا، ويعرف كيف يجذب جمهورًا عريضًا إلا أن كتاب “التنوير الآن” يعد كتاب عقائدي يقدم رؤية مفرطة في التبسيط ومتفائلة للتاريخ البشري ووصفًا تكنوقراطيًا صارخًا لمستقبل البشرية. كما أنه يعطينا مشهد لأستاذ في واحدة من أعظم جامعات العالم (هارفارد) وهو يعامل المفكرين بازدراء بعكس الكتّاب العظماء في عصر التنوير، فقد كانوا متشككين في الغالب، ومُقدرين للتعقيد، ونادرًا ما تجنبوا الصعوبات وكانوا عمومًا يحترمون عميقًا ما تعلمه أولئك الذين سبقوهم.
على الرغم من كل الكآبة التي تسود اليوم، يجادل بينكر، أن الأشياء الجيدة – في الواقع، أكثر ما كانت عليه على الإطلاق، وبشكل أكثر تحديدًا، يعيش البشر اليوم حياة أطول وأكثر أمانًا وصحة وثراءً، بل وأكثر سعادة من أي وقت مضى في التاريخ المسجل، وهم يفعلون ذلك بفضل عصر التنوير. وإن القول الرافض السائد لهذا في ثقافتنا هو ببساطة خطأ نتج عن التحيزات المعرفية التي تفاقمت بفعل تأثير المثقفين الحمقى والسياسيين الجاهلين.
لذا تجدر الإشارة هُنا أن بينكر لم يكن واضحًا تمامًا في تعريفه “التنوير”، حيث يعرفه مرة بأنه وفرة مِن الأفكار المتناقضة، ومشروع فكري متماسك في أخرى، ومع حصر مرحلة التنوير في ثلثي القرن الثامن عشر بدون إشارات كثيرة لمفكرين تلك الحقبة الزمنية، مُركزًا على أربع موضوعات هم: العقل والعلم والإنسان والتقدم، مع تقديم تعريفات فضفاضة جدًا لكُل منهم، مثل العلم: تقنية عقلية لفهم العالم، كما يرى الإنسانية مِن منظور إلحادي صارم على غرار ريتشارد دوكينز لذا فالعقل مُهدد مِن قبل إيمان يعدّهُ بينكر: فكر مشكوك فيه وخطير أخلاقيًا.
لا يهتم كتاب بينكر بتقديم تأسيسي تعريفي لمفاهيمه، بل يُركز بشكل أكبر لسرد الإنجازات الهائلة التي حققها الجنس البشري في العصر الحديث وفقًا لمجموعة من المقاييس أهمها:

