يبدأ جورج أورويل مقالته “ملاحظات حول القومية” بالاعتراف بأن القومية ليست الكلمة الصحيحة حقاً، لكنها عبارة عن مصطلح تقريبي لما ينوي أن يناقشه، يقول:
“أعني بكلمة القومية أولاً وقبل كل شيء العادة المتمثلة في افتراض أن البشر يمكن تصنيفهم كالحشرات وأن مجموعات كاملة من الملايين أو عشرات الملايين من الناس يمكن تصنيفها بثقة على أنها “جيدة” أو “سيئة”. لكن ثانياً- وهذا أكثر أهمية- أعني عادة تماهي المرء مع أمة أو وحدة أخرى، وأن يضعها “أي الآمة” فوق الخير والشر وعدم الاعتراف بواجب آخر سوى خدمة مصالحها.
في مكان آخر يصف القومية بشكل أكثر بساطة على أنها “العادة الجنونية الحديثة المتمثلة في تحديد الذات بوحدات قوة أكبر ورؤية كل شيء من منظور المكانة التنافسية”.
إذ كتب هذا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة وفي بداية فترة إنهاء الاستعمارـ من المؤكد أن أورويل اختار النزعة القومية – بدلاً من النزعة الشوفينية أو التعصب- لأسباب سليمة لكنها محددة تاريخياً. ربما كان اختار الأصولية اليوم على الرغم من انها بعيدة كل البعد عن معناه المحدد. أنتج لاحقاً مُعجماً كاملاً لوصف عملية التفكير هذه: بلاك وايت[1]،[2]Crimestop، doublethink [3] التفكير المزدوج، Goodthink[4]“. المهم هو نوع التعلق بالأشكال القومية لا الهدف المحدد لذلك التعلق:” العاطفة التي أتحدث عنها لا تتعلق دائماً بما يُسمى الأمة.. يمكن أن تتعلق بكنيسة أو طبقة، أو قد تعمل بمعنى سلبي فقط، ضد شيء أو غيره ودون الحاجة إلى أي موضوع إيجابي للولاء”.
ضمن هذا الإطار يسرد أورويل ثلاث “سمات رئيسية للفكر القومي”:
1- “الاستحواذ قدر المُستطاع، ما من قومي يفكر أبداً، يتحدث أو يكتب عن أي شيء باستثناء تفوق قوة وحدته الخاصة”. تتمثل مهمته الخاصة في إثبات أن أمته المُختارة أفضل من منافسيها من جميع النواحي. وبالتالي، حتى في الحدود الخارجية للمصداقية، يمكن إرجاع أي سؤال إلى هذه القضية المركزية. ليس ثمة تفصيل غير هام ولا واقعة مُحايدة.
2- “اللاثبات”. محتوى معتقد القومي، وحتى موضوع إخلاصه، عرضة للتغيير كما تتغير الظروف. “ما يبقى ثابتاً في القومي هو حالته العقلية” الحماس الذي لا هوادة فيه، والنزعة الاختزالية المتشددة. الهدف هو أن يظل المرء دائماً فيما يشبه السُعار فيما يتعلق بمختلف رهانات الشرف، سواء الانغماس في نوبات من الغضب بسبب الاهانات المُتصورة أو في السادية المُنتشية بانتصار جديد ما. حُميا الهدف المفرد المُستقطِّب للقوى كلها هي ما يُهم لا الدافع المزعوم.
3- “اللامبالاة إزاء الواقع”. يحقق القوميون غريزياً نوع التفكير المزدوج الذي يطوره المقيمون في [5]Airstrip One بواسطة الجهد الواعي: “القومية هي جوع إلى السلطة مُخفف بالخداع الذاتي. كل قومي قادر على ارتكاب أكبر قدرٍ من الخداع السافر. لكنه أيضاً- بما أنه واعٍ لخدمة شيء أكبر منه- متأكد بشكل لا يتزعزع من كونه على حق”. وهو يرى أن اعتقاده الأساسي لا بد وأن يكون صحيحاً، وبالتالي سيتعين تجيير الحقائق لتلائم ذلك.
