٢٨ مايو ٢٠٢٢ م
أقرأ الآن حلم ماكينة الخياطة لكاتبة إيطالية تروي قصةً بطوليةً لخيّاطةٍ متواضعةٍ تخيط الفساتين لنساء الطبقات الأرستقراطية، كاشفة عن أسرارهن وقصصهن المركبة مع عوائلهن. جدّد لي الكتاب ذكرياتٍ ظننتها قد انمحت من ذاكرتي. أثناء قراءتي، كنت أستطيع شم روائح الأقمشة، وسماع صوت ماكينة الخياطة، ورائحة سوق الكبرة (السوق القديم في صحار) كما لو أنها طازجة في ذهني.
أتذكر وضعي لرأسي على فخذ والدتي الممدود كل ليلة، وسهرها كل ليلة -وبالأخص الليالي التي تسبق العيد- وأنا أطالبها بأن تكف عن العمل، وبإغلاق مصباح الغرفة، بينما هي تقوم بتثبيت الأزرار، وتركيب الكريستالات الصغيرة (الفصوص) على جميع الملابس الموكلة إليها من قبل الخياط عبد المجيد أو كما كنا نسميه جميعًا “بابا” لكبر سنه.
بابا ذو الملامح السمحة، ذو بشرةٍ شديدة السمار، بشعر وشارب يكتسيهما البياض، يصبغهما كل شهرين. أتى إلى عمان وهو شاب في عمر العشرين، وقضى فيها أربعين سنةً، ليصرف على زوجته، وينشّئ طفليه نشأةً حسنة في باكستان. يخبرني في رسائله الصوتية بأن ابنه الأكبر أصبح محامٍ، وابنته تدرس في كلية الطب، وأن ما سرده لي عن مستقبل أطفاله قد أصبح حقيقة، لكنه يشكو إليّ متوسلًا بحثه عن طريقة ترجعه إلى عمان مرةً أخرى، رغم معرفته بأنه قد تجاوز سن العمل المقبول، متناسيًا اكتساح محلات الأزياء السريعة ونقصان عدد زبائنه المستمر. يقول: “من اعتاد على حر عمان لا يستطيع العيش في مكانٍ آخر حتى وإن كان نعيمًا، ومن اعتادت يديه على مدور ماكينة الخياطة، وقدمه على مدوسها، وعيناه على إبرتها وخيطها، تصبح حياته دونها بلا معنى”. يعترف بأن نسيان الزبائن له يوجعه، ولكنه كلما سمع صوت ماكينة الخياطة عاش صباه من جديد. يقول: “كنت أطمح لأن أصبح خياطًا معروفًا، ولعدد الزبائن الذين كانوا يرتادون محلي لحياكة ملابسهم، عندما كنت في صغرك، كنت أعتقد بأني سأصبح شيئًا ما، ولكن شاءت الحداثة ومجرياتها أن أكون خياطًا عابرًا لا أحد شكره على الليالي التي بقي فيها مستيقظًا من أجل أن يبدو زبائنه في أجمل حلة”. كان يدللني كابنته الصغيرة، ولعلمه بوضعنا المادي كلما كثر عمله استدعى والدتي ليكلفها بمهام تثبيت الأزرار والكريستالات، وحياكة (السحّابات) على الملابس.
كانت أمي تنهي ثلاثة أثواب أو أربعة في كل ليلة، وكنت أنام على صوت مكواة باناسونيك الحديدية الثقيلة، صوتها أشبه بصوت دقات عقارب الساعة، ولونها أبيض مائل للأصفر، يتوسطها ملصق معدني ذهبي إرشادي حول درجات الحرارة التي يجب استخدماها مع كل نوع من أنواع الأقمشة، وملصق معدني آخر أعلى المقبض لتنظيم درجة الحرارة المطلوبة، ومصدر ضوء برتقالي مشع، أشعر وأنا أسترجع تلك الذكريات بالرائحة التي يخلفها الكي على الشراشف والأقمشة غير المغسولة تنتشر في هواء الغرفة.
أكثر ما حفر في داخلي ليعيد إحياء ذكريات أمي المرتبطة بمهنة الخياطة، هو الإهداء الذي وجهته الكاتبة:
“كل الخياطات المتواضعات الحاليات في العالم الثالث، اللاتي يخطن لنا الثياب العصرية عديمة القيمة، والتي ندفع لقاءها عملات قليلة في متاجر الثياب الضخمة زهيدة الأسعار –لكل منهن دائمًا ذات الجزء منفصلًا عن بقية الأجزاء، كما في خطِّ التجميع- لمدَّة أربعة عشر ساعة، واللاتي بعد أن يتلقينَ أجرًا زهيدًا للغاية، يمتن محترقات في مصانعهن الضخمة الأشبه بالسجن.
