الكاتب: جان رينيه روي(2)
ترجمة وتقديم: محمد ڭــــزّو
يعدّ يوهانس كيبلر عالِمًا ألمانيًّا، من علماء الفلك البارزين، وُلد يوم 27 ديسمبر سنة 1571، وتوفي يوم 15 نوفمبر 1630؛ حيث كانت له شخصيّته الرّئيسيّة في الثّورة العلميّة إبّان القرن السّابع عشر، قرن الحداثة بامتياز. فاشتهر بوضع قوانين حركة الكواكب، على أساس أعماله الفَلكيّة، وكتب خلاصة من الكوبرنيكيّة لعِلم الفَلك، وقُدّمت هذه الأعمال أيضًا واحدة من الأسس النّظرية لإسحاق نيوتن للجاذبيّة الكونيّة.
فعندما وُلد يوهانس كيبلر أواخر القرن السادس عشر، كان العلماء يعتقدون، حينذاك، بأن الكواكب داخل النظام الشمسي تسافر في مدارات دائرية(3) حول الأرض، وتمّ حلّ هذه المشكلة في بعض الأحيان بإضافة دوائر مصغرة- تسمى أفلاك التّدوير– إلى مسارات الكواكب، ولكن كيبلر لم يدافع فقط عن فكرة أن الكواكب تدور حول الشّمس، ولكنه كشف أيضًا أن المسارات الخاصة بها لم تكن دوائر كامله، بل هي إهليلجية تماما، وانتقل بالعالَم من الدائرة، الكاملة كمالا مطلقا، في الاعتقاد السائد منذ القِدم إلى شكل آخر غير مألوف تمامًا.
لهذا، كان اكتشافه للقوانين الرئيسية الثلاثة لحركة الكواكب أمرًا جديدًا وحلًّا لمشاكل الحركة التي تخبط فيها الفلك على مدى قرون عديدة منذ العصور القديمة خاصة مع الفَلك اليوناني، وهي قوانين على النحو التالي: الكواكب التي تتحرك في المدارات البيضاوية مع الشمس في بؤرة واحدة، والوقت اللازم لاجتياز أي قوس من مدار الكواكب ليتناسب مع مجال القطاع بين الهيئة المركزية والقوس “قانون المنطقة”؛ وهناك علاقة دقيقة بين مربعات المرات الدورية للكواكب “ومكعبات من أنصاف أقطار مداراتها “القانون التوافقي”، ولم يسمّي كيبلر هذه الاكتشافات “قوانين”، بل الذي بعثها من جديد بهذا الاسم سيكون العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن.
الميكانيكا السّماوية
على مدى العقد الماضي، تم استخدام “مرصد كيبلر الفضائي” لفحص أكثر من نصف مليون نجم، بحثًا عن كواكب خارجية شبيهة بالأرض. يُكرِّم اسم منصة الاستكشاف هذه، عالِم الفَلك الألماني يوهانس كيبلر (1571-1630)، الذي احتُفل بعيد ميلاده 450(4) يوم 27 ديسمبر الماضي، أي قبل شهر فقط.
طغى اسم العالِمان الفلكيان نيكولا كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي على اسم يوهانس كيبلر، ويُنظر إلى هذا الأخير، أحيانًا، على أنه ممثل ثانوي خدم عمله إسحاق نيوتن في تطوير نظرية الجاذبية العالمية، لا أقلّ ولا أكثر. ومع ذلك، يستحق يوهانس كيبلر أن يكون ضمن العمالقة الذين غيروا رؤيتنا للكون، وأسسوا أُسس العِلم المعاصر.
إذ وُلِد يوهانس كيبلر في مدينة فورتمبيرغ الألمانية سنة 1571، وأصيب في سن الثالثة بمرض الجدري، وأفلت منه بأيدٍ مشوهة وعيون ضعيفة وصحة ستبقى مهملة دائمًا. بينما التحق بجامعة توبنغن سنة 1587، حيث درس مع عالِم الفَلك والرياضيات -وهو نفسه معروف جيدًا- مايكل مايستلين (1550-1631). هذا الأخير، مقتنعًا بصدق الحقيقة الجوهرية لنظام مركزية الشمس لكوبرنيكوس، بدأ كيبلر العمل معه في علوم الفَلك، وطموحه في وجهة أخرى هي أن يصبح وزيرًا لوثريًا.