يُصنف أورويل الأنواع البارزة من القومية على أنها “قومية إيجابية” (التي تتصل ببلد المرء، مثل القومية السلتية ) و “القومية السلبية” (وهي ضد مجموعة أخرى، على سبيل المثال معاداة السامية أو التروتسكية بنسختها المعادية للسوفييت) و”القومية المُحولة أو المنقولة ” (التماهي مع العرق أو الطبقة أو الدولة، في أيام أورويل ، الاتحاد السوفيتي عادة، بخلاف بلد المرء). بطبيعة الحال، من الممكن التمسك بأي من هذه المعتقدات وعدم الاستسلام “للقومية” بالمعنى الأورويلي. المشكلة ليست متأصلة في أي مجموعة فكرية مُعينة تماماً كما لا يمكن لأي نظرية مُحددة أن تضمن الحصانة. فالمسألة لا تتعلق بالمحتوى الفلسفي بل بالطريقة الذاتية التي يرتبط الفرد بها “أي القومية”. يتنكب القومي مذهبه الخاص ليس فقط كحقيقة لا جدال فيها، ولكن كمعيار مطلق يمكن من خلاله الحكم على الحقيقة. لا يقتصر نطاقها على الأمور الأخلاقية أو السياسية، وجميع الأسئلة، سواء اتصلت بالواقع أم بالقيمة، يمكن الإجابة عليها مُسبقاً من خلال الإشارة إلى عقيدة “القومي” – أو على نحو أكثر دقة- إلى “المكانة التنافسية” لوحدة السلطة التي التزم بها.
تمتد مخاطر التفكير القومي إلى ما هو أبعد من أي خطأ معين، بل وتتجاوز الحركات المصابة به. بمجرد أن تنتشر القومية إلى ما بعد نقطة معينة، فإنها تميل إلى إضعاف الجودة الكلية للنقاش السياسي، وبالتالي للفكر السياسي – بما أنه ليس ثمة حقيقة أو فكرة لا علاقة لها بالطموحات القومية – وفي نهاية المطاف إلى الفكر برمته.
فيما يرجح أن يكون المقطع الأكثر يأساً في مذكراته، كتب أورويل:
“كلنا نغرق في القذارة. أرى الفأس المشحوذة عندما أتحدث إلى أي شخص أو أقرأ كتابات أي شخص، أشعر ببساطة أن النزاهة الفكرية والحُكم المتوازن قد اختفيا ببساطة عن وجه الأرض. لدى الجميع فكر بلاغي، الجميع ببساطة يطرح “قضية” مع قمع متعمد لوجهة نظر خصمه، والأكثر من ذلك، مع عدم حساسية تامة لأي معاناة باستثناء معاناته وأصدقاءه… يلاحظ المرء هذا في حالة الأشخاص الذين يختلف معهم، مثل الفاشيين أو دعاة السلام، لكن في الواقع الجميع متماثلون، على الأقل كل من لديه آراء محددة. الجميع مخاتلون، والجميع عديمي المشاعر تماماً إزاء الناس الذين هم خارج النطاق المباشر لمصالحهم الخاصة وتعاطفهم. الأمر الملفت للنظر هو الطريقة التي يمكنهم من خلالها تشغيل تعاطفهم أو إيقافه مثل الصنبور وفقاً للمنفعة السياسية… أنا لا أفكر في الكذب من أجل غايات سياسية، ولكن في تغييرات فعلية في الشعور الذاتي. لكن أليس ثمة من لديه أراء حازمة ونظرة متوازنة معاً؟ في الواقع ثمة الكثير، لكن لا حول لهم ولا قوة. كل السلطة في أيدي المُصابين بجنون العظمة”.
لا يمكن للنقاش السياسي، في مثل هذا الوضع، أن يُشكل محاولة للوصول إلى الحقيقة، أو تحقيق درجة معينة من التفاهم المتبادل، أو إقناع الآخرين بوجهة نظر المرء أو حتى ببساطة جعل المرء مفهوماً. إنه بدلاً من ذلك نوعُ من اللعبة حيث كل من النصر والرهان خياليان إلى حد كبير. حلل أورويل دوافع القومي:” ما يريده هو أن يشعر أن وحدته الخاصة تتفوق على أي وحدة أخرى، ويمكنه القيام بذلك بسهولة أكبر عن طريق وضع العلامات “تسجيل النقاط” على الخصم بدلاً من دراسة الوقائع لمعرفة إن كانت تدعمه أم لا”. نظراً لأن كلا الجانبين، كقاعدة عامة، غير مهتم بمعرفة ما يحدث في العالم الحقيقي، فإن نتيجة مثل هذه النزاعات “دائماً ما تكون غير حاسمة تماماً”، “وكل متسابق يعتقد بثبات أنه أحرز النصر”.
