يودورا ويلتي: من أوراق كاتبة

كتب بواسطة أحمد الزناتي


الخيال سُلّم خشبي طويل، أصله ثابت، وساقاه  في السماء. يولد الفنان أعلى السُلّم، ويبقى مُـثـبّتـًا بحبلٍ خفي. علاقته بالسُلّم علاقةعكسية؛ فكلما تقدّم به العُمر سنة، هبط درجة، ويستمر الحال حتى تطأ قدماه أرض الواقع. التحدي الحقيقي أمام كل فنان هو أن يقاومجاذبية الأرض، وألا يهبط درجات السُلّم. 

هذه هي الصورة التي تشكّلت في ذهني بعد قراءة مذكرات الروائية والقاصّة الأمريكية يودورا آليس ويلتي (13 إبريل 1909 – 23 يوليو2001) في كتابها السيري الممتع  One Writer`s Beginnings ، وهو  في الأصل سلسلة من ثلاث محاضرات ألقتها ويلتي في جامعةهارفارد سنة 1983، وكانت تبلغ من العمر آنذاك أربعة وسبعين عامًا. 

يودورا آليس ويلتي، كاتبة أمريكية مولودة في مدينة جاكسون، عاصمة ولاية ميسيسيبي، جنوب الولايات المتحدة. نالت روايتها The Optimist’s Daughter جائزة البوليتزر الأمريكية سنة 1973، كما حازت عددًا من الجوائز الأدبية المحليّة، كتبت ويتلي الرواية والقصةالقصيرة، كما ألّفت ثلاثة كتب مهمّة حول الكتابة الإبداعية، من بينها الكتاب الذي نناقشه في السطور القادمة،   

تقول ويلتي إنها لم تفقد يومًا إحساس الطفولة ولا رغبتها في استكشاف خيالها، وإن ذلك ما دفعها لتأليف هذا الكتاب، الذي استعادتْ فيهتجربتها مع القراءة، وكذلك محاولات الكتابة الأولى، متذكّرة دعم والديها المعنوي وأثر ذلك في حياتها كونها كاتبة، مؤكدةً عبر فصول الكتابالثلاثة على رغبتها الدائمة في الرجوع إلى المنزل، إلى مسقط رأسها، مما يذّكرنا بالكاتب الأمريكي الحائز على نوبل، وابن ولاية مسيسيبيالأشهر  “وليام فوكنر”، وعلى الأخص روايته “بينما أرقد محتضرة”، وكذلك في رسائله الخاصة إلى أبيه وأمـه، حينما غادر  مسقط رأسهللدراسة في نيو هيفن. 

الكتاب مكثّف (مئة ورقة تقريبًا)، ومُقسّم إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول بعنوان: الإنصات، والثاني بعنوان: تعلّمْ أن تـرَى، والثالث بعنوانالعثور على الصوت. لا يشعر القارئ بأن أجزاء الكتاب مجرد محاضرات أُلقيت في مؤسسة أكاديمية عريقة، فلغة الكاتبة سهلة، متدفّقة،وحميمية وكأنها تخاطب كل قارئ– على انفراد- بحكاية أو بذكرى أو بفكرةٍ، قد يرى نفسه داخلها. الذاكرة موضوع ويلتي الرئيس فيالكتاب، فهي كنزها الذي لا يفنى، وينبوع الأدب الذي لا ينضب. فالأحداث والشخوص والأماكن التي رأتها الكاتبة بقيت محفوظة في بيتالذاكرة المعمور، وكانت تُطّل عليها من نوافذ سرّية من وقت إلى آخر، حتى حانت لحظة تأليف هذا الكتاب. 

