مبارك العامري، الشاعر الذي كأسه من خيال

كتب بواسطة صالح لبريني

ثمة شعراء يسكنون القلب والذاكرة دون أن يكونوا أصدقاء حقيقيين على أرض الواقع، ولكنهم يضيئون المسافات البعيدة والمعتمة بقصائدهم الفوّارة بخيال المحبة، ومجازات الحياة، وبتجاربهم التي قُدّت من أرق وقلق، من مكابدة وعزلة، من رؤية حالمة وأخرى مشتعلة بسؤال الكينونة، ومن حياة مليئة بالمفارقات والمتناقضات، ومن الشعراء الذين عايشت تجربتهم، عبر العالم الأزرق، الشاعر العماني مبارك العامري، مدة ليست باليسيرة، ما لفت انتباهي في كل ما خطّته أنامل الخيال، من نصوص تنتمي إلى حرارة تجربة منبثقة من محبة الجمال والأنثى، ومن عشق للحياة إلى حدّ الجنون، أن ما يَسِمُ تجربته الشعرية أنها سليلة مقام عُمان الرحم الولود الذي أنجب شعراء متميزين ذوي تجارب شعرية وقصصية وسردية مختلفة ولها دمغة خاصة بها، كسيف الرحبي وهلال الحجري وعوض اللويهي ومحمود الرحبي وطالب المعمري وصالح العامري وسليمان المعمري وغيرها من الأصوات الإبداعية التي منحت للشعر والأدب العماني المكانة التي تليق به في الثقافة العربية، وهذا ليس بصعب على قُطر يقدّر العلم والمعرفة والمبدعين. فجاء الاحتفاء بهيبة المقام حيث المدى الأزرق والجغرافيا الممتدة والمياه العذبة السّمة البارزة على شعر مبارك العامري، فكان عاشقًا لوطنه الأم ومناصرًا للإنسانية في شعره، دائم الحفر في الأراضي الشعرية بإرادة بوذي اختار العزلة في اللانهائي، ثاقب الرؤية إلى العالم الغارق في ضلال وجودي ويزيد من معاناة الإنسانية الشيء الكثير من الخراب والتشريد والقهر يقول:

(آه أيها العالم
السادر في غيّه
أن الروح
جراحًا
من العسير
أن تندمل …)

إن صرخة في وجه عالم لم يعد يأبَه بالجحيم الذي يطوق الأرض، ويحوّل الحياة إلى نزيف أبدي، وفي هذا المقول الشعري تحذير مضمر من الشاعر إلى الإنسان بغية العودة إلى أصوله الإنسانية والابتعاد عمّا يعيد الطبيعة الغابوية إلى النفس الأمارة بالتغوّل والاستبداد، وحدس الشاعر لم يخب، فبفعل العولمة المتوحشة، تعيش البشرية اليوم وضعًا كارثيًا، يندر بكارثة إنسانية لم يشهدها تاريخ الإنسان منذ قرون، لهذا يبعث مبارك العامري رسالة مخضبّة بالآلام الإنسانية التي تزداد شراسة وعنفًا.
وللإشارة فالشاعر مبارك العامري يعدّ من التجارب الإبداعية التي شكّلت منعطف المغايرة في الإبداع العماني، وما يميز الشاعر أنه أبدع في أنماط الشعر العربي كافة، من القصيدة المقفاة إلى قصيدة النثر مرورًا بشعر التفعيلة، وهو من رواد الصحافة الثقافية العمانية منذ الثمانينيات، وعلم من أعلام الإبداع العماني.
إضافة إلى خلفياته المعرفية والفكرية المختلفة المصادر شحنت تجربة ثراء وغنى في التيمات التي تناولها في أعماله الشعرية والسردية. ولعلّ وقفة متأنية ومنصتة لما يكتب من نصوص شعرية تجعلنا نؤكّد على جدارة هذه التجربة وقيمتها الإبداعية لا لشيء، إلا لأن مبارك العامري لم يكن صدى لأحد، بقدر ما أبدع صوته الشعري، وصقله بالاشتغال الدائم والمتواصل من أجل خلْق النص المباغت والمدهش يقول:

