يمكن أن نميز بين لحظتين من لحظات الوعي بالتراث؛ فبينما ترتبط اللحظة الأولى بالانهمام به؛ فإن الثانية تتعدى إلى ميلاد أزمة وإشكالية؛ بسبب انزياحات فكرية وثقافية وسياسية كذّبها الواقع حين انتبه اليسار العربي في لحظة من لحظات الوعي بالتراث إلى أنه فرّط في “رأس مال ثقافي رمزي” أدّى إلى دخول خصومهم من دعاة الأصالة إلى “الفراغ الثقافي” الذي خلفه الغياب الطوعي لليسار؛ فاتضح أن أسلافهم النهضويين كانوا أحدَّ إدراكا وأعمق في النظرة منهم إلى أهمية الرأسمال الثقافي الرمزي[1]، وفي خضم هذه التحولات الثقافية، وحركات الترجمة والنقل والدراسات والشروح للتوجهات والمنهجيات الغربية؛ كالوضعية، والوضعانية المنطقية، والبنيوية والتحليل النفسي، وغيرها تنبثق موجة معاكسة تمثلت في “الطلب على التراث” ومن اتجاهات مختلفة لم يقتصر على مدّعي الأصالة؛ مما أدّى إلى إشكالية من نوع آخر تمثلت في الصراع التراث[2] ومحاولة احتكاره وامتلاكه.
على أن الطلب على التراث، والصراع عليه لم يقتصر على التسابق في دراسة مضامينه وموضوعاته ومخطوطاته وادعاء الوعي به أو فهمه فهما يستدعي امتلاك الحقيقة، وإنما كان توجها أيديولوجيا في كثير من الأحيان يحمل في داخله البحث عن تأييد لنزعاته في التراث ذاته؛ وتلك ارتكاسة لا تخلو من إشكالات تجعل التحول من “القطيعة” إلى “الاستمرار” والتواصل بالتراث أمرا ملحوظا في الاتجاهات اليسارية؛ من حيث إن الفرقاء اتخذوا طرائق قددا دونما كلل في سبيل الحصول على جذور لتوجهاتهم في راهنٍ شكل أزمة هوية، وذلك من خلال النظر بشتى زواياه إلى التراث حتى خيل إليه أنه مرآة (أو يجب أن يكون) عاكسة للراهن الثقافي والسياسي لتفريغ توترهم، وفي الوقت الذي احتدم الصراع في المسألة بين اليسار ودعاة الأصالة؛ عاش الفريق الأخير صراعا مختلفا شكل جبهة داخلية جعل ظرفيات الصراع الثقافي والأيديولوجي والديني مسرحا لمزيد من الإشكالات جعل حالة الافتراق الذي أنفق فيه الأوائل الكثير من أوقاتهم لتمييز الفرق والمقولات حالة مستأنفة وراهنة.
يشير عزيز العظمة[3] إلى مسألة بالغة التعقيد والأهمية ومهجوسا على الدوام عند النظر إلى الحالة العربية وهوياتها المحتدمة في امتلاك الحق اللاهوتي، وفي العيش بتوجهات الإنسان المنتمي إلى “السلف الصالح”؛ تمثلت تلك المسألة في “حركية التاريخ” إزاء سكون “الذات” المتصلة بماضيها العريق؛ فهو (أي التاريخ في علاقته بهذه الذات الساكنة) عبارة عن “مرور الزمان على ذات مستمرة صاحبة هوية تستنسخ نفسها دهرا بعد دهر”[4]، والحاصل أن هذه التحولات الثقافية هي “انغلاق دائرة فكرية، ابتدأت فيما يسمى بعصر النهضة، ورجعت إلى عين الإشكالية التي اتخذ الفكر النهضوي موقعه فيها: إشكالية علاقة ماض مستمر بحاضر مغاير له في ظروفه الخارجية الطارئة، علاقة داخل بخارج مطلق، علاقة بين ذات ومحيط هذه الذات المنفصل عنها بمفارقة مطلقة. هذا، باختصار، فحوى مسلمات اليوم: في إبعاد الانقطاع عن الماضي وحجب التواصل مع بقية العالم، أي في إبعاد الواقع، يتم تأجيل اليوم، ويتم تحييده نظريا ونزع صفة الانفتاح على البحث العلمي والاندراج في عموم إنساني شامل. وفي غلبة فكرة الأمة وانزواء تعييناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي اختزال هذه الكليات المعقدة إلى الأصالة، ثم المساواة بين ما هو أصيل بإطلاق وما هو أصيل في الثقافة، والدين، أي الإسلام، الحاوي الأكبر لهذه الأصالة وعبارتها الأشد”[5]
وانطلاقا من تلكم الإشكالية حول التراث والأزمة الثقافية المتشنجة؛ نستعيد عبارة بالغة في الاستفزاز وفي التعبير عن الراهن الثقافي حول التراث والذي بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، وتجاوز الوعي به إلى الصراع حوله، وهي عبارة “مذبحة التراث” عند جورج طرابيشي للتعبير عن حالة التأزم في التعامل مع الآخر الماضي والتاريخي مقابل الذات في حالتها الراهنة، ومن ثَمَّ تشظّي هذه الذات التاريخية في تواصلها وعطائها الثقافي إلى نزعات لا تقل حدة أو ضراوة عن الصراعات اللاهوتية التي شكلت مكونات مسرح الافتراق الديني إلى ثلاث وسبعين فرقة في سيرورة التراث نفسه؛ فقد أصبحت هذه الذات –بسبب تحولات اليسار وانسحاب دعاة الأصالة خلسة إلى الفراغ الثقافي– تعيش حالة ابتزاز الحلول من التراث لمحاول إقامة اعوجاج الحاضر الذي ما يزال يتعلق بطموحات لا تخلو في حد ذاتها من إشكالية ميتافيزيقة وملحمية ودرامية.