في الفصل الأول، وهو أطول فصول الكتاب، تعود ويتلي بذاكرتها إلى سنوات الطفولة فتسرد طرفًا من ذكرياتها وبداياتها مع القراءة،مستدعيةً أصوات طفولتها، بادئةً بأولى ذكرياتها عن أبويها  في منزلها  في مدينة جاكسون، عاصمة ولاية ميسيسيبي، ومنتهيّةً بشرح طريقةالسيطرة على عواطفها، والتفكير بنفسها، بمعزلٍ عن أمّها. 

عن ذكرياتها الأولى مع القراءة تقول ويلتي (الفقرة من الفصل الأول):  

“حينما كنت في الثانية أو ربما في الثالثة تعلّمتُ أن جميع غرف بيتنا مخصصة للقراءة في أوقات اليوم كافة. كانت أمي تقرأ عليّ قصصًا،حيث اعتادت أن تقصّها عليَّ صباحًا في حجرة المعيشة الواسعة وأنا جالسة على حِجرها فوق الكرسي الهزاز، الذي كان يتحرّك وفق إيقاعمنتظم وكأنه يتحرّك مع إيقاع القصّة. بينما كانت تقرأ عليَّ القصص وقت العصر  في حجرة الطعام ونحن جالسين قبالة المدفأة، فتنتهيالقصّة بمجرد أن تدقّ ساعة الوقواق المعلقة على الحائط، وعند هبوط المساء فكانت تحكي القصص وأنا مستلقية في سريري.[…] لكنيأُصبتُ بخيبة أمل حادة لما علمتُ أن القصص المرويّة كانت مكتوبة على يد بشر، وكنت أتخيّل أن القصص معجزة من معجزات الطبيعة،خلقتْ نفسها بنفسها”. 

في الفصل الثاني من الكتاب “تعلّم كيف ترى”، تعرج ويلتي على رحلات طفولتها المتأخرة، من مسقط رأسها في مدينة جاكسون، عاصمةولاية ميسيسيبي  إلى أوهايو، حيث يعيش جدّاها من ناحية الأب في مزرعة، ثم إلى فرجينيا الغربية، حيث منزل جدّيها من ناحية الأم،فتسهب في الحديث عن رحلاتها  بالقطار  مع والدها في فصل الصيف وهما ينتقلان من ولاية إلى أخرى. تعترف ويلتي بأنها لم تسرد عليناأسفارها ورحلاتها بهدف السرد وتسويد الأوراق، بل كان غرضها فنيًا بحتًا، ألا وهو تطوير شعورها بالقصص التي كانت تكتبها. إذساعدتها أسفارها وتنقلاتها المختلفة على رؤية نفسها ورؤية عائلتها في كلّ مرة من منظور مختلف.

أما القسم الثالث والأخير من الكتاب، وهو أكثر فصول الكتاب تشويقًا للقارىء المهتم بالقراءة والكتابة الإبداعية، فتعلن المؤلفة صراحةً أنطفولتها (كحقبة زمنية فقط) قد انتهت إلى غير  رجعةٍ حينما أقلّها  قطار  إلى ولاية فرجينيا الغربية، حيث حياة المدينة الصاخبة، ثم ترويحكايات طريفة عن ذكرياتها مع عائلتها وجيرانها.  

فتروي مثلًا حكاية وقعتْ بعد وفاة والدها، عندما اكتشف في أدراج مكتبه مجموعة رسائل حبّ متبادلة بينه وبين أمها في أثناء فترة الخطوبة،فتكتشف من خلال الرسائل أنّ والدها قد اعتاد ركوب القطار في أسفاره بين الولايات، وتأمّل حياته واسترجاع ذكرياته من وراء زجاج القطارالمنطلق بسرعة الزمن، فتقررّ أن تقلّده طوال حياتها. تقول ويلتي إنه رغم انقضاء فترة الطفولة كحقبة زمنية، فهي ما زالت تعيش فيها حتىاليوم، وهي تدنو من الثمانين.