(الحب عصاي
التي أوكّأ عليها
في كل آن…)

يبقى الحب ما يملكه ويمتلكه الشاعر مبارك العامري ليكون السند الذي ينقذه من هاوية السقوط في الكراهية، فقلب الشاعر منبع نابض بماء الحياة مادامت ذخيرته من الحب تكفي لتجديد الروح وبذر بذور الاستمرارية شعرًا وإبداعًا، لذا يحتاج أيضا إلى الآخر الذي يشكّل كينونته يقول:

(يد حمقاء
كادت اليوم
أن تهشّم قنديل الزيت
دليلي الأول في الدروب
المعتمة
بحثًا عن أناي…)
فالشاعر منذ يقينه بوجوده فهو دائم البحث والحفر والترحال واختيار العزلات لتشكيل كينونة تفيض بالمحبة، بالإنسان والوجود في أبهى تجلياته. ومن ثمّ نجد الشاعر بلغة نستشف منها تلك الرغبة المحمومة لمعانقة السرمدي والأبدي، حيث يتساءل عمن يدله على عشبة الخلاص، إنه جلجامش بصيغة وجودية تعبّر عن حيرة الشاعر والضياع الذي يحيطه من كل صوب، لذا يبحث عن عشبة الخلاص/ الانفلات من قضبان سجن كبير تعيشه الإنسانية، عِلّتها تغييب القيم الإنسانية والحطّ من إنسانية الإنسان. الأمر الذي يحفّز الشاعر على ارتياد أفق شعري يطارد من خلاله الأنثى التي تظل في شعره حاضرة ناضرة، طافحة بالحياة، فبفقدانها تفقد الذات الشاعر وجودها يقول:

(تختزلي كل الدفء
لأنك بعيدة
الآن
فيما الأشياء حولي
باردة
كمن يحتضر…)
هكذا يفصح الشاعر عن القيم النبيلة التي يؤمن بها والتي ضحى بعمره من أجل ترسيخها والعمل على إذاعتها بين الناس، وذلك عن طريق المحبة السبيل الأنجع للتخفيف من غذابات الإنسان على هذه الأرض التي تحتاج من الإنسان الإرادة للحفاظ عليها.
ففي عالم الفواجع والفجائع لا يبقى للشاعر العماني المتميز والاستثنائي في التجربة الشعرية العمانية مبارك العامري إلا أن يبتعد بعيدًا عن جلبة العالم لمنادمة كأس الخيال كتعبير عن كون الواقع أشد مرارة ويبقى الخيال المنقذ من ضلال البشرية يقول:

(لا نديم
سوى
كأس من خيال…)
فالخيال، في نهاية المطاف، يظل بلسم المبدع في كل زمان ومكان، بل هو بمثابة الشراع الذي تبحر به الذات إلى عوالم لامرئية منها يستقي الشاعر منها عشبة الإبداع، ومن تم يحقق الخلود في الذاكرة الإنسانية، ويمكن أن نعدّ الخيال تجسيدًا لحال العزلة التي تعيشها الذات، في عالم المفارقات، فمرآة الذات خيالها إذ تبدو فيه متحرّرة من قيود المجتمع ومترحّلة في مدى كونيّ مفتوح على احتمالات في الرؤى، يقول الشاعر:
(حينَ لا كَهْرَبَاء / كُنَّا نَنَامُ/ على أسْطُحِ المنَازِلِ/ المَفْروشةِ بالنَدى / فَنَرى في النُّجُوم / وجُوه مَن نُحِبُّ/ زاهِرةً على صَفْحَةِ الأُفُق/ وفِي أمْشَاجِ الغُيومِ / تطُاَلعُناَ / صُوَرُ أحلامِنَا / الهَارِبَةِ مِنْ أقْفَاصِ / واقعِهَا المأَزوم)
فالذات الشاعرة ترتدّ إلى زمن غائب هو الزمن الماضي حيث البساطة والدفء والأحلام البريئة تجلل الفضاء المشرَع على فضاء أرحب، لتسافر المخيلة هاربة من واقع موسوم بالأزمة، فالحلم يبقى الوسيلة التي بإمكانها القبض على الزمن في مفارقاته وتضاداتها. فتصبح النجوم والغيوم مرايا تتشكل فيها وعليها ملامح الحب والحلم. كما أن الكلمة/ الإبداع بوساطتها نصنع الجمال والقبح في آن يقول:
(اصْنَعوا مِنَ الكَلِماتِ/ أوْطاناً للجَمال/ وفِخاخاً للقُبْح)، “لأن الإبداع مهما كان مبسطا يتضمن جهدًا فكريًا وتخيليًّا خاصًا. فهمُ هذا الجهد والمشاركة فيه يفترضان في الآخر معرفة اللغة الإبداعية، ويفترضان فيه القدرة على بذل الجهد الفكري الكافي” بتعبير أدونيس. فالإبداع نتاج التفاعل القائم بين الواقعي والخيالي وفق صيرورة تحولية تثري الخطاب الشعري وتثوّره، وذلك عن طريق لغة شعرية تنماز بسحريتها وبنيتها التي تسهم في توسيع الدلالة وتخصّب البعد الجمالي. ففي قصيدة (سؤال وجودي) يتساءل الشاعر في طرح وجودي عن كون الحلم والقصيدة و الحب طرقًا للإحساس بالكينونة، هذه الأخيرة تعيش تشظيّا حادّا وهي تقاوم كل عوامل الفناء مادام الأمل النور الذي يضيء عتمات الوجود يقول:

( مَاذا يفعَلُ الحَالِمُونَ/ غَيْرَ التَشَبُّثِ بِقَشَّةِ الأَمَلِ/ أو الانْكِفَاءِ في مَخْبَأِ الذَات ../ مَاذا يفعلُ الشُعَراءُ غَيْرَ الاتِّكاءِ عَلى جِدارِ القَصيدَةِ / أو تَرْتيبِ حبَّاتِ المَطَرِ / في قِلادَة / إِذْ رُبَّمَا تَنْبَجِسُ الحَقيقةُ/ عَارِيَةً مِنْ رَحِمِ المَجَاز ../ ماذا يفعلُ المُحِبُّونَ/ غَيْرَ المُكُوثِ طَويلاً/ في خَانَةِ الانْتِظَارِ / عَلَّ البُشْرى تطْرُقُ البَابَ ذَاتَ بُرْهَة..)، فبلغة الهسهسة والتيه عبر وهاد الذاكرة الفردية التي هي في جوهرها جماعية مكننا الشاعر أن نطلّ على تاريخ الذات الذي شكّلته بساطة الحياة وجمالها الضارب في أرض تحب الحياة.
وما يمكن قوله بعد هذه الرحلة مع تجربة الشاعر مبارك العامري، إن الشعر العماني تمكّن أن يجترح لذاته أفقًا شعريًا متميّزا له مكانته الشعرية والجمالية داخل الشعرية العربية، وذلك بفضل تلة من الشعراء العمانيين الذين نذروا حياتكم لتكون القصيدة العمانية المعاصرة ذات كينونة مختلفة، والمتأمل في تجارب شعرائها كسيف الرحبي وسماء عيسى وعبد الله حبيب وصالح العامري وزهران القاسمي وهلال الحجري ومبارك العامري وعوض اللويهي وطالب المعمري وبدرية الوهيبي وفاطمة الشيدي وعزيزة الطائي وغيرهم يقف على حقيقة الإبدالات التي عرفها الشعر العماني المعاصر.

أدب العدد الأخير العدد الثلاثون بعد المائة ترجمات

عن الكاتب

صالح لبريني