من هنا، وفي سنة 1594، ورغبة في التخلص من رجل دين محتمل ذي تفكير حر، أوصى أساتذة جامعة توبنغن يوهانس كيبلر لشغل منصب أستاذ الرياضيات في غراتس، بالنمسا؛ فَقَبِل عن مضض، وتخلى عن دراساته اللاهوتية مُجبَرًا.
وهناك، سنة 1595، أثناء دورة في مادة الرياضيات حيث حصر مثلثًا في دائرة، كانت لديه فكرة عدّها غير عادية تتمثل فيما يلي: “هناك ستة كواكب بسبب وجود خمسة مواد صلبة مثالية: فيتم وضع مادة صلبة مثالية مدمجة بين كوكبين بالضبط”؛ وعمل على استكشاف هذه الفكرة أكثر بعد ذلك، وأجرى حساباته ونشر كل شيء عن أبحاثه سنة 1596 في كتابه الشهير “الميكانيكا السماوية” (Mysterium Cosmographicum).
كان يوهانس كيبلر تقيًا جدًا، وواثقًا بالفعل بأنه اخترق “سرّ العالم”، وترتّب عن ذلك أن أرسل نسخًا من كتابه إلى جاليليو جاليلي وتايكو براهي، ثم عالِم الرياضيات الإمبراطوري من العائلة الحاكمة في النمسا؛ على الرغم من أن الأخير لا يوافق على عدة نقاط، إلا أنه معجب جدًا بمواهب المؤلِّف الشاب، ودعاه للحضور إلى منزله في براغ.
جدير بالذّكر أن يوهانس كيبلر شهد ساعات تايكو براهي الختامية، وتوفي الأخير فجأة سنة 1601 عن عُمْر ناهز 54 عامًا، بعد انسداد وظائف المسالك البولية خلال مأدبة أقامها المستشار الإمبراطوري مينكويشز. وبعد يومين فقط، عيَّن الإمبراطور المجري رودولف الثاني يوهانس كيبلر عالِم رياضيات إمبراطوري.
كيبلر المُنير
كان يوهانس كيبلر معاصراً لغاليليو جاليلي (1564-1642)، وتبادل معه الكتب والمراسلات، لكن علاقتهما ظلّت صعبة، أينما أظهر عالِم الفَلك الإيطالي القليل من الانفتاح تجاه زميله الشاب، الذي عدّه “منيرًا”. ولكن، أبعد من هذا، فلم يتمّ التّعرّف على يوهانس كيبلر في الخيال الشّعبي بنفس طريقة جاليليو المعاصر، بيد أنّ مساهماته من حيث الميكانيكا السّماوية، والمبادئ البصريّة هي أكثر جوهرية من مساهمات العالِم الإيطالي اللّامع.
وقبل وفاته بفترة وجيزة، كلف تايكو براهي زميله يوهانس كيبلر بمهمّة حساب مدار المريخ اعتمادًا على الملاحظات التي قام بها، والتي احتفظ بها لنفسه بغيرة حتّى ذلك الحين؛ فاعتقد يوهانس كيبلر أنّ بضعة أسابيع ستكون كافية. بينما بصرف النّظر عن مدار القمر، فإنّ مدار المريخ أكثر المدارات إهليلجيّة من بين المدارات المعروفة آنذاك؛ فاستغرق الأمر أكثر من ستّ سنوات من العمل للتّوصل إلى القانونين الأولين لحركة الكواكب، وحوالي 10 سنوات لتأسيس القانون الثالث، وهكذا اقترب يوهانس كيبلر من عقدين كاملين، بدل أسابيع قليلة كما اعتقد.