إننا بسبب هذه الحالة تركنا الجرح مفتوحا دونما بدائل تأويلية على الأقل؛ قد تجعلنا هذه البدائل نتجاوز الاعتقادات المتشنجة بشأن التراث والصراع عليه؛ لمعالجة نزيفه وتلوثه الفكري؛ ولعل أقرب الحلول– كما يبدو لي– والتي يلزم طرحها ومناقشتها هو تقديم التراث على أنه مشهد نستعيده من الماضي بكل حركته وأفعاله وشخوصه ومن خلال التراث نفسه حتى لا نتقول عليه بعض الأقاويل، ولكننا والحال هذه نعيش في محيط إنساني شامل، ومجتمعات لا تنفصم عن ماضيها مهما اختلف حجم الثراء لهذا الماضي ونوعه ودرجة الارتباط أو الوعي به، ولعل أقرب الأمثلة في العلاقة بالماضي هو “الغرب” بالمعنى الأيديولوجي والثقافي وليس الجغرافي في وعيه بماضيه الديني والتاريخي؛ فعلاقة الغرب بماضيه هو علاقة “النص” علاقةً مزدوجة إما بفهم إنسان الماضي وتاريخية هذا الفهم، وإما باجترار الفهم ذاته لإنسان اليوم في الغرب الذي دخل في حلقات الصراع والتنوير أي باستئناف الماضي واتصاله كما أشار عزيز العظمة؛ وهذه العلاقة إن لم تتطابق بعلاقتنا نحن بالتراث؛ فإن درجة من التشابه تنعقد بين راهننا وراهنهم وإن نحن إلا استئناف لمسار الدين ذاته: “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” (آل عمران: 19).

فمَ الممكنات الثقافية التي تعامل بها الغرب الأيديولوجي مع تراثه وما يقدمه من نص مقدس ومفهوم ماضيه ليتجاوز أزمة الهوية والصراع؟ وهل يمكن أن نبتدع منهجيات إنسانية تليق بإنسانيتنا في تعاملنا مع التراث وتجاوز الأزمة كما تعامل غيرنا بها لا سيما وأن التاريخ يجمع وجودنا؟
وللإجابة عن السؤالين السابقين علينا أولا أن نفي بوعدنا في تشكيل المشهد الكلي للتراث بوصفه حركة في التاريخ له أفعاله وممثلوه (شخوصه)؛ وحتى نقتنع بدلالات المشهد؛ علينا أن نستعيده منبهين إلى نقيض المعنى السائد الذي نستورده إلى حاضرنا، وإذ نحن نقدم هذا المشهد يجدر أن نشير إلى حركتين لتحولات الثقافة في الحضارة الإسلامية هما سمتان لافتتان للنظر: الإنسانية Humanism و المدرسية Scholasticism ويقصد بالأولى تلك الحركة التعليمية التي اتخذت مسارها وفقا للحريات الفردية فأثمرت الفلسفة، وعلم الكلام، والأدب وغيرها من التوجهات بعيدا عن الممارسات الرسمية أو الدين الرسمي؛ بينما كانت المسارات المدرسية مسارات رسمية على نقيض الأولى، وكانت العقيدة والفقه أهم موضوعاتها؛ فتمخض الوضعُ التاريخي عن حضارة بالغة الثراء بقدر تعقد الجدل وتداخله بين النزعات والفرقاء ومقولاتها[6]، ومع وجود الظرفيات الباهتة في التاريخ الإسلامي فإن الثراء يبرهن على التعددية والحوار والإنتاج المختلف.