في مثل هذا النوع من التنافس، يكاد يكون من الحتمي أن تصبح الأوهام بمثابة وقائع، وتتفوق المغالطات على الحجج، ويصبح اغتيال الشخصية تكتيكاً مُفضلاً من جميع الجوانب. سرعان ما يغلف ضباب اللايقين كل تقدير، “ما يجعل اكتشاف ما يحدث بالفعل أكثر صعوبة” وبالتالي “يصبح من الأسهل التشبث بالمعتقدات الجنونية. نظراً لأنه لم يتم إثبات أو دحض أي شيء على الإطلاق، يمكن إنكار الواقعة الأكثر وضوحاً بوقاحة”. لكن لا يهم. يتحول عدم اليقين بسرعة إلى لامبالاة. يتم انتقاء الحقائق أو إلغاؤها من أجل صنع قضية، وإذا لزم الأمر، يتم اختراع الحقائق الضرورية ببساطة، أو على العكس من ذلك، محوها.
أكثر ما أثار قلق أورويل هو أن الأفراد –ربما الملايين منهم- قد يستمدون إحساسهم بالنزاهة من الخضوع عن طيب خاطر لتغيير العقائد بدلاً من احترام الحقيقة أو مطالب ضمير الفرد. قد يتوقفون بعد ذلك عن إدراك أن مثل هذه الأشياء مثل اختلاق الأدلة والافتراء على خصومك كانت حقارة أو حتى مجرد خداع. وجد الفكرة “مخيفة.. لأنه غالباً ما يرادوني الشعور بأن مفهوم الحقيقة الموضوعية ذاته يتلاشى من العالم”. في “1984” ضغط هذا النزوع إلى خاتمته المنطقية. أوبراين، مسؤول الحزب الداخلي، المعلم المُعذِب، يلقي محاضرة على المسكين ونستون سميث في زنزانته داخل وزارة الحب:
نحن الحزب.. نتحكم في كل السجلات وكل الذكريات.. نحن نتحكم في الماضي.. أنت تعتقد أن الواقع شيء موضوعي خارجي، موجود بحد ذاته… لكني أخبرك يا ونستون أن الواقع ليس خارجياً. الواقع موجود في العقل البشري وليس في أي مكان آخر. ليس في عقل الفرد الذي يمكن أن يرتكب الأخطاء، وسرعان ما يموت، وإنما في العقل الجماعي والخالد للحزب. كل ما يعدّه الحزب حقيقة هو الحقيقة. لا يمكن رؤية الواقع إلا بالنظر من خلال عيون الحزب.
في النهاية، ينكسر وينستون ويتبنى وجهة نظر الحزب. لقد كتب ذات مرة: “أن الحرية هي حرية القول إن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة” لكنه تعلم أخيراً أن “مجموعهما قد يساوي خمسة”، في بعض الأحيان ثلاثة، وفي بعض الأحيان كل هذه المجاميع في آن معاً”. ولاءه للحزب منوط -والأكثر من ذلك متطابق مع- تعليق حكمه الخاص.
كما هو الحال مع وصفاته لتحسين الكتابة السيئة، فإن استراتيجية أورويل لمعالجة مغالطات القومية تقوم على تعليمنا التعرف عليها ثم مناشدة حسنا السليم. يقترح أن الخطوة الأولى قد تكمن في الاعتراف بنقصنا وقابليتنا للخطأ وانحيازنا. يكتب:
أما بالنسبة للميول والكراهيات القومية التي تحدثتُ عنها، فهي جزء من تركيبة معظمنا، سواء أحيينا ذلك أم لا. لا أعرف إذا كان من الممكن التخلص منها، لكنني أعتقد أن من الممكن مواجهتها، وهذا بالأساس جهد أخلاقي. إنه سؤال يتعلق باكتشاف ماهية المرء حقاً، وما هي مشاعره حقاً، ومن ثم أخذ التحيز الحتمي في الاعتبار. يجب أن تكون الحوافز العاطفية، التي لا مفر منها، والضرورية ربما للعمل السياسي، قادرة على التواجد جنباً إلى جنب مع قبول الواقع.