وفي السّياق ذاته، فإنّ أكثر إرث كيبلر تميّزًا وحيويّة، مجموعته المكوّنَة من ثلاثة قوانين لحركة الكواكب، بحيث اقترح القانونين الأولين سنة 1608، والثّالث حتى سنة 1619؛ وعليه يذكرنا المؤرّخون أنّ نصوص يوهانس كيبلر صعبة الفهم، وربما يكون هذا الغموض في كتاباته أحد أسباب رفض جاليليو العنيد للأشكال الإهليلجية لمدارات الكواكب، والحركة غير المنتظمة التي اقترحها يوهانس كيبلر آنذاك.
حرّر هذا الأخير، النّظام الكوبرنيكي من الأجرام السّماوية الغريبة، التي لها مركز مختلف لكل كوكب؛ وألغى التدويرات التي كان على عالِم الفلك البولندي مراعاتها، للتّباين في تألق وسرعة الكواكب أثناء انتقالها عبر القُبّة السّماوية!
لا شكّ، أن رواد الفضاء اليوم يقدمون برامج من تطبيقات، واستخدامات قوانين يوهانس كيبلر في الفضاء الخارجي؛ بدءًا من المهمات بين الكواكب مثل”سَفَر1″ و”سَفر2″ Voyager1 و Voyager 2 إلى الكواكب العملاقة، و”الأفق الجديد” New Horizons الذي رعى كوكب “بلوتو” ثم وصل إلى الكائن العابر للأنبوب “أروكوث-روزيتا” “Arrokoth Rosetta”، والذي انضم ورافق المذنب “تشوريوموف-جيراسيمينكو” Churyomov-Gerasimenko، وكذلك جميع الرحلات الفضائية نحو الشمس والقمر وعطارد والزهرة.
بشكل عامّ، تأخذ هذه الآلات كلها مسارات موصوفة في قوانين يوهانس كيبلر، فتمّت تسمية منصة استكشاف الكواكب الخارجية، والبحث التي أطلقتها “ناسا” سنة 2009 باسم” كيبلر”، وحتى الآن، تمّ تأكيد أكثر من 2500 من الكواكب الخارجية من مهمة “المنصة كبلر”، من خلال الملاحظات اللاحقة على الأرض أو في الفضاء.
من المعروف أن مهمة “منصة كيبلر” انتهت في 30 أكتوبر 2018، لكن تحليل البيانات مستمر وسيكشف عن مئات الكواكب الخارجية الأخرى. وفي السياق ذاته، تتبَّعتْ تلسكوبات كبيرة على الأرض، تعمل بالأشعة تحت الحمراء تحركات النجوم في مركز مجرة درب التبانة، وجعلت هذه الملاحظات من الممكن اشتقاق المَعلمات المدارية الخاصة بها؛ إذ النجوم تتبع مسارات بيضاوية، طاعة لقوانين يوهانس كيبلر، وهكذا تمكنا من استنتاج كتلة جسم فائق الكتلة، وهو ثقب أسود تبلغ كتلته 4.1 مليون مرة كتلة الشمس.
كيبلر المتسامح
تكتسب أعمال يوهانس كيبلر قيمة أكبر، عندما نعرف الظّروف البائسة التي تم إنجازها فيها، فقد عاش عالِم الفَلك الألماني، وعمل في قلب أوروبا الوسطى التي مزقتها حركة الإصلاح والإصلاح المضاد، عندما اشتبك بعنف الكاثوليك واللوثريون والكالفينيون والأوتراكويون.
ومن هذا القبيل، تعرّض يوهانس كيبلر لمضايقات من قبل دائنيه، وفي توقّع دائم لأتعابه التي وعد بها الأوصياء غير الموثوق بهم، كان يوهانس كيبلر يعاني نقصًا في المال باستمرار، وبما أنه كان معاصرًا وضحية للهرطقات العظيمة، فقد اضطر كثيرًا إلى الفرار قبل تجاوزات التّعصّبات الدّينيّة ضدّه.
وفي سياق مواز، قام يوهانس كيبلر بتجميع فكره حول نظام مركزية الشّمس في كتاب سماه “خلاصة علم الفلك الكوبيرنيكي” Epitome Astronomiae Copernicana المنشور في ثلاثة مجلدات (1617 و1620 و1621)، والذي كتبه بالتّوازي مع كتابه “انسجام العالَم”L’harmonie du monde (1619) ، مما أثار استفزاز المكتب المقدس، فوضع أعماله كلها في دائرة المحرم.