ويمكن تصوير ثراء هذا المشهد في أشدِّ البقع ظلامية وإشكالا ونعني المساحات المرتبطة بالملل والنحل عند المسلمين، أو النصّ الذي فتح الباب لتدوين الاختلاف وتتبعه، أو بالمؤلفات الكلامية ذات الطابع الجدلي التي دونت حركة الأفكار؛ علاوة على الاختلاف المنهجي في عد المقولات وحصر توجهاتها؛ يقول الشهرستاني: “اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية لا على قانون مستند إلى نص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود، فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق”[7]؛ فالمسألة قائمة على الاجتهاد في حصر المقولات وأصحاب النزعات، كما أن المقولات ذاتها قائمة على حركة الاجتهاد والحوار والتعدد الثقافي ونشاط التأويل؛ وكثيرا ما حفظ التراث لنا مقولات ونزعات كلامية وفلسفية فقدت مصنفات أصحابها ولولا الجدل لاضمحلت؛ يعني ذلك أن الإنتاج الفكري وثراءه الذي نلحظه في هذه الكتب يدل دلالة لا مرية فيها على أن الأسلاف كانوا أكثر حداثة واستيعابا لمبادئ الحوار مما نشهده من الانغلاق الفكري ومحاولات احتكار الحقيقة.
إن هذا التعدد التراثي والثقافي حول النص، والذي أفرز هذا النتاج الفكري استعاده الغرب في لحظات التنوير مع الأخذ في الحسبان درجات التنوع في الوعي والمناهج بين الحضارتين؛ بيد أن المسار الحضاري العربي الراهن منذ أفول النهضة؛ أغلق أبوابه وجعل التراث بمثابة حيثيات قضية أمام قاضٍ يجب أن يميز فيها الحق من الباطل؛ وهو اتجاه يتناقض مع الوضع الثقافي الذي أهم سماته التعدد والحريات؛ فهو وضع إنساني جوهره الاختلاف والحوار، ولا يمكن اختزاله في رأي أو قول واحد، وما يسمى في تاريخ التنوير الأوروبي بـ”العمل البحثي الجديد” تمثل في النقد النصي كان بمثابة الثورة العلمية في الثقافة؛ فتحول إلى نشاط تأويلي للنص ، فقد كانت هذه “المنظورات والمقاربات” واسعة التأثير وقد غيرت تغييرا راديكاليا حقولا معرفية كاملة كالتأويل، وتاريخ الأديان، والفلسفة؛ فقد كان إسبينوزا –على سبيل المثال- لا يكتفي بفهم لغة النص، وإدراك مصطلحاته، واستعمالاته، وأساليبه، وإنما يتجاوز إلى القدرة على إدراك المعنى الحرفي للنص؛ للتوصل إلى أن هذا المعنى جزء من تركيبة متشابكة من المعتقدات والأفكار، وأنه نسق إنساني[8] ، وما حدث في اتجاهات التنوير الأوروبي إنما حدث عند المسلمين أنفسهم باختلاف الظرفيات والتوجهات والنصوص ولكن الذي يشترك فيه الوضعان هو حرية القول وحق الاختلاف وضرورة الحوار بوصفه وجها حضاريا للوجود الإنساني دونما معايير أو مقاييس لاهوتية منغلقة.
إن ما يدّعيه البعض من انحصار “الحق” في اتجاه بعينه أو تفسير محدد وفق منهجيات تقليدية يتعارض أولا وهذا الثراء المعرفي والثقافي في التراث، كما يتعارض وما أنتجه الوعي العربي من منهجيات إنسانية في التعامل مع النص، ونحن عندما نلحظ حالات التشنج اللاهوتية في بعض نصوص التراث؛ فإننا لا ننفك عما نجده من واقع الثراء الوجودي الماثل في هذه المصنفات وأصولها؛ مما يجعل الادعاء لا يتناسب والوضعيات الثقافية الراهنة، وهو يفضي بنا إلى الإقرار بأن التراث في ثرائه هو بمثابة مسارات منهجية لفهم النص، وليس سياجا يحتكر الحق لفريق دون آخر، وهذا إقرار يتيح لنا الاعتراف بحق التأويل، وتعدد المعنى بتعدد المدارس وزوايا النظر؛ إذ كيف يحق للراهن أن يدّعي الحقيقة المطلقة اعتمادا على تراث أهم سماته التعددية وحرية الاختلاف؟
الصورة من تصوير: حسين العامري.
[1] عبدالإله بلقزيز، نقد التراث، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014، ص. 39.
[2] المصدر السابق، ص. 40- 41
[3] في كتابه: التراث بين السلطان والتاريخ، بيروت: دار الطليعة، 1990.
[4] المصدر السابق، ص. 11- 12
[5] المصدر السابق، ص. 13
[6] ينظر: جورج مقدسي: (1) نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، تر. محمود سيد محمد، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015. و(2) نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي، تر. أحمد العدوي، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2021.
[7] أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني، الملل والنحل، بيروت: دار الكتب العلمية، 1990، جـ1/ ص. 5
[8] جوناثان آي. إزرايل، التنوير متنازعا في: الفلسفة، والحداثة، وانعتاق الإنسان 1670- 1752، تر. محمد المغيربي، ونجيب الحصادي، المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2020، ص. 461- 463.