  1. متوسط العمر المتوقع،
  2. الوفيات بسبب المجاعة،
  3. وقت الفراغ،
  4. الانتشار النووي،
  5. التلوث،
  6. الديمقراطية، وحقوق الإنسان وقيم الليبرالية،
  7. محو الأمية ومستويات الفقر المدقع،
  8. الرضا عن الحياة.
    في كتاب سابق له بعنوان (The Better Angels of Our Nature) أكد بينكر على أن العالم يشهد انخفاضًا في العنف والحرب، لكن في كتاب “التنوير الآن” يقوم بتعميم حول كل الوجود الحديث مؤيدًا رؤيته بمجموعة كبيرة مِن الرسوم البيانية التي يلخصها قوله: ” لقد نجح عصر التنوير، ربما تلك أعظم قصة نادرًا ما يتم سردها!”.
    لكي نكون منصفين، فإن بينكر محق في أن الكثير من الأخبار الجيدة اليوم قد لا يتم إذاعتها، وربما لا يدرك معُظم سكان العالم أن معدلات الفقر المدقع قد انخفضت على مدى العقود القليلة الماضية، إلى جانب المعدلات العالمية لوفيات الحروب، والوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية. وكان بينكر محقًا أيضًا في أن العديد من المراقبين البارزين في الماضي قللوا بشكل صارخ من قدرة الجنس البشري على استخراج المزيد من الموارد من البيئة وأفرطوا في تقدير احتمالات نهاية العالم الوشيكة.
    صحيح أن المثقفين، مثل الصحفيين، يميلون إلى الاهتمام بالأخبار السيئة أكثر من الاهتمام بالأخبار الجيدة. لكن إستراتيجية بينكر بالذات تظهر مدى سوء فهمه لدور الصحفيين والمثقفين بالفعل، فهو يجادل أنهم يفعلون ذلك جزئيًا بسبب نوع من الخلل الإدراكي، وهنا يعتمد على المفاهيم النفسية مثل “التحيز السلبي” والتي تشير إلى أن الناس يحكمون على الأحداث بأنها أكثر احتمالية إذا طرأت على أذهانهم المزيد من الأمثلة، وأن الأحداث والأفكار السلبية لها تأثير نفسي أعمق من الأفكار إيجابية. لكن ما تغفله إستراتيجية بينكر التفسيرية هي أن أحد أدوار المثقف والصحفي هي تحديد المشكلات والانتهاكات والتهديدات، لمساعدة الجمهور وصناع السياسات على فهمها والبحث عن حلول لها ما يعني أن “التحيز” قد يكون له عواقب مفيدة.
    ولكن حتى لو سلمنا أن الحياة البشرية قد تحسنت بالفعل في العديد من المجالات بشكل كبير خلال القرنين الماضيين، فما يزال هناك سؤال بسيط: هل يمكننا الاعتماد على استمرار التقدم؟ ماذا عن تغير المناخ، على سبيل المثال؟ لا يُنكر بينكر تغير المناخ، ويعترف بأن “التحدي مروع”. لكنه سرعان ما يستند إلى موقفه بأن الأمور تتحسن ويمكننا تجنب الهلاك الذي يلوح في الأفق فقط إذا بدأنا بفرض ضرائب على انبعاثات الكربون، وزيادة استخدام الطاقة النووية، والانخراط في هندسة مناخية متعمدة لخفض درجات الحرارة العالمية.
    يتجاهل بينكر بشكل كبير حقيقة أن الإرادة السياسية للتحرك في أي من هذه الاتجاهات المتفائلة مفقودة تمامًا، وعندما يتعلق الأمر بالحل التكنولوجي المفضل لديه: أي الطاقة النووية، يبدو أنه مصمم أيضًا على تجاهل المشكلة المتمثلة في أن الأشخاص الذين يديرون تلك المحطات لا يتبعون دائمًا إجراءات السلامة الخاصة بهم ولا يمكنهم التخطيط لكل كارثة طبيعية محتملة (كما أظهرت فوكوشيما بشكل كبير جدًا)، ويصر على أن الصناعة تعلمت من أخطائها. لكن هل هذا صحيح؟ لا إجابة عندي.
    ثم هناك مسألة رواية بينكر للتاريخ، هي رواية إشكالية بنفس القدر عندما يتعلق الأمر بالتنوير نفسه. لذا يتجنب بينكر أي تحليل جاد لرموز عصر التنوير حتى لا تصطدم روايته بحقيقة أن أكثر هؤلاء الرموز شهر مثل جان جاك روسو، ودينيس ديدرو كانوا نقادًا لمعظم أشكال التقدم. كما كان معظم مفكري عصر التنوير، خاصةً خارج فرنسا، على وفاق بين العقل والإيمان الديني، ولم يعدّوا المعتقدات “مولدة للأوهام” أو يعدون الإيمان بوجود الروح أمرًا خطيرًا، كما يوحي كتابه. فالتاريخ سيعطي الفضل ليس للملحدين الشجعان بل للمسيحين المتدينين مثل الكويكرز، الذين كانوا من بين أوائل المحاربين لأكثر الممارسات الأوروبية بربرية على الإطلاق أي: العبودية.
    تتفاقم مشاكل بينكر مع التاريخ بشكل أكبر عندما يحاول الدفاع عن التنوير ضد العديد من النقاد الأكاديميين الذين أشاروا على مر القرون إلى بعض عواقبه الوخيمة المحتملة مثل: علم تحسين النسل، والعنصرية البيولوجية، ونقاء العرق…إلخ، مؤكدًا على أن المسألة مُجرد فهم سئ للعلم، مُشيرًا بشكل خاص إلى أفضال مخترعي اللقاحات، مطوري الأسمدة الكيماوية، والمخترعين، والمهندسون وخبراء السياسة الذين جعلوا الحياة اليومية أكثر أمانًا.
    ولكن عندما يتعلق الأمر بقضايا مثل “الديمقراطية” و “الحقوق المتساوية” يبدو أن بينكر يعتقد أن التقدم قد حدث من تلقاء نفسه تقريبًا، نتيجة تحول شعوب بأكملها بشكل عفوي إلى أكثر استنارة وتسامحًا، متسائلًا حول قوس غامض ينحني نحو العدالة تاريخيًا، لتختفي في رواية التنوير التقدمي لبينكر كُل الحركات الاجتماعية التي ناضلت لقرون من أجل المساواة في الحقوق، ولإلغاء العبودية، وتحسين ظروف العمل، والحد الأدنى للأجور…إلخ، ما يعني الانحناء نحو العدالة ليس لغزا، فهو ينحني لأن الناس يجبرونه على الانحناء.
    إذا كان بينكر قد أوضح هذه روايته التاريخية التقدمية ببساطة، لكان حفظ لعصر التنوير مكانته في الوجود البشري، لكنه يغلف حججه في طبقة سميكة من المبالغة وسوء التفسير بحيث يضر الكتاب أكثر مما ينفع. إنه يستفيد من البيانات الانتقائية والتاريخ المشكوك فيه، بالإضافة إلى ازدراء “المثقفين”، وربما لم يقصد بينكر أن يفعل الكتاب ذلك، لكنه سيعزز مزاعم السياسيين العنصريين ضد المثقفين والحركات المطالبة بالعدالة الاجتماعية، بينما يبرر الخيارات السياسية المضللة باسم العقلانية العلمية التي لا تقبل الجدل.
    إن كتاب التنوير الآن ليس كتابًا يستحق عددًا كبيرًا من القراء، فهو يرسم معالم عصر مُناهض للفكر، تنتصر فيه البيانات والرموز على التفكير النقدي الجاد وثراء التقاليد الإنسانية والنشاط المدفوع أخلاقيًا لصالح الخبرة العلمية والتكنولوجية المفترض أنها محايدة. وهذه المواقف لا تنبع بأي حال من الأحوال من الحركة الفكرية العظيمة لأوروبا في القرن الثامن عشر. إن تقدم بينكر ليس “تقدمًا” كما فهموا فلاسفة عصر التنوير فعلًا، بل إن وجدوا الآن لازدراهم بينكر.
العدد الأخير العدد الثامن والعشرون بعد المئة ثقافة وفكر سياسة

عن الكاتب

مصطفى شلش