ثلاثين عامًا يرحب بالموت في بيته

كتب بواسطة حمود حمد الشكيلي

إلى روح عمي:

ولد عمي عبد الله عام 1937ميلادي لأب اسمه صالح بن سعيد، وأم اسمها عائشة بنت حمود الهاشمي، كان رابع إخوته الذكور، تقدمه إلى الدنيا (سعيد وحمد وسالم)، ومن بعده تبعه أخوه سليمان وأخته جوخة، له أخت كذلك اسمها عيدة، لم تكن شقيقة إخوته الخمسة.

عمي آخر من رحل من أبناء صالح الذين عاشوا في بسيا منذ صرختهم الأولى، حتى رحيلهم في أوقات متفرقة طوال عقدي 2000-2021.

رحلة فقد بدأ بها حمد ختمها عبد الله.

عمي قصير ملتحٍ، تميّزه حبةُ خال ظاهرة، أشبه بلحميّة زائدة، لم يسع إلى إزالتها بشطبها، أكيد أنه ما فكّر فيها أبدًا، أجزم ألّم يطرح عليه أحد حديثًا حولها، الآن في هذه اللحظة أتأمل صورته بعد عام من رحيله يوم الأربعاء 16 يونيو 2021 وأقول إن شامته الجميلة ستكون دليلنا إلى مكانه في الجنة، سنلتقي به هناك، سيعود إلينا ولحميّته الزائدة في موقع شموخ أنفه، سنقول ذاك عمي فلنذهب للسلام عليه، إنه ينتظرنا ويبحث عنّا، هيّا نعجّل سريعًا ونركض، حتى هذه اللحظة مازال ممسكًا بريال لم يوقفه عن الكثيرين من أبناء إخوته وأولادهم، لعلي الأكثر حظًّا، حتى في عيده الأخير لم يتوقف رياله، مشى الريال الذي رافق طفولتي وصباي وشقّ مسارًا جديدًا هذه المرة، نحو ابني حمد.

أقف أمام صورة عمِّي، تستوقفني شامته كثيرًا، أسرح فيها وأمرح، أشعر أني أقتل نفسي من الحزن، توقظني دمعة حرقت شحمة روحي وأقول:

 فقد الطفل أباه وأصمت.

عند بداية سنة الصبا الأولى اضطرت ظروف الدهر عمي فترك بسيا خلفه، انتعل التراب ومشى، طبعت قيعان قدميه صورة للصبي. كان ذلك في بدايات منتصف القرن الماضي.

عام 1952 بسطت الدّمام ذراعيها، ثم أخذته إلى صدرها واحتضنته، لم يستطع البقاء وحيدًا يقابل العوز والحاجة ولا يفعل شيئا بهما؛ فتبع أشقاءه ورجالًا آخرين من قريته، مثلُ العُمانيين لم يبق سنوات كثيرة في الدّمام، أعطاها من عمره خمس سنوات، عاد خلالها إلى بسياه مرة أو مرتين، كان قد تزوّد منها بخبرة لتجربة حياته القادمة، أصّل في كفيه وبين مسارات أصابعه تجربة الطين براتب زهيد، لم يتجاوز الخمسين ريالًا سعوديًّا.

كان ذاك الصبي يقظ الحس إدارة وإشرافًا، ضبط ما يصعب بين العمال، قسّم الأجور، وزّعها إنصافًا وعدلًا، كُلّ بما يستحق مقابل صنيعه، صار أكثر من عامل بناء، ارتفع معاشه وبلغ المائة والعشرين ريالًا سعوديًّا، أصبح مشرف عمّال، بعدها تقدم خطوة أخرى بمتابعة أكثر من موقع بناء، بازدياد مهارات عمله تضاعف أجره فيها خلال فترة قصيرة، لكنه اتخذ قرار ترك الدمام بعد أن بلغ راتبه زهاء المئتين ريالا سعوديًّا؛ ليولّي بوجهه شطر الكويت.

من سنوات خبرته الأولى في البناء كسب مهارة الهندسة، أتقن التخطيط على الأرض، رسم الخرائط في ذهنه، وأوقفها في أحلامه الأولى، ضبط الزوايا الأربع في الغرف المربعة والدهاليز المستطيلة، وازن الأسقف والأعمدة، قعّر في جدران الطين النوافذ وفتحات مثلثات التهوية، ميّل جريد النخل على أسطح البيوت، فانزاح ماء المطر على الأرض ولم يبق له أثرًا، نجح لأنه كان مصرّا على ذلك، شاء أن يتجاوز نفسه في سنواته الأولى وفعلًا تقدمها كثيرًا، أعانته على النجاح أخلاقه الحميدة، التزامه بما تعلّمه وحفظه من آي القرآن، نبله وفزعته، هدؤه عند تلقي الأخبار السيئة.

نخاف من صبره، نقول إنه ذو قلب قاس ولا يلين، نعشق كرمه اللامحدود، نتباهى بوصله ووصاله للبعيدين والقريبين على السواء، توازنه في حضوره، وغيابه عن كل ما لا يعنيه من أمر القرية، أزعم أني تعلمت منه الكثير، ماذا لو حاكيته وقلدته في كل شيء؟ أأستطيع ذلك؟ أقول لا، غير قادر على استبدال قلبه بقلبي، أنا هش وضعيف، مكسور كجناح قصيدة، تدمع عيناي ويبكي قلبي، أما روحي فتصرخ كلما مات أحد، هو عكسي تماما في تلقي أخبار الموت، يحوقل ويحمدل، يتجرّع مرارة الفقد ويشرب كأسه، يبتلع الموت كميّتٍ ينتظر طارقة تحمله إلى مأواه الأخير، كما لو أنه طوال الثلاثين سنة الماضية كان قد دخل دورة تجنيد إجبارية وقاسية، أكرهته الدنيا عليها، جرّب الموت مرارًا باستقبال الجثث واحدة بعد الأخرى، غسّل وعطّر وكفّن، توضأ وصلّى، ثم دعا وتناسى الموت حتى يلتقي به ينهش أحدًا في المرة القادمة.

 منذ يوم 12 من ديسمبر عام 1993 راح يستلم جثة ابنه. كنت نائما في تلك اللحظة وطرق عليّ الباب، قال أعطني مفتاح الحافلة. كانت لدينا حافلة نقل مسافرين، تويوتا موديل 1993. حافلة جديدة أحبُها كثيرًا، كم مرة سرقت مفتاحها وخرجت بها في الظهيرة، أتجوّل وحيدًا والأغاني في بسيا تراقص النخيل، أمر أمام الفتيات الجميلات، اللواتي يمشين الآن أمامي وقد خرجن من المدرسة، أتأمل مريولاتهن الزرقاء وأقول:

ما أجمل فتيات بسيا! وأنا أكتب سيرة عمي في ذكرى رحيله الأولى.

من اليوم الذي أيقظني عمي طالبًا مفتاح الحافلة لم يتوقّف عن الرد على اتصالات الموت، كم من خبر وفاة استقبلته أذنه؟ ظل وحده أوّل من يستلم أخبار الفقد، لا أدري ما الذي تعلمه من استمرار تلك الاتصالات، سؤالي هذا لم أسكبه عليه، لكنه ظل سؤالا حاضرا في الذاكرة، أملي أن يمد الله في عمره، أحلم دائما أن أكون جاره، وهذا ما حدّثت به زوجتي، قلت لها استعدي قريبًا سأكون في بسيا، أحلم بالعودة إليها، سأصبح جار عمي، سأمر عليه صباح الجمعة وأفطر معه، ثم أتصل به صباح السبت باكرًا، تكونين أنت أستاذة منى قد جهزت لنا خبزًا وعسلًا ولبنًا سائغًا للشاربين، سأقول لعمي:

 تعال سنفطر معًا؛ لنرد إفطار الأمس الذي أكلناه تحت الشجرة، ثم سنكملُ قصة حكايتك الصامتة.


[i] جزء من نص طويل

أدب العدد الواحد والثلاثين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

حمود حمد الشكيلي