قد لا يكون المرء قادراً على تجنب التحيز، لكنه لا يحتاج إلى اعتماد التحيز كمبدأ. يمكن للمرء، إذا لم يقم بشيء آخر، أن يرفض التنازل عن حكمه الفردي. ستكون تلك جزئياً مسألة شخصية: القدرة على التمييز بين ما تتمناه وما تعرفه “قوة مواجهة الحقائق غير السارة” وإرادة العيش دون الأكاذيب المريحة. لعل ما نحتاجه أكثر من أي شيء آخر هو الإيمان المستمر بوجود حقيقة موضوعية مع الحفاظ على التشكيك الشديد والمطلوب فيما يتعلق بجميع المزاعم عن معرفة ماهيتها.
هذا بالطبع حل جزئي. ربما يساعد في الحفاظ على عقل المرء معافى وصادقاً، لكنه لا يفعل الكثير لتغيير الجو العام. أدرك أورويل ذلك، ولكن قرب نهاية حياته أصبحت مسألة الفكر الفردي شغله الشاغل. في مواجهة التهديد المستمر من الشمولية، توصل أورويل إلى رؤية أن النضال من أجل الحرية يحدث، ليس فقط بين الطبقات والأمم، لكن أولاً وربما الأهم ضمن “السنتميترات المكعبة القليلة داخل جمجمتك”.
[1]– في 1984 ، كلمة “بلاك وايت” كلمة تنتمي إلى Newspeak الموضحة أدناه،
يعتمد مجتمع أوقيانوسيا في نهاية المطاف على الاعتقاد بأن الأخ الأكبر كلي القدرة وأن الحزب معصوم من الخطأ. ولكن نظراً لأن الأخ الأكبر في الواقع ليس كلي القدرة والحزب ليس معصومًا عن الخطأ ، فثمة حاجة إلى مرونة ثابتة في معالجة الحقائق. الكلمة الرئيسية هنا هي BLACKWHITE. . وهي تتضمن معنيين متناقضين. عند تطبيقها على خصم، تعني كلمة “بلاك وايت” “عادة الادعاء الوقح بأن الأسود أبيض، بما يتعارض مع الحقائق الواضحة”. عند تطبيقها على عضو زميل في الحزب، تعني كلمة “بلاكوايت” “استعداداً مخلصاً للقول إن الأسود هو أبيض عندما يتطلب الانضباط الحزبي ذلك”. من أجل استخدام كلمة blackwhite بدقة، يجب على المرء أن يمارس تفكيراً مزدوجاً ليصدق معناها حقاً. أما Newspeak فهي اللغة الخيالية لأوقيانوسيا. هذه لغة سيطرة اخترعتها دولة أوقيانيا المكونة من 84 أمة كأداة للحد من حرية الفكر والمفاهيم التي تهدد النظام كحرية الإرادة وحرية التعبير عن الذات والفرد والسلام. أي شكل من أشكال التفكير المخالفة للفكر الذي يسعى الحزب لنشره. وصفت لغة نيوسبيك في الفصول 4 و5 من الرواية وفي ملحق الكتاب أيضاً. تتبع هذه اللغة قواعد اللغة الإنجليزية نفسها لكن بمحدوديات كثيرة، وتعمل باستمرار على تحويل المفردات، ويتم التخلص من الترادفات أو المتناقضات وأي مفاهيم لغوية غير مرغوب بها. كان الهدف هو جعل كل المواطنين من الطبقة العاملة في أوقيانيا يتحدثون هذه اللغة بحلول عام 2050.
[2]– Crimestop هو نظام عقلي ضروري لأعضاء الحزب الجيدين في 1984. ليس لأعضاء الحزب الجيدين مشاعر خاصة؛ هم في حالة من الحماس المستمر للأهداف التي حددتها الدولة. حتى الأطفال يمكنهم تعلم تجنب التفكير في أي أفكار تعدّها الدولة خطيرة
[3]– doublethink التفكير المزدوج هو عملية تلقين للعقائد يُتوقع من خلالها أن يقبل الشخص في وقت واحد معتقدين متناقضين بشكل متبادل على أنهما صحيحان، وغالبًا ما يتعارض مع ذكريات المرء أو إحساسه بالواقع. التفكير المزدوج مرتبط بالنفاق ولكنه يختلف عنه.
[4]– Goodthink مرادف “للعقيدة السياسية” و “الفكر السياسي المتشدد” كما حدده الحزب.
[5]– مهبط الطائرات رقم واحد في 1984.
رابط المقال:
https://lithub.com/what-george-orwell-wrote-about-the-dangers-of-nationalism/.