في ظل الثورة التكنولوجية المدهشة للعقول، وفي ظل تطور العقل البشري في الاختراعات التي لم نكن نحلم أن نراها، سيجد الإنسان اليوم نفسه أمام عالم آخر غير عالم البشر، بل عالم الآلة وما ستقدمها من خدمات للإنسان، والحالة هذه، أن واقعنا سيتغير إيجابا وسلبا حسب طبيعة الاختراعات وخلفياتها، ومن القضايا التي ستكون مطروحة في ظل كل هذا، قضية تطور الذكاء البشري، ومن هناك نطرح السؤال: هل سنزداد ذكاءً في المستقبل؟ ولكي نقترب من إجابة له، نتوقف مع الرائد في مجال الذكاء الصناعي وأستاذ علوم الكمبيوتر روجي سي. شانك.
افتتح روجي سي. شانك هذا الموضوع الشائك بأسئلة منها: هل الذكاء مطلق؟ هل يزيد ذكاء الجنس البشري بمرور الوقت؟ وهذا يتوقف بكل تأكيد من وجهة نظره على ما نعنيه بكلمة “ذكاء”. معتبرا أنه لا شك أن معارفنا تزداد كذلك على الأقل، وعلى الرغم من توفر إمكانية وصول الطفل العادي إلى ثروة المعلومات، تزيد بكثير عن تلك التي كانت متوفرة للأطفال منذ خمسين سنة، إلا أن هناك أشخاص يزعمون أن أطفالنا أقل تعليما مما كان عليه الحال منذ خمسين سنة، وأن مدارس اليوم خيّبت آمالنا.
هذه الأسئلة التي تدور اليوم حول معنى الذكاء والتعليم في نظر روجي سي. شانك لا تحتل مركزا مهما في دائرة البحث العلمي، ولا حتى في دائرة الحوار العام. ولا نزال نعيش حياتنا وفقا لأفكارنا المفهومة ضمنيا عن الذكاء والتعليم، التي ستواجه تحديا خطيرا خلال الخمسين سنة المقبلة. يقول روجي سي. شانك “منذ حوالي عشر سنوات، طُلب مني الانضمام إلى هيئة تحرير الموسوعة البريطانية (Encyclopedia Briannica)، وكان معظم الأعضاء الآخرين ممن تخطو الثمانين، ومن المتخصصين في الإنسانيات. ونظرا لأني كنت عالما وأصغر سناًّ من الآخرين، كانوا يصوبون إليّ نظرات غريبة كلما تكلمت، وعندما سألتُ أعضاء الهيئة إن كان يسرهم وضع موسوعة يزيد حجمها عشر مرات عن الموسوعة الحالية دون تكلفة إضافية، كانت إجابتهم بالنفي؛ لأن الموسوعة الحالية تحتوي على قدر مناسب من المعلومات. قلت لهم إنهم سيخرجون من المنافسة في غضون عشر سنوات إذا كان هو اعتقادهم. لم يكن لديهم فكرة عما أرمي إليه، على الرغم من محاولتي شرح ظهور ما يُطلق عليه الآن اسم الشبكة العالمية (World Wide Web)، وفي اجتماع لاحق، وبعد أن استمعوا مني لتأكيدات مشابهة حول المستقبل، رد كليفتون فاديمان (Clifton Fadiman)، وهو أديب كبير من الأربعينيات قائلا: أظن أن علينا جميعا أن نقبل حقيقة أن عقلياتهم أقل تعليمًا من عقلياتنا سرعان ما ستكون مسؤولة عن مؤسسات مثل هذه الموسوعة”1، يعني ذلك أن كبر السن ليس محددا للذكاء.
ويذكر روجي سي. شانك أن رئيس هيئة الموسوعة البريطانية في ذلك الوقت هو الراحل موتيمر أدلر (Mortimer Adler)، الذي كان أيضا مسؤولا عن سلسلة بعنوان “أعظم كتب العالم الغربي (The Great Books Of The Western World)، تباع كمجموعة تضم جميع ما كتب من أعمال عظيمة تحوي درر الحكمة في العالم، وهي في -الغالب- كتب أُلِّفت قبل القرن العشرين. يقول روجي سي. شانك سألت أدلر إن كان يرى إمكانية تضمين بعض الكتب الجديدة، فرد علي بأن معظم الأفكار المهمة قد دُونت من قبل”2. بناء على ذلك يرى روجي سي. شانك أنه قد عمَّ الرأي القائل بأن جميع الأفكار العظيمة تم بالفعل التوصل إلى نظرة الأمريكيين إلى التعليم والذكاء لفترة طويلة. يقول: “وإليك شروط القبول بجامعة هارفارد سنة 1745: عندما يستطيع أي طالب أن يقرأ لـ “تولي” (Tully)، أو لغيره من المؤلفين اللاتينيين الكلاسيكيين المعاصرين له، ويكتب ويقرأ الشعر والنثر اللاتينيين الحقيقيين بنفسه، ويتجنب تماما المفردات اليونانية، يجوز قبوله في الجامعة، ولن يقبل من لا يستوفي هذه الشروط”3.
ويرى روجي سي. شانك أن القاسم المشترك بين سلسلة “أعظم الكتاب” وهارفارد سنة 1745 افتراض أن دراسة الإنسان وسلوكياته تم بلوغ الغاية فيها في العصور القديمة، وبالتالي يقتضي منك التعليم أن يكون لديك اطلاع جيد على أفكار من سبقوك، ومستوعبا لها. والشخص المتعلم من هذا المنطلق هو القادر على مناقشة مجموعة من الموضوعات التاريخية والفلسفية والأدبية بناء على معرفة واسعة. فخلال القرن الماضي وقرون عديدة قبله، كونه متعلما- وبالتالي ذكيا- يعني تراكم المعلومات، والقدرة على الاستشهاد بأفكار الآخرين، وكونك على علم ودراية بأفكار معينة. كان التعليم يعني تراكم المعلومات، وكان الذكاء غالبا يعني القدرة على إظهار ما تراكم لدى المرء من معلومات. وهنا يتساءل روجي سي. شانك ولكن ماذا يحدث عندما تكون المعلومات في الجدران؟
يرى روجي سي. شانك أنه بعد خمسين سنة من الآن، سيصبح من السهل جدا الحصول على المعلومات بحيث يستطيع المرء أن يطرح سؤاله بصوت مرتفع، ليسمع ردا فوريا يأتي إليه من الجدران، المدعمة بقدر كبير من التكنولوجيا. فمعرفة ما كتبه فرويد حول الأنا الأعلى لن يعني شيئا كثيرا عندما تستطيع الالتفات إلى أقرب جهاز وسؤاله عمّا قاله فرويد في مسألة ما، لتسمع فرويد (أو شخص يشبهه كثيرا في شكله وصوته) يجيبك ويذكر لك خمسة من قادة الفكر المعارضين من مختلف العصور على استعداد لعرض أفكار بديلة إذا كنت تريد الاستماع إليها ومناقشتها معهم. يتساءل روجي سي. شانك: هل الذكاء يعني مجرد القدرة على أن تكون مطلعا على أجوبة أسئلتك، أم القدرة على معرفة الأسئلة التي ينبغي طرحها؟ ويجيب بأنه كلما قلّت قيمة الأجوبة، زادت قيمة الأسئلة. مضيفا بالقول: “لقد عشنا لفترة طويلة جدا في مجتمع قائم على الإجابات، وعلامات ذلك في كل مكان… في برامج التليفزيون التي يشاهدها الناس، مثل برنامجي “الخطر” (Jropardy) و “من سيربح المليوني؟” (Who Wantz To Be A Milionaire)؛ وفي الألعاب التي يمارسونها مثل “تريفال برسيوت” (Trivial Pursuit)، وأهم من كل ذلك في المدرسة، إذ تحتل الإجابات أهمية عظمى. فالاختبارات هي الشغل الشاغل لمدارسنا بحيث صارت المدرسة نظاما لتعلم الإجابات، لا لتعلم حب الاستطلاع والتقصي”4.
