المصادر العميقة للتضامن

مقدمة:

مع كل حدث طبيعي أو بشري تظهرعلى السطح الكثير من السمات البشرية المختلفة، كالصراع والتنازع من جهة، والتضامن والتضحية من الجهة الأخرى. غير أن الكثير من الأحداث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والبراكين  – على سبيل المثال – تُظهر الجانب التضامني ووقوف البشر مع بعضهم البعض، في حين أن الأحداث البشرية كالتنازع على السلطة – مثلا ً – والجرائم والسرقات وغيرها، تظهر سمات بشرية أخرى مناقضة للتعامل مع الأحداث الطبيعية بشكل ٍ شبه كلي.

تسعى هذه المقالة لإستكشاف أنواع مختلفة من التضامن، منها التعامل المجتمعي غير الحكومي مع الإعصارشاهين الذي ضرب الأراضي العُمانية في بداية شهر أكتوبر 2021م، والتضامن المجتمعي الذي يقوم به الأفراد تجاه المعسرين في المجتمع العماني الذين يعانون من مصاعب مالية، وغيرها. وهل تندرج ردات الفعل المجتمعية في جانب الواجب الأخلاقي والحس الإنساني الكوني؟ أم تندرج ضمن جانب الهوية والقضية المشتركة؟ أم الجانب النفعي المتمثل في الجانب الأخروي والخوف من الحساب والعقاب أو طلب الجنة من جهة، أو الإنطلاق من مبدأ المعاملة بالمثل التي لها جانبها النفعي أيضا ًمن الجهة الأخرى؟ أم أن كل هذه العوامل متغيرة حسب السياق ومن الممكن أن تنقلب لضدها؟ وهل للسلطة دور في هذه الجانب؟ أم أن دورها تنظيمي فقط؟

بالرغم من تداخل المصادر العميقة لهذا المفهوم الإشكالي كما هو واضح في الأسئلة المُثارة أعلاه، والتي تؤدي في كل الأحوال لنفس الممارسة العملية، إلا أن محاولة إستكشاف هذا الجانب تكتسب أهميتها من معرفة حدود التضامن، وجغرافيته، والخطوط الحمراء التي ترسمها بشكل ٍ ضمني مفاهيم متداخلة، كالدين والهوية وغيرها من المفاهيم التي تُشكل في الكثير من الأحيان عاملا ً محفزا ً وأحيانا ً عاملا ً معيقا ً.

1) التضامن والهوية المُشتركة:

بعيدا ً عن الجانب التاريخي والأكاديمي البحثي لمفهوم التضامن Solidarity  أو التماسك المجتمعيSocial Cohesion كما ذهب إميل دوركهايم مفُضلا ً هذا المصطلح على مفهوم التضامن الشائع الاستخدام، فإنه ينطوي كما يعبر الفيلسوف الألماني راينر فورست Rainer Forst في ورقته حول التضامن: المفهوم والمفاهيم والسياقات،  على “رابطة معيارية معينة مع الآخرين، تشكلت من خلال قضية مشتركة أو هوية مشتركة”. ومع وجود الكثير من التحديات والأخطار التي تُهدد هذه الهوية تزداد حدة التضامن، وجغرافيته، كما تتسع التضحيات والدعوات المختلفة للدفاع عنها بكل الطرق الممكنة. ذلك ان التضامن “يتوجه للطرف الأضعف في المجموعة” كما يقول فورست. فالقوي لا يحتاج للتضامن، ولا الغني، ولا صاحب السلطة، ولا حتى الأفراد الذي يقعون خارج نطاق الضرر المباشر، فكل هؤلاء لا يحتاجون له، ولا يبحثون عنه أيضا ً. فهو بهذا المعنى متوجه فقط وحصرا ً إلى الحلقة المتضررة والضعيفة، تلك التي تحتاج لمساعدة عاجلة، لا تحتمل التأخير. فالوضع الاقتصادي والمادي العادي واليومي بكل ما يتضمنه من مصاعب مادية وغيرها، لا يقتصر فقط على منطقة جغرافية معينة، بل أصبح متزايداً بشكل ٍ شبه يومي. كما أن الضرر المالي من الناحية البشرية لم يعد مقتصرا ً فقط على بقعة جغرافية معينة، فهو يطال الفرد بسلوكياته المختلفة لا الجغرافيا.

بالإضافة لذلك، نجد أن هذه “الروابط المعيارية” التي تحث على التضامن ليست خيّرة أو بالضرورة ذات جانب واحد، بل من الممكن أن تكون ذات أوجه مختلفة، ومتداخلة، شأنها في ذلك مثل الهوية كمفهوم وكسلوك التي تكتنز بداخلها الكثير من نقاط القوة والضعف. فالتضامن من الممكن أن يحدث في الأفعال السيئة الضارة كما يحدث بين الأفعال الجيدة.من هنا فإن التضامن في جانب منه سياقي، يعتمد على سياق الموضوع أو القضية، ومن جانب آخر مواز ٍ له له بُعد معياري، وقيمي وأخلاقي.

كما أن هذه الدعوات المختلفة للتضامن، لا يمكنها أن تُحققه إلا عندما تتحول لفعل وسلوك واقعي، ينقل حالات المتضامن معهم من وضع سيء لوضع أفضل، ليس عن طريق الجانب المادي والمالي فقط، بل أيضا ًعن طريق الحوافز القيمية المختلفة، غير أنها ليست مثالية ولا ترتبط بالمنافع البشرية اليومية التي يعيش فيها الفرد من ناحية أخرى، فهذه السلوكيات كما سنرى في الفقرة اللاحقة لصيقة الصلة بالمنافع الآنية من جهة، وخاضعة للظواهر المجتمعية المعاصرة التي نشهدها تتشكل يوما ً بعد يوم من الجهة الأخرى. الأمر الذي يجعلنا نتحدث عن جانب التضحية في الفعل التضامني وحدود هذه التضحيات، والخطوط الحمراء التي تقف عندها ولا يمكن تجاوزها.

2) التضامن والتوجهات المعُاصرة:

بالرغم من ذلك، وبعيدا ً عن البحث في الأسباب الرئيسية التي أدت للتضامن، كالتخطيط الحضري والعمراني للمناطق المتضررة من جهة في حالة اعصار شاهين، والمستوى المعيشي للأفراد من الجهة الثانية في حالة الأفراد المعُسرين، والتغير المناخي الذي أثر بشكل ٍ كبير على زيادة الحالات المدارية والأعاصير من الجهة الثالثة، إلا أن هناك الكثير من التوجهات المعُاصرة التي لا يمكن التوصل إليها من الناحية النظرية، والتي تتشكل بشكل ٍ مستمر في المجتمع، ذلك أن التوجه للميدان والعمل هناك، ورؤية الجهد البشري المجتمعي المبذول من الممكن أن يساعد في تكوين رؤية واضحة عن التوجهات المعُاصرة التي رافقتها، وهي ليست ذات طابع واحد أو توجه أحادي، وهي مبدئيا ً كما يلي:

  1. التنوع المجتمعي: يعتبر التنوع المجتمعي حافزا ً مهما ً للتضامن، فهو ينطلق من خلفيات متعددة، منها ما هو ديني، اجتماعي، عرقي، وجندري أيضا ً، وغيرها من العوامل المتداخلة.فهذا العامل بالرغم من اتساعه إلا أنه يخفي خلفه رغبة في حضور مختلف الأطياف المجتمعية في الحدث مهما تباينت، ومهما تباعدت أيضا ً.
  2. الفُرجة كمصدر للتضامن: من العوامل التي دخلت بشكل أساسي في تضامن الأفراد بين بعضهم البعض جانب الفُرجة، فهذا الجانب يستخدم بشكل ٍ كبير مؤخرا ً في القضايا الانسانية التي في الكثير من الأحيان تُحل بسبب الفرجة التي تعني “مشاهدة ما يتسلى به الفرد”، ويٌقضّي بها يومه، ويجتمع فيها مع رفاقه.
  3. الحضور الاعلامي: دخل أيضا ً الحضور الاعلامي للفرد والمجموعات في القضايا الانسانية لتعزيز الجانب التضامني بين الأفراد في المجتمع، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي الشاهد الحي والمباشر على كل هذه الأفعال، بهدف نشرها بين الآخرين من جهة، وبهدف التأثير عليهم واستمالتهم من الجهة الأخرى أيضا ً.فالأحداث لا أهمية لها دون هذا الحضور الاعلامي المتزايد، الذي يشجع الآخرين على القيام بالكثير من الأفعال الخيّرة.
  4. معايشة تجربة جديدة: من الواضح أن النمط الحديث للحياة الذي يحتل فيه العمل والأسرة والارتباطات اليومية المتكررة، في حاجة للتجديد، وممارسة أنشطة وفعاليات جديدة، ومنها على سبيل المثال السلوكيات التي تؤدي للقيام بأفعال إنسانية غير مسبوقة ولا تتكرر كثيرا ً، ذلك أن التكرار هو النمط الثابت في ايقاع الحياة اليومية، من هنا تأتي الحاجة الماسة لمعايشة تجارب جديدة مهما كانت مرهقة، أو مُتعبة في تلك اللحظات، الأمر الذي يجعلها تبقى في الذاكرة لفترات زمنية طويلة قادمة.

