أصداء الألوان والظلال*

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

أصداء الألوان والظلال*

١.

وجه الصباح مخطوف

الصدى الصوتي

مضطرب

والليل شاحب.

صباح يوم الجمعة ٢٧ مايو ٢٠٢٢م ترجلت يد الفنان التشكيلي محمد نظام عن لوحاته، عن ريشاتها وألوانها وأقلامها، تلك اليد التي طالما صورها في لوحته بأطوارها المختلفة، وانتهت حياة رجل حالم، رأي الحياة في حلمه:

“حياتي أشبه بصعود سلم، أحيانًا أقف طويلًا في درجة واحدة، وأحيانًا أقفز على درجات عديدة مرة واحدة، أهو صعود أم نزول؟ وفي أيهما يكمن الرحيل؟ لست متأكدًا”.

٢.

مرت الشمس والأرض

بفُرَش النهار والليل

لوحات حياتنا

ومضات على مياه الزمن.

دخول الفنان للعالم يتم عبر ولادة ذاتية، اولدوا على رأي جلال الدين الرومي، ووالدا المرء يلدانه مرة واحدة ثم عليه أن يلد نفسه كل مرة على رأي غابرييل غارسيا مركيز؛ بعد إنجاز الفنان لتلك الولادة الذاتية، يغدو بمقدوره رؤية جزء من حقيقة العالم، فيجاوب العالم بفنه:

“كان العالم يشتعل ولا حيلة للفنان غير لوحته وألوانه ليواجه بهما بشاعة العالم”.

٣.

بعد أن تقابل

أصالة الروح

بقية الأشياء

باهتة.

الانسحار بالفن، بلوغ الجهة الفنية من الوجود، ليس سوى ميناء روحيّ غامض داخل الإنسان يجسده الفنان، وهو يجسد به الوجود والحياة، يصعد به، على ثقل أحدهما وخفته، الفنان والفن، عبر تحولاتهما المستمرة، عبر وجودهما الروحيّ، هناك يرى الفنان الأشياء كلها حتى روح الفن تتراءى أوضح هناك:

“الفن هو الحياة بكل تفاصيلها التي تدرك بالأحاسيس وتلك التي لا تدرك أيضًا”.

٤.

شكلت أعمال محمد نظام طريقًا متفردة قل نظيرها في الوسط الفني على الأقل، بكل التنوع والتعدد والأساليب، وليست سمات الحداثة الواضحة في أعماله المبكرة وحدها، وهو الذي لم يكن مشغولًا بالمدارس العادية أو الفنية أكثر من انشغاله بالمساحة الفنية المناسبة لتعبيره النفسي، بل بالإخلاص الفني الصادق الذي عرف وجهته منذ البداية وتبعها بإيمان قل نظيره، هو ذاك ما جعله متفردًا حتى النهاية.

أدرك محمد نظام منذ البداية نفسه وما يحبه حقيقة والاتجاه الحقيقي الذي عليه أن يمضي إليه، وذلك ما جعل عمله مخلصًا هو الآخر، للفن نفسه، وهو ما يبتدئ سواء في مزجه وذوقه اللوني، واستخداماته البارعة للأيقونات الفنية، والصور، والتماثيل الفنية الأثرية، وإعادة تكوين تعبيراتها داخل لوحة معاصرة، وكذا اهتمامه وعنايته بالتفاصيل البالغة الصغر، الأمر الذي يذكرنا بافتتانه وعنايته بالطوابع بوصفها لوحات متناهية الصغر، أو بالأختام بوصفها أيقونة ثقافية ورسالة تعبيرية، وهو ما تجسد في عمله الأساسي في الفن البريدي الذي خرج من إطار الطابع البريدي إلى الغلاف وظرف الرسالة نفسها، فضلًا عن عمله في السينوغرافيا في تجربته مع الشاعر والمخرج المسرحي عبدالله الريامي، كل تلك الاتجاهات المنفتحة على الفن بكل أشكاله طبعت أعمال محمد نظام بالتنوع والتعدد والاتساع وجعلت لوحاته وأعماله تخرج من إطارها، فخرج بسرعة من بوتقة الأحادية والجمود، مثلما أنبأ كل ذلك عن غنى الطاقة الفنية التي سكنته وجعلت حياته مليئة بالعطاء والعمل.

“الفنان هو ابن الطريق الذي يسير عليه والبشر الذين يصدف وجودهم في حياته سواء بالمعاشرة المباشرة أو القراءة أو الدرس”.

٥.

تطرق محمد نظام في الحوار الذي أجراه معه الروائي سعيد بن سلطان الهاشمي والذي نشر في كتاب غريب لا تعرفه ولن تلتقيه يومًا، لمراحل افتتانه الفنية المختلفة، سواء بفنون النهضة الأوروبية أو بالفن المصري القديم أو بفنون الشرق الأقصى، ورغم ذلك فقد بدا واضحًا في الحوار أنه يرفض رسم حدود فاصلة لتجربته، فتلك بنظره مهمة اللوحة:

“اللوحة كما أفهمها هي حوار، مع نفسك، مع الطبيعة، مع الألوان، مع ذكرياتك، مع حزنك، مع إحباطك، مع حبك، مع غريب لا تعرفه، ولن تلتقيه يومًا. وأحيانًا اللوحة سر، سر يخبئ شيئًا غامضًا عن نفسك، عمن تحب، عن الفضوليين المعاصرين، سر، شفرة، سيفهمها أناس قادمون، من زمن آخر، أو مكان غير المكان الذي أثر فيك وقت ميلاد اللوحة”.

وفي تعامله مع اللوحة كان من الواضح أنه اصطحبها بقوة لتخرج من حدود الإطار، الإطار بوصفه حاجزًا يمنع تفاعل اللوحة مع محيطها، بل ولم يكفه ذلك حتى طفق يكتشف حضور اللوحة في العالم.

يمكننا أن نميز، رغم عجزنا عن حصر أعمال محمد نظام أو استعراضها زمنيًا، لكننا نستطيع التمييز بين المرحلة اللونية، وهي المرحلة التي كانت لوحاته فيها زاخرة بالألوان الزاهية، حتى أن اللون يرسم لوحده كما نجده في لوحة رقصة الدرويش، حيث لا درويش حقيقي مجرد ظلال لونية، كأن الدرويش الراقص خيال أو ظل، وفي تلك المرحلة انطبعت أعماله بغزارة لونية واضحة حتى يمكن لمن يتأمل لوحات تلك الفترة أن يتلمس كثافة الألوان وعمقها.

بعد ذلك أتت مرحلة مختلفة، فيها تقشف لوني واضح واكتفاء بالأسود والظل والخط، وفي هذه المرحلة كانت الاحتفاء أكثر بالخطوط وبالفراغات في اللوحة بتثمين الفراغ وجعله عنصرًا حاسمًا من عناصر اللوحة ومركز ثقل فيها. في هذه المرحلة انحسرت الألوان بل وصلت حد التقشف اللوني فهناك لون واحد أحيانًا كثيرة أزرق أو وردي يبدو مثل لمسة أو خفيفة كأنها سراب أو حقيقة ضبابية تخلق التباين.

٦.

عند نار الفن

أنا أخذت مشعلي

وطفقت أبحث عن نفسي

في الظلام.

في أعمال الكولاج التي كان ينشرها محمد نظام على صفحته في الفيسبوك أو على حساباته الأخرى مثل حسابه في deviantart بدت أعماله الأخيرة كأنها صهر نهائي لكل الأساليب التي كان يعمل بواسطتها طوال العقود الماضية، كأنها وصلت المصب، حيث تجتمع الأنهار، أو تلتقي النيران، وبدت كأنها الرسالة الفنية، خاصة إذا استعدنا مرحلة الفن البريدي السابقة عليها.

في المرحلة الأخيرة نجد الرسم والكولاج والتركيب والألوان الأحادية البسيطة وأسلوب التلوين الطفولي المتعمد، كل ذلك مع استثمار عدة رموز من لوحاته وأعماله المبكرة إضافة إلى قصاصات وصور معاصرة وحديثة عالج بها أحيانًا مواضيع راهنة، مثلما نراه في معالجته لموضوع فيروس كورونا حيث دخلت رمزية الممرض والممرضة والكمامات إلى أعماله، رغم أنه لم يكن ممن يعول على المعنى بشكله المحدد بوصفه هدفًا ملزمًا للفنان أو للوحة:

“منشغل بتجميع كل لحظة من لحظات حياتي، على شكل منمنمات متناهية الصغر، لكيلا تفلت مني، وأنا لم ألحظ أهم انحناءاتها، ولا درجات ألوانها، على أمل أن أرسم اللوحة التي تمثل حياتي”.

إن الكولاج يمثل تلك اللحظة، لحظة أسلوب فن التعشيق، حيث الأجزاء الدقيقة ملصقة إلى بعضها البعض، حيث تجد المعنى في تجاورها ذلك، أو لا تجد، فليس المعنى بتلك الأهمية التي نحسبها، ويمكن أن نتحرر حتى من أسره، مثلما يريد لنا هذا الفنان.

ولعل أكثر ما يلفت الانتباه في النمط التعبيري الأخير الذي تبناه، من وجهة نظر شخصية، هو التعبير المكثّف عن تحول الإنسان إلى آلة، إلى روبوت آلي، واستبداله الجسد الإنساني بالروبوت، وكذلك دخول رموز المهرج، المهرج البشع، بوصفه تعبيرًا عن السلطات، ودخول رموز المبيدات بوصفها تعبيرًا عن الطعام الصناعي، وفي لوحة منها يمسك الروبوت في يد بزجاجة البيبسي كولا وفي يد أخرى بالمبيد، وكما يبدو فإنه في اللحظة التي ترك فيها محمد نظام البحث والانشغال بالمعنى ظهر المعنى بنفسه تلقائيًا وبكل بساطة ووضوح.

٧.

أخرج اللوحة من إطارها

إلى مظاريف الرسائل

بأجنحة طوابع وختم الطيران

جعلها تسافر.

٨.

دقات القلب

الضربات المتتالية

على اللوحة

عادت إلى نبعها الآن.

من الرموز المتكررة في أعمال محمد نظام الأخيرة والتي طغت حتى على مرحلة الفن البريدي الأخيرة رمز القلب، القلب بوصفه المركز والمرتكز الحياتي الرئيسي، القلب ليس فقط كمضخة دم، بل هذه الأعجوبة الجسدية التي كان الفنان مسحورًا بها، وأكثر بالجسد ككل، يمكن الحديث عن القلب بوصفه تجسيدًا للبطارية السحرية.

“لطالما أدهشني هذا الجسد، منذ صغري، كيف يتحرك بلا بطارية ودونما أسلاك، ومن أي نبع يستمد قوته وطاقته للبقاء.

الجسد معلم كبير ودائم وأمين للإنسان. أحيانًا حتى غياب الجسد، حلول الفراغ، أكبر محفز للرسم، لملء هذا الفراغ، خلق أجساد أخرى بديلة للأجساد الحية التي تفتقدها، أو تشتهيها، أو تتمناها حولك. أظن أن الفراغ من الأجساد أكبر محفّز لميلاد الفن وتطور رسالته”. محمد نظام

لكن القلب كان له علاقة شخصية بالفنان، علاقة خاصة مضاعفة.

بعد إصابتك

بمرض القلب

في كعبة اللوحة

وضعت حَجرَ القلب.

٩.

ما كان يبدو لي من قبل رأس سمكة في أعمال محمد نظام يبدو لي الآن رأس أفعى، ذلك من كثر حضور الأفعى بأشكالها المختلفة في أعماله الأخيرة، ورغم أن الأفعى قد تكون رمزًا معروفًا ومتداولًا للأدوية، لكنها كذلك رمز للموت، وهو الموت الذي يحضر مصوّرًا بجماجم مختلفة الأشكال، وهياكل عظمية، لها طابع ساخر، كأنما في سخرية مبطنة من الموت، وذلك بارز في أعماله الأخيرة.

١٠.

عند نار الفن

أنا أخذت مشعلي

وطفقت أبحث عن نفسي

في الظلام.

وأنت أمسكت الفحم

والرماد

ولون النار

ورسمت نفسك.

كل تلك الأشياء الآن

البطاقات البريدية

ولوحات الجبال والبحر

مرفوعة في معرض الدهر.

١١.

ظل الفنان محمد نظام ذاك الطفل المسحور بالعالم الذي يعود بعد المدرسة إلى دكان أبيه في طرف سوق دبي ليعودا معًا إلى البيت، وفي طريقه يكون مسحورًا وممتلئًا حماسة بكل ما يراه، وكان كذلك مرة ثانية في القاهرة وهو مسحور بالفن الفرعوني، وثالثة وهو في تايلند يطوف المعابد البوذية، وحيثما حل وارتحل ظل كذلك، مسحورًا بالحياة والمصادفات والأشكال والعمائر وحركة السوق والبشر والناس وتكوينهم لحياتهم وطرق تعبيرهم والألوان التي تحيط بهم، كان يتحدث مرة عن أثر الأزرق والأصفر، البحر والصحراء على أمكنة ومدن مثل مطرح ودبي، كأن الألوان هي التعبير الرمزي في عين الفنان عن الجغرافيا، وقبل أن يرحل كان قد أتمّ رسم اللوحة التي كان يحلم بها، لوحة حياته.

١٢.

“أنا أقطن عزلتي منذ أدركت وجودي، كان ذلك منذ زمن بعيد”.

كم ضخّ الألوان

وعند لوحة هذا الصباح

توقف

قلب الفنان.

* كل الاقتباسات من كتاب غريب لا تعرفه ولن تلتقيه يوما الصادر عن دار سؤال البيروتية.

نشر هذا النص لأول مرة في برنامج “في هواء الكتابة” الإذاعي، على إذاعة سلطنة عمان بتاريخ ٣ يونيو ٢٠٢٢م.

أدب العدد الأخير العدد الواحد والثلاثين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد