عبد المجيد الشرفي: ختمُ النبوّة وتحرير الإنسان

كتب بواسطة ياسين عاشور

تندرج مقاربة المفكّر التونسي عبد المجيد الشرفي (ولد 1942) لعقيدة ختم النبوة الإسلامية ضمن مشروع أوسع طرحه في كتاب “الإسلام بين الرسالة والتاريخ”[1]، وهو مشروع فكري مُؤسس على مصادرة كبرى مفادها أنّ الإسلام دينٌ ذو طبيعتين، تتمثّل الطبيعة الأولى “الرسالة” في ما هو جوهري وأساسي وثابت، أمّا الطبيعة الثانية “التاريخ” فتتمثّل في كلّ ما هو عرضي ومتغير وقابل للتجاوز. لقد حاول الشرفي خلال هذا الكتاب تفكيك الإسلام عبر تنزيله في سياقه التاريخي ودراسة المناخ الحضاري والثقافي الذي نشأ فيه النبي وإبراز مميزات الرسالة المحمدية وتتبع المسار الذي خضعت له مؤسسة وتنظيرًا، وقد خصص الفصل الخامس من الباب الأول لدراسة مفهوم ختم النبوة كونه خصيصة من خصائص الرسالة المحمدية.

لقد استلهم الشرفي الفرضيّة التي طرحها الفيلسوف المسلم محمّد إقبال (1877-1938)[2] في فهم ختم النبوّة ليعضدها بمساهمة طريفة في استشكال أسرار الخاتمية ودلالاتها، فالإسلام في نظره ينتمي إلى عالم القدامة من حيث مصدره ومن حيث اشتماله على عديد المظاهر التي تثبت تجذره في محضنه الثقافي وسياقه التاريخي، مثل “الحاجة إلى مرجعية غيبية، وورود العديد من المتصورات الميثية، واللجوء إلى الطقوس التعبدية التي تؤدّى بطريقة موحدة منمطة لا مجال فيها البتّة للاختلاف بين المؤمنين، وتكريس عدد من القيم والممارسات الاجتماعية”[3]، وينتمي إلى العالم الحديث من حيث روحه.

ويتساءل الشرفي قائلا: “هل أرادت الرسالة المحمدية أن تقف بالإنسان عند حد معين لا يتجاوزه؟ (…) أو هل سعت بالعكس من ذلك إلى أن تفتح للإنسان آفاقًا رحبةً وتحمّله المسؤوليّة كاملة في كيفية العبادة وفي تنظيم شؤون حياته كلّها، وهو حر لا رقيب عليه سوى ضميره؟”[4]. وهو يميل بالتأكيد إلى الفرضيّة الثانية بناءً على قراءته لروح الرسالة المحمدية.

اقترح الشرفي إمكانيتين لفهم ختم النبوة، وسمى الأولى ب”الختم من الداخل”، وهي الإمكانية التي استقرّت عقيدة ثابتة في الأورثوذوكسيات الإسلاميّة، وقد استعار لها صورة طريفة هي صورة “من يغلق على نفسه باب بيته ويقيم فيه رهين محبسه”[5]، أمّا الثانية فقد دعاها ب”الختم من الخارج” وهي الإمكانية التي يدافع عنها ويتبناها ويرى أنها الأصلح لمسلم العالم الحديث، وقد استعار لها صورة “من أغلق باب بيته (…) وختمه من الخارج، فلم يبق سجينا له، وساح في أرض الله الواسعة”[6].