هذا الوضع من الأكيد أنه سيتغير، إذ ستعمل التكنولوجيا على تغييره، ويعطي روجي سي. شانك المثال حاسبة الجيب فعندما ظهرت تساءل الناس عما إذا كان من الممكن استخدامها في اختبارات الرياضيات، لأنها ستصبح متوفرة دوما، ونتيجة لذلك، بدأت اختبارات الرياضيات تركز على الموضوعات الواقعية المهمة بدلا من القسمة المطولة. سيحدث استخدام الذكاء الصناعي في الأجهزة اليومية التأثير نفسه. فمع انتشار الآلات وقدرتها على الإجابة عن الأسئلة التي تدور حول كل ما يهمنا، ستتراجع قيمة الشخص باعتبارها بنكا للمعلومات. إن المفهوم القديم للمدرسة سيفسح الطريق لمفاهيم جديدة لاكتساب المعرفة، لن يُنظر إلى المعرفة بعد اليوم كسلعة تمتلك، فأي شيء يُقتنى بسهولة تقل قيمته في المجتمع، والشيء نفسه سينطبق على المعرفة. يقول روجي سي. شانك “إن المدارس الافتراضية التي ستنشأ، لتحل محل المؤسسات الحالية، ستجذب الطلبة بسبب ما ستمنحه لهم من خبرات أكثر منه بسبب ما ستمحنه لهم من شهادات، ونظرا لتوفر هذه الخبرات التي يتلقاها الشخص عندما يقرر أن يتعلم، فإن معظم الطلبة سيلتحقون بالكليات قبل بلوع الثامنة عشرة بفترة طويلة. سيشجعنا النجاح في الخبرات الافتراضية المختلفة على التعامل مع الجديد منها، كما هو الحال في الألعاب الإلكترونية اليوم، وستهتم المؤسسات التعليمية بما تستطيع عمله بشارات الاستحقاق الافتراضية التي حصلت عليها أكثر من اهتمامها بالمقررات التي درَّستها”5. مضيفا بأنه سيوجد في كل مجال خبرات في تخصصه، فبدلا من تقديم هارفارد أو كولومبيا دورات دراسية في الفيزياء، سيعمل الفيزيائيون من جميع أنحاء العالم مع مصممي عالم التعليم الافتراضي الذي يصنعون برنامجا لإيجاد خبرات في الفيزياء، على أن يتم توفيرها للجميع. ستتحول الفكرة القديمة القائلة بأن أكثر ذكاء هم من حصلوا على أعلى الدرجات من مدارس اختبرتهم، لترى مدى إجادتهم لما تعلموه من دروس إلى فكرة مفادها أن أذكى الطلاب هم من يطرحون أسئلة على البرنامج يتعين إرسالها إلى البشر بحثا عن إجابات لها. وسيعني الذكاء القدرة على بلوغ حدود خبرة تعليمية.
وفي الأخير، لا بد من التأكيد، أن ما دام أن ذكاءنا سيعرف تطورا أكثر بكثير مما نحن عليه اليوم، فإن التحديات المطروحة بجانب هذا التطور الذكاء، هو ما مدى قدرة الدول على السيطرة على هذا العالم التكنولوجي الذي سيكون مكانا خصبا لشتى الأفكار البناءة منها والهدامة، وكذلك تحديات أخرى ستواجهها دول العالم الثالث التي ستكون مجرد مستهلك وفي الوقت نفسه عرضة لفقدان هويتها وثقافتها.
- الخمسون سنة المقبلة، مجموعة من العلماء إشراف جون بروكمان، ترجمة فاطمة غنيم، هيئة أو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى 2009، ص: 162- 163.
- الخمسون سنة المقبلة، مرجع سابق، ص: 163.
نفسه. - الخمسون سنة المقبلة، مرجع سابق، ص: 164.
- الخمسون سنة المقبلة، مرجع سابق، ص: 164- 165.