٥ إبريل ٢٠٢٢ م
كنت أشاهد فيلم “The hand of God”، فيلم رمزي عن نشأة المخرج، وهو فتى فقد والديه، ويسعى جاهدًا لحسم كل شيء في حياته، مرَّ عبر تخبطات عديدة في مراهقته إلى أن وجد سبيله كمخرج سينمائي. كان متعلقًا بماردونا، وعدم بقائه في المنزل يوم وفاة والديه اختناقًا بالغاز كان بسبب حضوره لمباراة ماردونا التي أبقته حيًا، وتمامًا مثل ذاك الفتى في الفيلم كل شيء في حياتي تغير منذ لحظة وفاة أبي.
على عكسه، فجأة من دور البطلة أصبحت ممثلة ثانوية عابرة، تمضي من وسط الحشد، ولا أحد يشعر بها. في الآونة الأخيرة الوحدة تشتد بي هنا، أستيقظ وأحدق في السقف، وأتذكر مقتطفات من العزاء، كما لو أنني لم أستوعب كل ما جرى في تلك الأيام بعد، قبل ليليتين حلمت بعزاء أبي، أي بعد ستة عشر سنة من وفاته. كنت في صالة المنزل أشاهد سندباد. سمعت صوت نقر للباب وأيقظت أمي لتفتحه، كانت القادمة صديقتها التي كانت تساعدنا في نقل أبي للمستشفى بسيارتها الماكسيما السوداء. دخلت الضيفة مع والدتي إلى الغرفة، وأخبرَت أمي بأن والدي قد توفي، إذ أن إحدى الممرضات من معارفها اتصلت بها بعد أن حاولت الاتصال بنا ولكن هاتف أمي كان مغلقًا.
بدأت أمي بالبكاء، سمعت صوتها من خلف الباب. خرجت صديقتها، أغلقت التلفاز دون أن تأبه بوجودي، وغطته بقطعة قماش بيضاء، وبعدها بدأت بتغطية النوافذ بالجرائد والأقمشة، كنت في حالة صدمة، كانت تعلم بأني أحب التلفاز، والوقوف عن النافذة لأراقب لعب الأطفال، فظننت بأنها تعاقبني لخطأ ما ارتكبته.
أدركت بعدها بأن المراد مما فعلته أن نحرم من الحياة، الحياة الضئيلة التي كانت تتجسد في ذلك الضوء الذي يتسلل إلينا من تلك النوافذ، ما يجعلني أستذكر مقالة لليلى عبد اللاني تتحدث فيها عن الواجهات[1]، تقول:
” لطالما وجدتُ نفسي في خلاف مع أسرتي، أنا أفتح النوافذ وهم يغلقون. يقولون لي: “الحرمة! يشوفونا الناس!”، وأردّ أنا: “خلّي رحمة ربي تدخل”، ولم يكن ذلك الستار الذي فصل بيننا وبين العالم إلا تجسيدًا للقفص الذي وضعنا فيه أنا وأمي الأرملة.
كنت فتاة الخامسة، لا أفقه ما يحدث. وكنت مرعوبة من الطريقة التي كانت تغطي فيها كل منافذ النور والحياة في منزلنا الصغير. كان منزلنا المبني من قبل الديوان يتكون من غرفة نوم، وصالة جلوس، ومطبخ، ودورة مياه. بعد تغطيتها أصبح أشبه بالسرداب. عندما بدأت النساء المعزيات، وأخواتي من الأب بالدخول، لم يحتضني أحد، كنت واقفة في الصالة أبحث عن أمي، وأستمع لكل الأحاديث الدائرة. مازال يمكنني استذكار وجوه النساء الحاضرات للتعزية. سمعت حينها كلمات كثيرة. كانت إحدى أخواتي تبكي، والأخرى تتحدث مع إحدى الجارات عن امتناع أخي بأن يأتي بجنازة أبي للمنزل، وجارة أخرى تتحدث مع أختها بصوت خافت تملؤه الحسرة متجاهلة وجودي، متمنية لو أن جدتها لم تمنح أبي هذه الأرض، وبقيت لهم، وأخرى تتحدث عمن سيجلب غداء الفاتحة، وأخريات يتحدثن عن أحوال أبنائهن، ويتبادلن النكت، وقلائل منهن يقرأن القرآن. لم أسمع أحدًا يطمئن أمي بالقدر الذي كانت تحتاج إليه. أمي البعيدة عن أهلها مسافة محيط بأكمله، كانوا جميعهم يحضنونها ويوصونها بالصبر لا أكثر، ولم يُفهمني أحد ما يجري إلا الجدة الشيخة. حضنتني، ومسحت على رأسي وأخبرتني بأني من الآن فصاعدًا أصبحت يتيمة، وواصلت: “لكننا معك”.
مثل الفتى في الفيلم حرمت من أن أودع جثمان أبي، هذا ما أراده ابنه البكر. لا أعلم ما الذي كان يهدف له بعناده، ولكن إن كان يريد مسح تفاصيل وجه أبي من ذاكرتي فقد نجح، لا أتذكر وجهه، صورته ضبابية في مخيلتي، كل ما أذكره عنه هو ذاك الجسد المشلول الذي كانت تنظفه أمي رغم ثقله، وصرخات ألمها اليومية، ورائحة المستشفى. كلما يأتي ذكره أتذكّر وصف رضوى في “الطريق إلى الخيمة الأخرى”، وهي تقدم تحليلًا لرواية “رجال في الشمس” واصفةً مدى المشقة التي واجهها الفلسطينيون أثناء لجوئهم حيث وصل بهم الأمر إلى الهلاك ما بين الحدود العراقية والكويتية في خزان ماء على ظهر سيارة، الخزان الذي كان أشبه بفرنٍ مشتعل، أستحضر ذكريات مشي أمي من منزلنا إلى المستشفى المرجعي في الغرب لزيارة أبي المقيم في المستشفى لرعايته، بيتنا الذي كان يبعد عن المستشفى ما يقارب النصف ساعة، بيتنا الذي كان أشبه بالقفص الصغير، المنزل الذي تقاتل إخوتي من أجل بيعه فور انتهاء العزاء كالجرذان دون أن يكترثوا لحالنا (أنا وأمي). أستذكر آهات وأنين أمي قبيل نومها، كنت أنا ابنة الرابعة من العمر أدلّك رجليها المتشققتين من كثرة المشي، وظهرها الذي كان ملتهبًا من حملها لأبي وتنظيفها له. أمي التي تحوّل لون بشرتها الأبيض إلى السمرة، السمرة التي اكتسبتها من مشيها الطويل تحت الشمس يوميًا من بيتنا إلى المستشفى ذهابًا وإيابًا. أمي التي لم تستقل سيارة أجرة خوفًا من اتهامهم لها في شرفها دون حقّ لكونها امرأة وحيدة، امرأة غير عمانية ووحيدة. وفي أصعب الأحوال كانت تطلب من رفيقتها التي أتت بخبر وفاته لتقوم بتوصيلها بسيارتها إلى المستشفى. أمي التي أصبح جسدها هزيلًا لعدم استطاعتها أكل أي شيء لشعورها الدائم بالاشمئزاز الناتج عن تبديلها حفاضات والدي، وتنظيفها للالتهابات الجلدية التي كانت تملأ جسده المعتل، الالتهابات الشبيهة بالدمامل التي كان يتجمع فيها الصديد كل يوم. وأتساءل في نفسي كيف تحملت كل ذلك؟ ماذا لو كنت قد فقدت أمي بسببهم؟ ماذا لو لم تكن أمي موجودة اليوم بسببهم؟
