ولد الحاج عبد الكريم جرمانوس في بودابست عام (1884م)، ونشأ نصرانياً، تعلم في طفولته لغة بلاده والتحق بالمدارس ثم بالجامعة، فرأى القائمون على أمرها حينئذ أن يتخصص في دراسة اللغة التركية، فبعثته جامعة بودابست سنة (1903م)، إلى جامعة استنبول ليتقن لغة الأتراك في بلادهم، وقد استطاع خلال عامين أن يجيد اللغة التركية قراءة وكتابة، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره ابتدأت التساؤلات تمخر عباب نفسه، وعندما كان ذات يوم يتصفح مجلة مصورة إذ وقعت عيناه على صورة أحد المساجد، فأحس بقرب المكان ودفئه كما يقول ” كان المنظر قريباً إلى قلبي”(1).
عند ذلك قرر جرمانوس تعلم اللغة العربية، لأنه وجد أنها لغة تملأ مفرداتها اللغة التركية فدرسها إلى أن حذقها بعد أن حذق الفارسية التي لا تبعد كثيراً عن التركية، ثم ذهب إلى الهند ليعمل أستاذاً بإحدى جامعاتها، وهناك عرف الإسلام على حقيقته ودرسه دراسة وافية شاملة، وبعد اقتناع تام وهداية انسكبت في قلبه وروحه قرب من الإسلام وتعاليمه وانتهى به الحال إلى أن أعلن إسلامه وغير اسمه إلى (عبد الكريم).
يقول الأستاذ محمود تيمور(2) سألته في غضون حديث معه، ما قصة إسلامك يا حاج عبد الكريم؟ فقبض على لحيته وجعل يتخللها بأصبعه، ثم أجابني بقوله “هي لحظة من لحظات الإلهام والإشراق، كانت أول انتباهة لي نحو الإسلام، والحق أن الإسلام دين الذهن المستنير، وأن أصحاب التفكير الحر ليجدون في هذا الدين السمح –عقيدة وشريعة– ما يستولي على الإعجاب وما يهدي إلى الإقناع وعندي أنه سيكون معتقد المفكرين الأحرار كلما تخلصوا من ربقة النشأة ووطأة التقليد، ولقد هداني الله إلى أن أعلن إسلامي في جامعة (دلهي)، في الهند وفي مسجدها ألقيت يومئذ خطبة الجمعة، واخترت لنفسي اسم (عبد الكريم).
يكمل محمود تيمور: فقلت له ولم يشفني جوابه، أو أطمعني هذا الجواب في الاستكثار من تفاصيله:
- هل لك أن تحدثني ماذا حبب إليك الإسلام؟ فاسترسل من فوره يقول، حببه إلىّ شيء واحد، هو جوهر كل شيء، إنه دين الطهر ودين النظافة، نظافة الجسم والنفس والسلوك الاجتماعي، والشعور الإنساني، ولا تستهن بالنظافة الجسمانية، فهي رمز ودلالة، لها قيمتها المعنوية، ولها أثرها العميق.
أما الطهر النفسي والاجتماعي فكيفيك منه في الإسلام أن الدين المعاملة، وأن الناس جميعاً سواسية أمام الله، لا مزية لأحد بلون أو عنصر، أو جنس وأن صلة المرء بمجتمعه قائمة في الإسلام على أساس متين من الإحساس بالسعادة براحة الضمير، ولا يكون من وراء ذلك إلا مجتمع قوامه حق وعدل وخير وسلام.
ويقارن جرمانوس بين بيئته الأوروبية فيقول: (3) “إني وأنا الرجل الأوروبي الذي لم يجد في بيئته إلا عبادة الذهب والقوة والسطوة الميكانيكية تأثرت أعمق التأثير ببساطة الإسلام وعظمة سيطرته على نفوس معتنقيه.
ثم يعود جرمانوس إلى مصر قاصداً الأزهر، لينهل من العلوم العربية والإسلامية ما يمكنه من نشر دينه وعقيدته، ولكنه اصطدم بواقع لم يكن يتمناه، فعندما غادر الباخرة إلى ميناء الإسكندرية وجد الناس يتندرون بلغته ويتضاحكون بينهم، فلما بحث الأمر علم أن الناس لم يتعودوا النطق بالفصحى، ولا يمكنهم التحدث إلا بالعامية، فصدم بهذا الأمر، وعبد الكريم جرمانوس مدافع عن الإسلام في كل مكان يصل إليه بل إنه كان يعقد المؤتمرات والندوات ليشرح وجهة نظر الإسلام في كل أمر يتناوله الناس، وللرجل مساع جليلة في جمع شمل المسلمين في بلاده، إذ ألف من بينهم وهم قرابة ألفين جماعة تنظم شؤونهم، واستطاعوا هنالك أن يحملوا الحكومة على الاعتراف بالإسلام ديناً من الأديان الرسمية.
وعندما عاد جرمانوس إلى موطنه الأصلي “المجر” وجد أساتذته الكبار من سدنة الاستشراق يتحدثون عن الإسلام بما ليس فيه، كما وجد أحدهم ينقل عن خادم الأنبياء أقوالاً لا تمت إلى ما قرأه جرمانوس في الترجمة التركية بشيء، لأنها أقوال تدعو إلى الإباحية والانغماس في الشهوات، وكان جرمانوس صادقاً مع نفسه حين طلب تحديد موعد لإلقاء محاضرة تبين وجهة نظر الإسلام فيما يخوض فيه الخائضون دون اطلاع، وعكف عدة أسابيع ليجمع كل ما يلصق بالإسلام زوراً كاشفاً عن افتراءات تلك الأقاويل إلى التفسير التركي الذي درسه وإلى ما وعاه من الحديث النبوي (4) .
ثم قرر جرمانوس أن يتوج إسلامه بحج بيت الله الحرام فاستعد لذلك، وبدأت رحلته إلى مكة المكرمة، وعندما استوى على ظهر الباخرة أخذت مشاعره تفيض بالإيمان والطهر، وبدأ لسانه يردد التلبية بخشوع واستكانة، يقول: لزمت مكاني خاشعاً راكعاً لا تقوى قدماي على الحركة ودقات قلبي تثب في قوة وعنف بينما يردد لساني في خفوت “لبيك اللهم لبيك” ثم انهمرت دموعي ولم أملك أن أمنع نفسي من الاسترسال في البكاء… أجل أدركت الحق الصحيح ولمست عظمة هذا الدين الحنيف، وعبثاً حاولت النوم في تلك الليلة بل شرد عقلي، واتجهت بتفكيري إلى أعمال الخلفاء، رضوان الله عليهم، وإلى رعايتهم الأمم الإسلامية” (5).
وعندما وصل عبد الكريم جرمانوس إلى مكة المكرمة، وشاهد الكعبة المشرفة ذهل أمام أفواج الطائفين والعاكفين والركع السجود، أحس بنفسه يخلق من جديد، أحس بالطهر والنقاء، استشعر عظمة الله ورخص الحياة، يقول: وصلنا إلى الكعبة المقدسة وفي تلك الدقيقة انفتح أمامي منظر سماوي إذ شاهدت هذه البنية العظيمة تكسوها شقق الديباج، وحولها من الرجال والنساء أمواج، والأصوات مرتفعة إلى الله بالدعاء والاسترحام، “الله أكبر” كلمة كانت هي الرباط الذي ينظمنا جميعاً، ويوحي إليّ شعوراً جديداّ يخلقنا خلقاً جديداً، ولقد تحولت من إنسان دنيوي إلى مؤمن مفكر أستشعر عظمة الله ورخص الحياة (6).
ولعبد الكريم جرمانوس فضل في حث الأستاذ محمد حسين هيكل على الحج وزيارة الأماكن المقدسة التي سجلها في كتابه (في منزل الوحي) يقول محمد حسين هيكل في مقدمة كتابه “وجعلت أدير شارة الراديو على محطات مختلفة حتى كانت عند “بودابست” عاصمة المجر وكانت أول عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحضر “وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبت أسعى بين الصفا والمروة، فقلت في نفسي: أو يكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزماً مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة (7)؟
وهكذا حج هيكل بفضل الله عز وجل، ثم بفضل كلمات جرمانوس الصادقة.
وأخيراً استجاب الله دعاء جرمانوس فأسلمت زوجته التي يحبها ويشغله تعلقها بدين غير الإسلام، وكان إسلامها على يد الأستاذ الأديب أحمد عبد الغفور عطار، وهنا نورد رسالة كتبها جرمانوس إلى الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، يشكره فيها على ما بذله من جهد في سبيل إقناع زوجته بدين الإسلام، يقول جرمانوس: إنني أحمد الله تعالى على أن منّ عليّ بنعمة الإسلام، وهداني إلى دين نبي الرحمة والسلام، وأودع في قلبي حب لغة القرآن، وكان هناك شيء واحد يخز في نفسي وخزاً أليماً ألا وهو أن زوجتي الكريمة الفاضلة تدين بدين غير الإسلام، ألا وهو النصرانية.
وإن زوجتي امرأة واسعة الثقافة والعلم شديدة التدين في ملتها كثيرة الإحسان طيبة القلب من أسرة كريمة من خير الأسر في المجر، تمتاز بمزايا رائعة وخلائق فاضلة ولها عندي تسع سنوات مرت كلحظات من السعادة التي نحن فيها إلا أن عدم اقتناعها لديني الحق كان مثار حزني وألمي.
إلى أن يقول:
ويشاء الله المنعم العظيم أن يحصل إسلام زوجتي على يدكم وأن يهديها بوساطتكم، وعندما كلمتم زوجتي وعرضتم عليها الإسلام وعلمت أنكم من بلد الله الحرام أنزل الله في قلبها الإيمان بنبيه عليه الصلاة والسلام، وقبلت الدخول في الحنيفية السمحة ونطقت بالشهادتين شعرت من السعادة والسرور أن الدنيا لا تتسع لي وشكرت الله على أن أتم نعمته وأكمل لي السعادة بإسلام زوجتي(8).
ولعبد الكريم جرمانوس مؤلفات عديدة نذكر منها:
- حياة محمد بالإيطالية.
- تجديد الروح العربية بالمجرية.
- الحركات الحديثة في الإسلام بالإنجليزية.
- الله أكبر، وهو وصف رحلته إلى الديار المقدسة بالمجرية.
توفي رحمه الله تعال، عام، (1400ه)، بعد أن قضى قرابة الخمسين عاماً في خدمة الإسلام والمسلمين.
الهوامش:
- قافلة الزيت، العدد الثاني عشر، المجلد الثامن عشر، ذو الحجة 1390ه
- قافلة الزيت، العدد الحادي عشر، المجلد السابع عشر، ذو القعدة, 1389ه
- مجلة المنهل، ال عدد471، رمضان 1409ه، ص 200
- النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د/ محمد رجب البيومي، دار القلم، دمشق2/436
- قافلة الزيت، العدد الثاني عشر، المجلد الثامن عشر، ذو الحجة 1390ه
- المصدر السابق
- في منزل الوحي، محمد حسين هيكل، دار المعرف، مصر
- العطار، عميد الأدب، زهير محمد جميل الكتبي ص 133