تطور الاتجاه النِسوي في الرواية السعودية

   تنوعت التجارب الروائية في الوطن العربي بشكل كبير، واستندت إلى الذاكرة، وإلى تجارب أصحابها وسيرهم الذاتية، واستندت كذلك إلى التاريخ الشخصي والعام، والمتخيل والواقعي والتاريخي. كما اتسعت نظرة الكاتب إلى عوالم أخرى، وأصبح من الممكن أن يكتب المبدع عن المرأة كمحور مركزي، وقد يجيد في كتابته ويصل إلى مرحلة متقدمة من الصدق الفني في سرده بلسان امرأة؛ إلا أن ثمة خلط غير جائز وتعميم بغير وعي يسود الكتابات التي تتناول تجربة السرد الروائي لدى المرأة العربية، لاسيما كتابات المرأة السعودية، والتي مرت في أواخر التسعينيات الميلادية وأوائل الألفية الثالثة بطفرة بها الكثير من الوعي والتجاوز، إذ يخلط البعض بين مصطلح “النسائية” وبين مصطلح “النِسوية”.

   الرواية النسائية هي الرواية التي تبدعها المرأة عمومًا، والرواية النِسوية (بكسر النون) هي الرواية التي بها خصوصية المرأة وتحمل رسالة تتمثل في الدفاع عن حقوقها أو تنبع من طرح همومها وأحلامها وعلاقاتها داخل المجتمع ردًا على ما تعانيه من تهميش. لذلك فقد نجد أعمالًا لروائيين رجال تندرج ضمن الأعمال النِسوية مثل رواية هاني نقشبندي “اختلاس” الصادرة عام 2007 فهي تغوص في عالم المرأة وتعيد اكتشافه عبر صور ومشاهدات جديرة بالتأمل والمناقشة. وهذه السمة ليست جديدة على الرواية السعودية بل ظهرت من قبل عند عديد من الكتاب مثل عبد العزيز مشري في “الغيوم ومنابت الشجر” (1988)، و”صالحة” (1997)، ومحمود تراوري في “ميمونة” (2001)، وإبراهيم شحبي في “أنثى تشطر القبيلة” (2002)، و”القارورة” (2004) ليوسف المحيميد.

   الروائية السعودية تفتحت بصيرتها على هموم المرأة في المجتمع وحين نضجت تجربتها الفنية كان هاجسها الأساس يكمن في التعبير عما تواجهه على يد السلطة الذكورية وما تمارسه ضدها هذه السلطة من تهميش وتأخير لدورها في المجتمع. وقد وعت الكاتبة الروائية مبكرا لهذا الهاجس المتمثل في سلطة الرجل أو سلطة المجتمع الذكوري حتى أصبح يشكل ملمحًا أساسيًا في جلّ الأعمال الروائية التي تبدعها المرأة.

   تحقق مفهوم الآخر بجلاء في الرواية السعودية منذ وقت مبكر ليس ببعيد عن البدايات الأولى لظهور الرواية التي تكتبها المرأة، وعلى الرغم من أن الأعمال الروائية الأولى التي كتبتها المرأة تمثلت في رواية “بريق عينيك” عام 1963 لسميرة خاشقجي وتعدّ أول رواية تكتبها المرأة السعودية، وأعمال هند باغفار الروائية “البراءة المفقودة” 1972، وغيرها من أعمال البدايات التي اتسمت بافتقادها لروح المكان والبيئة المحلية، وافتقادها لهاجس الانشغال بهموم المرأة في الداخل بسبب إقامة الكاتبات خارج السعودية، وكذلك الانشغال بالقالب الفني وثوابت إنتاج عمل روائي. في أواخر السبعينيات صدرت رواية “غدًا سيكون الخميس” للكاتبة هدى الرشيد، وتبنت مبكرًا الاتجاه النِسوي في الرواية، إذ جاءت محمّلة بأسئلة المرأة وكينونتها وتناولت معاناة المرأة حين تصطدم بالعادات والتقاليد الاجتماعية، ما يجعلها أول رواية نِسوية بالمعنى الاصطلاحي في الرواية السعودية، ويجعل هدى الرشيد رائدة الرواية النِسوية في المملكة العربية السعودية بلا جدال، لأنها تناولت علاقة المرأة بالمجتمع وطرحت تجربة فنية مغايرة تعبر عن هموم المرأة ورؤيتها للمجتمع والحياة.

   على الرغم من هذا النزوع المبكر نحو كتابة رواية نسائية تحمل مقومات الرواية النِسوية، لم تقدم الكاتبة السعودية طوال الثلاثة عقود الأولى اللاحقة على ظهور أول رواية تكتبها المرأة سوى عدد قليل من الروايات. فيما جاء عقد التسعينيات شاهدا على تطور كتابة المرأة وبروز عدد كبير من الكاتبات اللائي انشغلن بهاجس التعبير عن المكان والبيئة وتجاوز الكتابة التقليدية نحو كتابة مختلفة تخترق التابوهات بجرأة كما عند رجاء عالم في رواية “مسرى يا رقيب” 1997، وعند ليلى الجهني في رواية “الفردوس اليباب” عام 1998   

   أخذ الاتجاه النِسوي في الرواية السعودية منحى جديدا ومغايرا مع مطلع الألفية الثالثة، وبرز عدد كبير من الكاتبات اللائي أحدثن تطورا كميا ونوعيا في الرواية النسائية، بما يشكل قفزة كبيرة في السرد المحلي والعربي. فارتكزت أعمالهن على صورة المرأة في التقاليد والأعراف والصدام الدائم مع مجتمع لا يقر بدور المرأة وصدام آخر مع السيطرة الذكورية والعلاقات داخل الأسرة، وبرز ذلك جليّا في أعمال بدرية البشر، وليلى الجهني، ورجاء عالم، ووفاء العمير، وأمل شطا، وقماشة العليان، ونبيلة محجوب، وسارة العليوي، ونورة الغامدي، ونداء أبو علي.

   ثمة نتيجة حتمية مفادها أن مفهوم “الآخر” في الرواية التي تكتبها المرأة دائما ما يتشكل في صورة البيئة المحيطة وما يصاحب هذه الصورة من أبعاد اجتماعية تتمثل في السلطة الذكورية للرجل في مقابل التهميش للمرأة، والعادات والتقاليد داخل مجتمع محافظ في مقابل الانفتاح خارج هذا المجتمع (راجع -على سبيل المثال لا الحصر-  رواية “نساء المنكر” لسمر المقرن) مما يشكل ملمحًا أساسيًا في جلّ الأعمال الرواية النسائية وهو ما يعني بشكل جازم الرواية النِسوية، وأي منهما- في اعتقادنا- يعني الآخر؛ إذ لا يمكن أن يتمثل هذا “الآخر” في وعي الكاتبة سوى في سلطة الرجل أو سلطة المجتمع الذي هو أيضا مجتمع ذكوري. 

   في السنوات القليلة الماضية أكدت الأعمال الروائية التي تبدعها المرأة على مفهوم “الآخر” وأفصحت الروائية السعودية بجرأة ووعي عن هواجسها المتمثلة في سلطة الرجل والمجتمع، عبر لغة فنية وتقنيات أسلوبية ورؤى بها من البكارة ما يجعلها تخرج على السائد والمكرس في الكتابة الروائية، حتى أصبحت روايات من قبيل “نساء المنكر” لسمر المقرن، و”بنات الرياض” لرجاء الصانع، و”الآخرون” لصبا الحرز، وحتى “اختلاس” لهاني نقشبندي… وغيرها تؤكد على ميلاد اتجاه جديد في الكتابة الروائية، لا يقف عند هاجس الكتابة النِسوية من الخارج، بل دخل إلى البيوت والمدارس ومجتمع المرأة وتفاصيل حياتها الخاصة ليكشف عن قضايا شائكة تفجر المكبوت والمسكوت عنه بحِدَّة كما في رواية “نساء المنكر” الصادرة عام 2008 لسمر المقرن التي تعدّ أكثر كاتبات جيلها إيمانًا بهذا الاتجاه وأكثرهم جرأة على الصدام بالسلطة سواء كانت سلطة المجتمع أو غيرها من السلطات التي تقهر المرأة، وتستطيع الخوض في أدق التفاصيل الخاصة بالمرأة عبر لغة فنية جذابة وأسلوب تقني يستعيد القارئ العام، وهي تغريه ببطلة بها من الملامح والمواصفات ما يجعله يزعم بأنه يقرأ سيرة المؤلفة، كأن تكون البطلة صحافية وتقطن مدينة الرياض مثلًا. 

   استطاعت سمر المقرن في روايتها الأولى أن تطرح رؤية تصب بعمق في نهر الكتابة النِسوية العربية تثقلها الجرأة على اختراق التابوهات التقليدية والاشتغال على المسكوت عنه من خلال طرح إشكاليات إنسانية تمثل المرأة بؤرتها عبر علاقاتها الرئيسة بعناصر البيئة المحيطة، لتكشف عن هوّة شاسعة بين المرأة والسلطة من جهة، وبين المرأة والمجتمع من جهة أخرى، فتتعرض بطلة الرواية للسجن والاضطهاد بسبب علاقة عاطفية. وتعدّ هذه الرواية من أهم الروايات النسائية التي كتبت في السنوات الأخيرة.

   أما رواية رجاء الصانع “بنات الرياض” فإنها تزخر بالأحاسيس الأنثوية وتعتمد على كشف المستور في عالم النساء وفضح أسراره وحققت هذه الرواية ردود فعل قوية فور صدورها، فيما تكشف رواية “الآخرون” لصبا الحرز بجرأة حادة عن العلاقات في المجتمع من خلال بطلة في عمر المراهقة تتعرض للاستغلال من قبل معلمتها وتفتح الرواية الباب أمام تساؤلات الجيل الذي عاش كل نتاج أحداث المرحلة والتغييرات اللاحقة من دون أن يمتلك معرفة كافية تتيح له فهم ما يجرى.

   ولا غرو أن الروايات الثلاث هي الأعمال الأولى للكاتبات وجاءت وفق منظور رافض لأشكال تهميش المرأة على مختلف المستويات وتؤسس لخطاب روائي مختلف. لذلك فقد اتسمت هذه الأعمال بالجرأة في اختراق التابوهات، والخوض في فضاءات سوداوية تفيض بالقمع والعدوانية والتعذيب، وممارسة النقد الحاد في العلاقة مع السلطة، وكشف خصوصيات المجتمع النسوي وفضح تفاصيله الصغيرة عبر سرد متدفق مسترسل ومسكون باليقين لأنه يعتمد المحكي الحاضر في الحكاية ويدفع القارئ إلى التأمل والدهشة.

أدب العدد الأخير العدد الواحد والثلاثين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

طارق إبراهيم حسان