كان يوهانس كيبلر لوثريًا مقتنعًا مؤمنًا، قد بشّر بالتّسامح: لذلك، اتُّهم بهذا التبشير هرطقة مضاعفة، أولاً من خلال الانحراف عن المعتقد الرّسمي، ثم ثانيًا المطالبة بقبول معتقدات الطوائف الأخرى؛ في حين لم تجلب له حياته الأسرية سوى القليل من السعادة، شابها مرض أطفاله، وكذلك الحداد على زوجته الأولى وأربعة من أبنائه.
بالإضافة إلى ذلك، كان على يوهانس كيبلر أن يواجه اضطهاد مطاردة الساحرات، ففي أغسطس 1620، ألقي القبض على والدته كاترينا كيبلر (1546-1622) واتهمت بالسحر؛ ومن بين 49 تهمة غريبة، زُعم أنها تسببت في “ألم لا يوصف” للجيران بسبب جرعاتها الطبية، و”تسببت في وفاة عجل يبلغ من العمر عامين بعد أن لامسته”، وبعد تهديدها بالتعذيب، رفضت الاعتراف بأي شيء. فاضطر يوهانس كيبلر أن يستأجر كبار المحامين، وينظم الدفاع في وثيقة كتبها من 128 صفحة، قام الفلكي المغمور في جزء كبير منها بتدمير حجج الادعاء؛ وبعد ست سنوات من الاضطرابات القانونية والمضايقات القاسية والسخيفة، أفرجت المحكمة عن كاترينا، دون أن تُظهر للمتهمين أدوات التعذيب ووصفًا مفصلاً لاستخدامها، وهو الإجراء الذي أُطلق عليه اسم “تهديدات التعذيب”.
وهكذا غادر يوهانس كيبلر، في خريف سنة 1630، مدينة “ساجان” في بولندا الحالية، لينضم إلى “ريغنسبورغ”، حيث توفي في 15 نوفمبر 1630، بعد صراع قصير مع المرض عن عمر ناهز 58 عامًا.
وبسبب حرب الثلاثين عامًا، فُقدت كل آثاره وبقاياه، وتم استرداد مخطوطاته بناءً على نصيحة عالِم الرياضيات ليونارد أويلر بواسطة كاثرين العظمى، إمبراطورة روسيا من سنة 1762 إلى سنة 1796، وهي موجودة الآن في “مرصد بولكوفو” في سانت بطرسبرغ، في روسيا.
وختامًا، يبقى إرث يوهانس كيبلر جزء من التّطور الفوضوي لفهمنا للكون، فالتقدم المذهل الذي حققه في فهمنا لميكانيكا النجوم جعله عملاقًا في تاريخ عِلم الفَلك، وعلى الرّغم من العوائق من الأنواع جميعها، كالأمراض، والوفيات، والحروب والاضطهاد، فإن يوهانس كيبلر منارة تنير ظلام الطّائفية.
الإحالات والهوامش
(1) مصدر المقال، مجلة الواجب الفلسفي-التاريخي، صدر المقال بتاريخ: 11 دجنبر 2021.
(2) عالِم فيزياء فلكية مؤلِّف كتاب “الأرض في الفضاء، فائض الكون من عصور ما قبل التاريخ إلى اليوم”.
(3) كان مفهوم “الدائرة” هو مرادف الكمال منذ العصر اليوناني، فالدائرة هي الشيء الكامل والمتناسق حتى في رسمها ورؤيتها، ولكن يوهانس كبلير نجح في تغيير المفهوم تماما، وأعطى مفهوم الدوران البيضوي عوض الدائري؛ فكانت نقلة نوعية في التفكير، وهذه جِدَّةُ يوهانس في مشروعه الفَلكي.
(4) حوالي خمسة قرون فقط تفصلنا عن الحداثة الغربية، التي وصلت إلى أبعد مدى من حيث التفكير العِلمي المُمنهج في المجالات جميعها، ولكن ما تزال أُمم كثيرة لم تبدأ بعد أولى خطواتها.