خصّصت ويلتي بعض صفحات هذا الفصل أيضًا  للحديث عن عملها كمصوّرة محترفة في فترة الكساد الكبير بالولايات المتحدة لتغطيةنفقات دراستها الجامعية. فقالت إن ممارسة التصوير  الفوتوجرافي بطريقة محترفة أفادها  على نحو  ساعدها في مهنتها ككاتبة فيما بعد. 

تقول ويلتي إنها تعلمتْ من فنّ التصوير الفوتوجرافي تحديد اللحظة الحاسمة لالتقاط الصورة، والتي ترجمتها في لغة السرد إلى تحديد”اللَـقطة” القصصية الحاسمة، التي ينبغي للكاتبة/ الكاتب اقتناصها، فكما أن هناك لحظة حاسمة يدركها المُصوّر لالتقاط الصورة، فهناك”لَـقطة” حاسمة داخل كل مشهد قصصي، لا تستقيم القصّة دونها، وهذه اللحظات يبلغها الكاتب بالحسّ والذوق، ويُنمّيها بالتجربةوالخبرة. 

في نهاية الفصل تحدّثت ويلتي عن خوف والدتها المرضي على أبنائها، ورغبتها في أن يظلوا إلى جوارها، أو أن يمتهنوا مهنًا مستقرة آمنةكالزراعة أو تجارة الحبوب كي لا يفارقوا بيت العائلة.

تختتم ويلتي هذا الفصل بالعبارة التالية: “…لكني أظن أن أمي قد استراح قلبها لما علمتْ أنني اخترت كتابة القصص والروايات كمهنةبدوام كامل، مُعتقدةً أن الكتابة وظيفة آمِنة”. 

للتعرف على مزيد من أفكار  الكاتبة، رأيت اختيار الفقرات التالية من الفصل الثالث تحديدًا، وهو الفصل الذي تحدّثت فيه عن خلاصةتجاربها  في الكتابة الروائية والقصصية، حديثًا لا يفرّق بين الذاتي والموضوعي، ولا بين الكاتِب والمكتوب:

“ليست كتابة قصّة أو  رواية إلا وسيلة من وسائل اكتشاف التعاقب الزمني  في تجاربنا الحياتية، وهي أيضًا طريقة لفهم علاقة عنصريالسبب/ النتيجة في حياة الكاتب.                  

كلما واصلتَ الكتابة، كلما بدأت تتضّح  الخيوط الرابطة بين أحداث حياتك شيئًا فشيئًا. الأمر أشبه بعلامات طريق تلوح من بعيد، تتكشّفملامحها تدريجيًا كلما دنوتَ منها، فينتظم السبب والنتيجة في مصفوفة ترى من خلالها ملامح تجربتك في الحياة، وعند تلك اللحظة الكاشفةتتجلّى تجارب الإنسان في إطار  متماسك، بعد أن كانت متشظية بلا ملامح”. 

وفي فقرة أخرى مهمّة حول فكرة التسلسل الزمني للأحداث داخل العمل الأدبي تقول: 

“صحيحٌ أن أحداث حياتنا تجري وفق تعاقب زمني متسلسل، إلا أنها تنتظم من تلقاء نفسها داخل جدول زمني مستقل وفقًا لأهمية تلكالأحداث في حياتنا. وترتيب الأحداث داخل هذا الجدول لا يتفق بالضرورة مع ترتيب زمن وقوعها الفعليّ، بل يستحيل أن يتفقّ مع هذاالترتيب، فالزمن الذاتي المُدرَك بالحسّ والشعور هو التسلسل الحقيقي الذي ينبغي أن يسير  عليه مسار القصة أو الرواية: إنه خيط الإلهامالذي لا ينقطع”. 