تُلقي هذا التوجهات الجديدة الضوء على التحولات التي يعشيها الفرد في علاقته مع الجانب المعنوي، فهي ليست بالضرورة عاملا ً مؤكدا ً ووحيدا ً لحدوث فعل التضامن، بل تأتي كجانب أو جوانب معززة، ومساعدة للقيام بهذه الأفعال وغيرها. ففي الكثير من الحالات نجد أن الجانب اللاواعي من المحفزات لفعل التضامن يلعب دورا ً أساسيا ً في القيام بها.

3) التضامن والجانب السياقي:

في سياقات أخرى، بعيدا ً عن الكوارث والأفعال البشرية السلبية، من الممكن أن ينقلب التضامن لنقيضه مع نفس المجموعة وفي الحيز الجغرافي والبشري نفسه. ذلك أن السياق له أهمية قصوى، ليس في جانب التأويل وقراءة النصوص فقط، بل يصل للجانب السلوكي وردات الفعل المختلفة. فالتعاطف مع الآخرين، ليس ثابتا ً دائما ً، فهو معُرض للتغير، والتأثر بالكثير من المحددات التي هي بدورها أيضا ً ليست ثابتة. ففي جوانب كثيرة منها، تبقى معنوية، انفعالية، عرضة للأهواء والانفعالات، ومن الممكن القول أيضا ً أنها تتفق مع عقلية القطيع أو التفكير الجماعي. ذلك أن التفكير الجماعي أو المجموعات لا تقوم على جوانب واضحة، لها أهداف عقلية مميزة، بل في الكثير من الأحيان تقوم على جوانب تبدو متناقضة في الكثير من الأحيان، كالمجموعات التي تقوم على العصبيات العائلية، والقبلية، والوظيفية المختلفة.غير أن ما يجمع بينها هو الهدف أو الإتفاق على النتيجة. فالمجموعات ليست واحدة، والسياقات أيضا ً مختلفة، ومتباينة بشكل ٍ كبير.

فالعامل السياقي، هو المحدد لدرجة كبيرة تجمع الأفراد، وهذا ما نجده في المجموعات العملية والوظيفية التي تتكون على إثرها الكثير من التحالفات المختلفة، حيث أن هذه التجمعات تنتهي عندما يتلاشى السياق الذي يجمع بين هذه المتناقضات أو المجموعات فيما بينها. من هنا، فالسياق كما يقول راينر فورست “مفهوم معقد يتضمن الجوانب التالية: فهو يحدد الطبيعة المعيارية (أو النقطة) للرابطة التضامنية ويحدد مجتمع التضامن. إنه ليس مجرد سياق للعمل بل هو سياق معياري لفهم الذات، على المستوى الفردي والجماعي”(نفسه).حيث انه ينعكس أيضا ً ليس على الجانب التضامني بكل تعقيداته وخلفياته، بل يصل في أحايين كثيرة للجانب الأخلاقي، الذي يساعد على تعزيز فعل الخير المشترك بعيدا ً عن المرجعيات المختلفة كالمرجعية الدينية والاجتماعية وغيرها.

في مقابل كل ذلك، نجد أن الكثير من الأفعال الجماعية ليست خيّرة، بل تأتي كتعبير عن تعصب بعض الأفراد لدعوات أو لنوازع تدميرية، كما هو الحال في الصراع بين المجموعات المختلفة، والحروب إلى حد ٍ كبير. فالتضامن في الشر أو العصبية بالمعنى السلبي تعتبر نوعا ً من أنواع التضامن أو التآزر بين أفراد المجموعة الواحدة في سبيل تحقيق أهداف ٍ ليست بالضرورة تخدم المصلحة العامة، بل نجدها في الكثير من الأحيان تخدم مصالح شخصية، وفئوية خاصة.

خاتمة:

من خلال ما سبق، نجد أن المصادر العميقة للتضامن ليست واقعة تحت سيطرة بُعد واحد، بل تتناكفها الكثير من الأبعاد التي تبدو للوهلة الأولى منقطعة الصلة فيما بينها، غير أنها ترتبط من الناحية الضمنية بجوانب هووية تتشكل بمستويات ومظاهر دينية، واجتماعية مختلفة من جهة، وبجوانب نفعية مباشرة أو غير مباشرة من الجهة الأخرى. فالتضامن بالرغم من النتائج الخيّرة التي يحققها في الكثير من الحالات إلا أنه من الممكن أن ينقلب إلى النقيض في سياقات مختلفة تقود للكثير من الأفعال غير الخيّرة.

العدد الأخير العدد الثلاثون بعد المائة ثقافة وفكر سياسة

عن الكاتب

علي بن سليمان الرواحي

كاتب وباحث عماني