لا يعيب الشرفي على أوائل المسلمين ومتقدّميهم  التصاق فهمهم بالإمكانية الأولى، فهو يتفهّم حدود تفكيرهم وانخراطهم في مشاغل عصرهم وانتمائهم إلى إبستيميات يستحيل فيها التفكير في طرافة ما يتلقونه من رؤى وأفكار، ويرى أنّ “رسالة التحرّر التي جاء بها الإسلام لا تنسجم مع أقصى طموح الموقف الذي اتجه إليه الفكر الإسلامي -ربّما باستثناء موقف كبار المتصوفة- ألا وهو تقليد المظاهر الخارجية للأنموذج النبوي، لأن هذا التقليد ينقلب إذ ذاك إلى تبنٍّ لشكل قانوني جامد وإلى مجرّد رواية جوفاء لبنية متكلسة تحتوي على فكر وإرادة مفروضين”[7]. يستثني الشرفي كبار المتصوفة من دائرة الانغلاق التي تُطوّق السنّة الثقافية التقليديّة، ذلك أنهم بجّلوا الحقيقة على الشريعة، ولم يتقيّدوا بحرفيّة النص، فلم يكونوا من عبدة الحرف بقدر ما أبدعوا في خوض تجاربهم العرفانية الخاصة التي قد تضارع تجربة محمد النبوية نفسها وتضاهيها.

إنّ إمكانية الختم من الخارج التي يدافع عنها الشرفي، تُمثّل إعلان انطلاق مسيرة الإنسان نحو اعتماده على نفسه والكفّ عن تبرير أفعاله اعتمادًا على المرجعية الغيبية، إنّها تدشينٌ لمرحلة يُصبح فيها الإنسان مسؤولًا عن وجوده مسؤوليّة تامة دون الحاجة إلى شرعية متعالية أو حجية مفارقة يُسند بها ما يقوم به من تصريف لأمور حياته. يمثّل الختم وفق هذا المنظور انتقال الفرد المسلم من وضع وجودي سلبي تابع يخضع إلى أجهزة فقهية وعقدية وأخلاقية جاهزة إلى وضع وجودي إيجابي مستقل يكون بمقتضاه الفرد فاعلًا مُساهمًا في اجتراح أنظمته التشريعية والمعنوية والإيتيقية المستجيبة لظروفه وأوضاعه، ويتحرّر من ارتباطه بالمتصرفين في المقدس وتبعيته للناطقين باسم السماء. بناءً على هذه الرؤية “يكون محمد بن عبد الله قد ختم النبوة ليقضي على التكرار والاجترار وليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية والتضامن الخلّاق. هكذا يكون قد أرسى الدعائم المتينة لأخلاقية éthique كونيّة بحق، ولا يكون دوره محصورا في تقديم وصفات جاهزة ما على المسلم إلا أن يطبقها تطبيقا آليا أجوف”[8].

إن هذه الرؤية تُجرّد الإسلام من مضامينه الميثية والعقدية والتشريعية التي تشكّلت خلال التاريخ، ولا تبقي إلَّا على روحه وغائيّته، فيصير إيمانًا حرًّا بلا عقيدة جاهزة، وغايات ومقاصد بلا تشريعات وأحكام مسطرة سلفًا، وإيتيقا كونيّة بلا تعليمات أخلاقية مباشرة، “بهذا يكون النبي حقا شاهدا ومبشرا ونذيرا، ويكون بأقواله وأفعاله الأسوة الحسنة، قد أعطى المثال في العدل والمحبة والرحمة والبر، وفي السلوك المستقيم عموما بما يتلاءم والأوضاع التي عاش فيها، لا أن يكو قد سطر بصفة باتة ونهائية ما يجب فعله وما يجب تركه، في كل الحالات ومهما كانت الظروف والملابسات، إذ أنه يكون حينئذ قد رسّخ التبعيّة التي جاء ليقاومها”[9].

أثارت نظريّة الشرفي جدلًا واسعًا مسّ الضمير الإسلامي المحافظ، ونشير هنا تحديدًا إلى المفكّر التّونسي محمد الطالبي (1921-2017) الذي جنحت مواقفه الفكرية في العقد الأخير من حياته إلى ضرب من المحافظة والانغلاق. لقد اضطلع الطالبي بانتقاد عدد من أفكار الشرفي في كتابه المعنون ب”ليطمئن قلبي”[10]،وقد خصّ جزءًا منه لانتقاد فهمه للختم والتشكيك في نواياه، فالطالبي يرى أن الشرفي يستغلّ عقيدة ختم النبوة ويجعل من تأويلها منفذًا كي يقتل الإله الإسلامي مثلما قتل نيتشه إله المسيحيّة، يقول: “لقد قتل نيتشه إله المسيحية وفتح واسعا باب الانسلاخ عنها فتحا منهجيًا. وكذلك ع.م الشرفي استهدف قتل إله الإسلام قتلا تنظيريا حسبه حاسما ومنهجيا. فهو عن قصد أراد أن يكون نيتشه الإسلام. وما أحسبه إلا أنه بهذا التشبيه مبتهج وفخور، ليصالح، بنفس الأسلوب، من يسميه مسلما تدليسا، مع العصر والحداثة جذريا لا تنميقا، عن طريق التنظير المنهجي للانسلاخ من الإسلام، (…) الأديان تفرق وتمنع من التحديث: هذا هو باطن وسريرة تفكير ع.م الشرفي، الذي يجتهد في إخفائه تضليلا وتكتيكيا، تحت عبارات مقتبسة من المصطلحات الدينية الإسلامية، يرصه بها بين الآونة والأخرى خطابه. هذا هو الهدف”[11]. هكذا اعتبر الطالبي مجهود الشرفي في فهم ختم النبوة محاولةً لتدمير الإسلام من داخله، واضطلع بمحاكمة نواياه وبسط سريرته كأنّه عالمٌ بما في صدر الرجل، فبدل أن يُقدّم نقدًا علميًا، قدّم خطابًا دفاعيًا محافظًا لا ينفذ إلى الفكرة بقدر ما يعمد إلى قدح مُخاطَبه والتشكيك في إيمانه ومقاصده وأهدافه.

لقد أثرى عبد المجيد الشرفي فهم ختم النبوة بإمكانية ثانية يصبح بمقتضاها الإنسان مسؤولا مسؤولية تامة عن حياته ومصيره وحرًّا في تصريف شؤون دنياه دون تقيد حرفي بنصوص الدين ولا تعلّق طفولي بعرضياته. لقد أتى “آخر الأنبياء(…) ليترك للإنسان الحرية المطلقة في ما يعتقد، وفي ما لا يعتقد.”[12]  حيث لم يعد بعد ختم النبوة “في حاجة إلى تبرير غيبي لسلوكه”[13]. هكذا يتمسّك الشرفي بالاتّجاه المقاصدي ويدفع به إلى غاياته القصوى، لتحرير الفرد المؤمن من عسف السّلطة الدّينيّة، ولتحرير الإسلام من النّزعة النّصوصيّة الحرفيّة.


[1]  عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرّسالة والتّاريخ، دار الطّليعة، ط2، بيروت، 2008

[2][2]  طرح محمّد إقبال فرضيّة مفادها أنّ ” أن نبي الإسلام يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث. فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها” وأنّ “النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأنّ الإنسان، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو”. انظر كتابه: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، دار الجنوب، تونس، 2006

[3]  الشرفي، م. نفسه، ص86

[4]  الشرفي، م. نفسه، ص87

[5]  الشرفي، م. نفسه، ص88

[6]  الشرفي، م. نفسه، ص91

[7]  الشرفي، م. نفسه، ص92

[8]  الشرفي، م. نفسه، ص93

[9]  الشرفي، م. نفسه، ص-ص 91،92

[10]  محمّد الطالبي، ليطئمن قلبي: قضية الإيمان، ط2، منشورات سوتيميديا، تونس، 2017

[11]  الطالبي، م. نفسه، 72

[12]  الشرفي، مدخل إلى مقاربة إسلامية حديثة للتوحيد، ترجمة د.نادر الحمامي، “قضايا إسلامية معاصرة”، العدد 61-62 ص54، 2015

[13]  الشرفي، م. نفسه، ص61

العدد الأخير العدد الثلاثون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

ياسين عاشور