بيع المنزل، وتقاسموا الورث، وحملتني أمي معها للهند لأننا كنا بلا مأوى. بعدها عدنا، لا يهم كيف، ولكننا عدنا. بدأت منذ ذلك الحين رحلة تنقلنا من منزل لآخر. لم يكن منزلنا فاخرًا. كان صغيرًا يناسب حالنا كأسرة فقيرة، من ذوي الدخل المحدود، رأس مالها أربعون ريالًا تحصل عليه من وزارة التنمية الاجتماعية كل شهر، كان بيتنا ضيقًا، لا يحمل أكثر من عشرة أشخاص، حتى وإن حاولنا تقسيمهم بين الصالة والغرفة، لكنني كنت أستطيع أن أسميه منزلي. أتذكر الدرج المطل على السبلة الذي كانت تجلسني فيه أمي لتفلية شعري من القمل، أتذكر باب الصالة التي كنت ألصق نفسي بالقرب من حافة جداره لتقيس أمي طولي كل أسبوع، ورغبتي في الوصول إلى كتفها، أتذكر المطبخ الذي كنت أحضر إليه كرسيًا لأستطيع غسل الأواني في المرات التي كانت تكون فيها أمي منشغلة في تنظيف أبي، في أحيان كثيرة وأنا أغسل الأواني الآن، أسهب في خيالي، يتكرر أمامي مشهد الطفلة التي تبلل ملابسها، وتبدلها على عجل خوفا من ضرب أمها، وأبلل ملابسي بالفعل.
كانت تخبرني أمي بأني لابد أن أشكر الله لأن الحمام أصبح في الداخل، حيث كان سابقًا يتوجب عليها أن تأخذ معها دلوًا لتقضي حاجتها في حفرة خلف المنزل. كانت تخبرني عن خوفها من قضاء حاجتها في كل مرة، وعن الحشرات التي كانت تجدها في طريقها في كل مرة، ولكنها كانت تذهب إليه في كل مرة كما لو أن شيئًا لم يكن. في كل مرة أشكو فيها عن اشمئزازي في مشاركة الحمام مع الجميع، تعيد سرد القصة من جديد بصوت جاد، وفي كل مرة أتأكد بأن ما فعلته البلد بأمي ليس بالشيء القليل، لم تدفن طفولتها فقط، وإنما جعلتها تدفن خوفها، وشوقها لوالديها، لأن لابد من الفرار منها.
لطالما أرادت أمي أن يكون لدينا منزل، ولطالما أراد لنا القدر شيء آخر. لا أتذكر عدد بيوت الإيجار التي نقلنا إليها، ولا عدد المرات التي هُددت فيها في لحظة غضب بأني سأُترك خادمة في منزل أحد إخوتي من الأب؛ لأكون الفتاة المطيعة، غير الناكرة لمعروف من استضافها حتى وإن كانت المعيشة أشبه بالاستعباد، حتى وإن كانت تتعرض للعنف. كنت على الدوام أفرح لانتقالنا لمنزل جديد على أمل أن شيئًا ما سيتحسن، شيئًا ما سيجعلني أشعر بدفء المنزل. كانت كل رحلة انتقال تعني لي بداية جديدة، حتى وإن كانت مرهقة، كما هو حال كل بداياتي. لم يكن مهمًا بالنسبة لي يومًا حجم المنزل، ولا شكله، حتى وإن تطلب مني النوم أسفل مكيف هواء لا يمكنني غلقه من المنفذ دون أن تلسعني لسعة كهرباء خفيفة، كل ما كنت أرغب فيه منزل لا أهدد فيه بالطرد، مكان أستطيع أن أسميه منزلي دون تردد.
في كل نقلة جديدة تزيد أمي من حجم الأمتعة، تجعلنا نحوّل كل مساحة إلى بيتٍ نخزن فيه ما شئنا من الأغراض والصناديق المنقولة. في كل مرة نحاول فيها التخلص من بعضها نجد تحتها مخزونًا أكبر مما انتشلناه تحيط به العناكب والغبار. تشكو أمي كل ليلة قبيل نومها من صغر المكان، وارتفاع الأسعار، وضيق الحال، وتنهي شكواها بقولها: “الله كريم أماه، إن شاء الله من تتوظفي أنت بعد بيتعدل الحال”، وتغط في النوم، أما أنا ففي كل مرة استمر في التحديق في السقف، أراقب دوران المروحة، وصوت صريرها المختلط بصوت المكيف. تعود بي هذه الأصوات إلى الأصوات في ممرات المستشفى، تذكرني بصوت أنين المرضى. ثم أستيقظ، وأتذكر بأني لم أتناول حبة الفلوكستين. أشرب جرعات من الماء، من زجاجة الڤيمتو التي أعادت أمي تدويرها لتخزين ماء الشرب. أشعر بضغط شديد في رأسي، الأفكار تتزاحم، تتراكم، تعود بي لكوابيس الماضي تارة، وترمي بي في هواجس المستقبل تارة أخرى إلى أن أشعر بالاختناق، وأبكي. أتعجب حقًا من قدرة عقلي على تحمل أن يكون في ثلاثة أماكن في آنٍ واحد. أقف، أجول في المطبخ، ذهابًا وإيابًا كما لو أنني أقطع الأشواط السبعة بين الصفا والمروة بحثًا عن حل يريح نفسي المضطربة. أعود للصالة، أرنو إلى هاتفي، أقرأ الإشعارات الظاهرة على شاشة القفل بلامبالاة، أفكر في الاتصال بأحد الأصدقاء. أحادث نفسي، وأتساءل: ألا يكفي ما أظهرته من ضعف أمامهم فأمتنع. ثم تتكرر الأحداث نفسها في اليوم التالي، وأفكر متى سيكون لنا منزل، متى سنخرج من هنا.
ربما لهذا علاقتي بفكرة المنزل، والآباء مضطربة، لم أستوعب يومًا ما حصل، ولا أعلم كيف يرثي الأبناء آباءهم، ولكنني أرثيه ببكائي في كل مرة يتطلب منا الأمر لأن ننتقل لمنزل جديد الآن، وأستعيد قول أمي لوصيته، وإيمانه بعدم قدرة أبنائه في طردنا. لم أفهم معنى اليتم في يوم وفاته، ولكني الآن أفهمه، اليتم يعني أن تكون مشتتا طوال حياتك، باحثًا عن أصلك، محكومًا بالشعور بالغربة على الدوام، ما أعرفه بأن وفاته لم تجعلني يتيمة لوحدي، وإنما جعلت كلتانا يتيمتين، أنا وأمي. في المرات التي أحاول فيها أن أتخيل أمي كزوجته أعجز، لفارق السن الكبير بينهما. بدت لي كما لو أنها ممرضة تؤدي واجبها تجاه مريضها، حتى عندما بكته في العزاء، بكت لأنها كانت تعلم ما المصيبة التي ستحل بنا، ولم أرها من بعدها تبكيه لو مرة، وفي المرات التي أسألها عما إن كانت تحبه، تجيب علي: هو كان يحبني وهذا كافي.
عندما انتقلت إلى مانشستر شعرت بنشوة تسجيل منزل باسمي، بالرغم من كونه منزل إيجار إلا أنه كان دافئًا. كانت كل بيوتنا من بعد العزاء خالية من الضوضاء والناس، إلا أن منزلي هنا كان مختلفًا عما قبله من بيوت. كان بعيدًا عمن تسببوا لي بالأذى، وكانت أمي معي. والآن عدت إلى هنا لوحدي كطالبة دراسات عليا، كنت مخيرة بين أن أكون في مكان أحتضر فيه معهم كشخص مزدوج، أو أن أكون في مكان ما وحدي كشخص حقيقي، فاخترت القدوم، وظننت بأني بقدومي سأحسم كل حياتي، ولكن هأنذا مشتتة، أحيا بنصف قلب، والنصف الآخر يدهسه البعد كل يوم، وأبحث عن منزل.
[1] ليليى عبداللاني: “ما تقول الوجهات؟” < https://khatt30.com/photo/مدينة-الجزائر-العمارة/>
* الصورة للفناء الخلفي لمنزلي الأول في مانشستر