الخياطة عمل إبداعيٌّ وبهيٌّ، وهي كمهنة ليست كذلك، ليست كذلك”،
أتذكر الليالي التي يتوجب على أمي إنهاء عمل تثبيت ما، كانت تمتنع عن شرب المياه وتناول أي شيءٍ على العشاء حتى لا يتوجب عليها استخدام دورة المياه، وإضاعة وقت العمل، وشكوى بابا من عدم اكتراث الزبائن بعدم مقدرته على استقبال طلباتهم، ووضعهم لأكياس أقمشتهم عنده فيبقى مجبرًا على حياكتها، كان يحكي لنا عن الراحة التي تتلو نومه مرهقًا يوم العيد بعد الظهيرة بعد تسليمه لكافة الأعمال حتى وإن لم يتمكن هو من الاحتفال بالعيد كغيره.
في الخامسة من عمري، كنت أشكو على الدوام من عمل أمي في الليل في الخياطة وفي النهار ببيع البخور والأقمشة، وكانت تقول لي في كل مرة: “ألا ترغبين بملابس جديدة للعيد؟ وبالزبادي المنكه بالفراولة الذي تحبينه؟”. فأفكر، وأتذكر المرات التي لم يكن لدى أمي المال فيها لشراء ملابس جديدة للعيد، وكانت تضطر إلى قص إحدى ملابسها ثم إعادة خياطتها لي، وتبقى هي بملابسها القديمة، أو بالملابس التي يعطيها إياها “بابا” التي غالبا ما تكون مصنوعة ببقايا أقمشة أحد الزبائن، أو ملابس لم يأتِ أحد لاستلامها. فأجيب: نعم أرغب. وبالطبع كانت الإطراءات التي كنت أتلقاها من الجميع حال ارتدائي لملابس جديدة ترضيني جدًا، ولكن كان علي أن أخفي حقيقة عمل أمي كمساعدة لخياطٍ أجنبي تجنبًا للشبهات، حتى أننا كنا نخفي الأمر عن أخي كلما أتى بغتةً لزيارتنا كي لا نخوض نزاعات لا طائل منها.
في صباح اليوم التالي، كنا نتوجه أنا وهي إلى السوق القديم (سوق الكبرة)، حاملتين أكياس الملابس؛ لنقوم بتسليمها للخياط، فيقوم هو بتسليم أمي مهامًا أخرى، وكنت أتلقى تدليلًا من بائع الشاي الذي يعبر من أمام محل الخياطة بين الفينة والأخرى، معطيًا إياي كوب شايٍ وبسكويت جلوكوز. أحيانًا كنت أخرج من المحل لأراقب العم الذي يقوم بتصليح الساعات على بعد بضع خطوات لليمين، حتى أنني أتذكر بأنه في إحدى المرات أعطاني ساعةً كنت أحافظ عليها أكثر من روحي من شدة سعادتي، إلا أنها ضاعت أثناء تنقلنا من منزلٍ لآخر، وفي أحيانٍ أخرى كنت ألتقي أحد المتسولين المسنين الذين يقضون نصف يومهم في السوق فيناولونني مائة بيسة أشتري بها مشروبًا. هكذا كنت أنسى ما تكابده أمي من ألم في الظهر، والحروق في رجليها ويديها.
قبل تسع سنواتٍ من الآن، قبيل عودة بابا لبلاده اضطرارًا، بسبب انتهاء فيزا عمله، وعدم تمكن أربابه من تجديدها له نظرًا لسنه الذي تجاوز سن العمل المشروع، أعطى والدتي ماكينة خياطة سوداء، عليها زخارف ذهبية وفضية، مكتوب عليها كلمة “فراشة” باللغة الإنجليزية. أجبرتني أمي وقتها على حمل تلك الماكينة إلى السيارة. وكنت خائفة من فكرة أن أنام وأستيقظ على صوت ماكينة الخياطة تلك، والحيز الذي ستأخذه من غرفتنا الصغيرة أيضًا. لم تتمكن أمي من استخدام الماكينة، بسبب وجود عطلٍ ما فيها، وعندما قمنا بإصلاحها أصبحت أمي غير قادرة على الحياكة بسبب ضعف بصرها. هكذا، أصبحت الماكينة تلك ذكرى بابا المركونة في مخزن منزلنا. عندما سألني بابا عنها، وأخبرته بالقصة، قال: “يبدو بأن حال الماكينة لا يختلف عن حالي قط، كلانا عاطل عن العمل لأسباب خارجة عن إرادتنا”.
هذه التدوينة موجهةٌ إلى عرق بابا، وأمي، وكل الخياطين والخياطات التي أُغلقت محلاتهم، أو توقف عملهم، أو أجبرهم اجتياح الموضة السريعة على الرحيل دونما حيلة، وتقديرًا لكل مكائن الفراشة التي تعمل في الخفاء، والعاملات بصناعة الملابس الجاهزة متحملاتٍ كل أوجه انتهاكات أنظمة الرأسمالية الحديثة التي بطريقة ما أصبحنا ندعمها.