تتكلّم ويتلي في فقرة تالية عن علاقتها بوالديها، وعن تغيّر رؤيتها لطبيعة تلك العلاقة بعد رحيلهما فتقول:

“أما وقد تجاوزتُ العقد السابع من عمري، فقد كشفتْ لي تجربة الكتابة عن والديَّ رؤى جديدة متواصلة حتى اليوم، وهي رؤى لم أنتبه إليهالما كانا على قيد الحياة. هل أرى حياتيْهما اليوم– أو حياة أي شخصٍ آخر أكتب عنه- رؤية أفضل لإنني صِرتُ كاتبة؟ جائز. الحقيقة أننيأرى اليوم حياة والديَّ وحياة من أكتب عنهم لا كونه خيال محض، بل أسرار  غامضة أتعرّف عليها لأول مرة.  لقدّ خلق الأدب بداخلي احترامًاراسخًا إزاء كل ما هو مستور  في حياة كل إنسان، تعلّمتُ بمرور الوقت  في أي موضع ينبغي أن أفتّش في حياة شخوصي الروائية،وتعلّمتُ كيف أراقبها، وكيف أربط هذه الخيوط، بل كيف أعثر  على خيطِ واضح يُرشدني وسط كـُرة الخيوط المتشابكة”. 

وعن الكتابة القصصة تقول:

“كنتُ قد كتبتُ عددًا هائلًا من القصص واحدة وراء الأخرى، وذلك قبل اكتشافي أن بعض الشخصيات في قصة بعينها، كانت تظهر علىالدوام في قصة أخرى مختلفة عنها أشد ما يكون الاختلاف. كتبتُ عن حياة هذه الشخصيات تحت أسماء مختلفة، وفي مراحل سنّيةمختلفة، وتحت ظروف مختلفة، العجيب أنّ هذه الشخصيات رفعت راية التمرّد، وتراصّت جنبًا إلى جنب، ونشأت فيما بينها علاقات وروابطرغمًا عني [….]. ما جرى أنّ القصص اتصّلت ببعضها ببعض اتصالًا استفزّني أنا شخصيًا”. 

تختم ويلتي الفصل الثالث والكتاب أيضًا بالعبارة التالية: “كما رأيتكم، فأنا كاتبة قادمة من حياة منغلقة، لكن الحياة المنغلقة لا تخلو منشجاعة ومغامرة”. 

في تقديري  لا يُمكن إدراج كتاب يودورا ويلتي (وهي فنانة صادقة يجدر الالتفات إلى ترجمة أعمالها) تحت مظلّة كتب السيرة الذاتية، رغمأنّ الكاتبة حشدت تركيزها على سرد تفاصيل حياتها  في فترة الطفولة المبكّرة مع تخصيص بضع صفحات في الفصل الأول على فترةمبكرة من حياتها المهنية كونها كاتبة. الكتاب أقرب إلى تأملات ذاتية مطوّلة حول فن الكتابة القصصية، وتجليات الذاكرة وأثرها في حياةالإنسان، مصوغة  في شكل مقطوعات سردية متتابعة ذات طابع حكائي شائق. 

لفت انتباهي أيضًا أنّ ويلتي “ربما” قد تعمّدت اختيار  عنوان One Writer`s Beginnings،  بترجمة حرفية “بدايات كاتبة”، رغم أنّالعمل لم يقف عند عتبة البدايات، بل تخطّاها ليشمل مراحل مختلفة من حياتها، منذ الطفولة المبكّرة، مرورًا بسنوات الشباب حتى تجاوزهاسنّ السبعين وقت إلقاء المحاضرات سنة 1983 كما أُشِير. وكأنها تـقول لنا إنها لم تبرح البدايات قط، وإن خيالها لم يفارق بيوت مدينةجاكسون وشوارعها، وإن أنفها لم ينس روائح أشجار الخوخ ومزارع  الفول السوداني التي تشتهر  بها المدينة، وأشارتْ إليها في أكثر منموضع، وإنها ما زالت محتفظةً بمكانها أعلى سُلّم الخيال، تكتب بجدية الطفل الذي يلهو بحسب تعبير بورخيس.

أدب العدد الأخير العدد الواحد والثلاثين بعد المائة ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي