الكتابة والمرجع في كتاب “المعنى والدلالة”[1] لمحمد مفتاح

كتب بواسطة صالح لبريني

                                                                                                 
مِهَادٌ:

إن المتأمل للمشروع النقدي الذي يؤسسه الناقد محمد مفتاح سيخلص إلى أنه منبثق من تصور معرفي عميق وثقافة أصيلة في منابعها وأصولها، الشيء الذي جعل كتاباته تمتاز بهذا الثراء المعرفي، نظرا لاعتماده المنهج كآلية من آليات القراءة النقدية العلمية التي تسعى خلق أفق نقدي مغاير.  فجل أعماله النقدية تصر وتلح على ضرورة الاعتماد على رؤية منهجية بإمكانها إضاءة المعتم والملتبس في النص الإبداعي وتحقيق التميّز للدرس النقدي العربي، هذا الأخير يتخبط في غياب رؤية واضحة للتناول النصي. وعليه فكل ممارسة نقدية لا تخضع لآلية العلم ممارسة يستعصي عليها سبر أغوار النص المؤوَّل، ولعل هذا من شواغل مفتاح النقدية التي لا تنفكّ من إسار النظريات المعرفية الضاربة في العمق المفاهيمي؛ والبناء المعرفي المتماسك. وليس غريبا علينا أنه صاحب مشروع نقدي يلتزم بشروط وضوابط الشرط العلمي، كإطار منسجم مع المأمول من العملية النقدية في مراودة النص، باعتباره عالما لغويا زئبقيا منسوجا داخل بنية متشكّلة من علاقات الجمل، بل من ترابطات تخضع لنسق دلالي يواري المعنى خلف غابة من التشكلات الأسلوبية والبنائية.

وللإشارة فهذه المناولة المتواضعة لا تدّعي الإحاطة بكل ما جاء به الناقد في هذا الكتاب، بقدر ما هي محاولة للقبض على البعض من هذا النتاج حتى نستطيع استيعاب هذا المشروع والعمل على الحفر فيه بتؤدة وزاد منهجي متأصّل ومسترفِد لكل المعارف والمدارك “لأن المقاربة الحديثة تعوّل في دراستها لموضوعها على ضبط المفاهيم وتحديد  نسبها والشجرة المعرفية التي تتصدر منها”. والعنوان الذي اخترناه لم يأت اعتباطا، بل انبثق من رحم كتاب “المعنى والدلالة” ذلك أن الكتاب يقوم بمحاولة مناوشة شعر الحداثة وما بعد الحداثة، كتعبير جديد عن الواقع برؤى تتفاعل مع إبدالات مسّت الإبداع، وجعلته أكثر تشظيا ومفارقة للسائد، بمعنى أن التجربتين الشعريتين موضوع القراءة ينتميان إلى الإبدال الشعري الذي شهدته الشعرية العربية منذ أربعينيات القرن العشري.  فمقاربة التجربتين تحتاجان إلى أوليّات نقدية تتماشى مع هذا التحوّل لأن اللغة الشعرية “تقوم في العمق على عنصر الخيال أو التخييل في عمقه النفسي، وما ينتج عن الخيال في اشتغاله على المستوى الأدبي هو التخييل الفني(…) حيث تتمثل الذات أو تتخيل أو تصوّر لنا عالما تتحدد طوبولوجيته داخل النص الأدبي ولا يدرك القارئ هذا العالم إلا داخل الكلمات وبواسطتها [2]. ونعني بالكتابة قدرة النص على تجاوز الثابت النصي، وخلق نص يلبي نداء اللحظة التاريخية هذا من جهة، ومن جهة أخرى نشير إلى أن المرجع لا يحيل إلى الواقع أو يدل على المنظور التاريخي والاجتماعي والنفسي للمقاربة النقدية كما عرفت مع المناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية، بقدر ما ارتضينا أن نعطيه دلالة مرتبطة بالروافد المعرفية والثقافية للعلوم الإنسانية التي لعبت دورا مهما في تشكيل هذا المشروع النقدي المتميز.  ولابد أيضا أن قراءتنا لهذا المتن متصل أشد الاتصال بالمنجز النقدي السالف، على اعتبار أن مشروع مفتاح مشروع ممتد في هذا الكتاب. إذن فحول ماذا يتمحور الكتاب؟ وما أبرز الخلفيات المعرفية التي يستند عليها محمد مفتاح في خلق نسقية نقدية فاعلة ومتفاعلة؟

(1)  مطلب متن الكتاب:

يعدّ الكشف عن الخلفيات المعرفية التي تشكل سندا في مقاربة النص لدى محمد مفتاح، والتي لها الأولوية القصوى في نتاج الناقد، نظرا للأهمية التي تكتسيها في المشروع النقدي لديه، حيث يعتمد على منهاجية رصينة قوامها شبكة من العلوم المعرفية، ولعل هذا ما جعله يتبوّأ مكانة مهمة في النقد العربي الذي يعاني من الندرة والقلة في هذا الباب حيث “يرى أن أزمة الأدبي، عامة، ونقده خاصة هي غياب المنهج الرصين القادر على الاستجابة الصحيحة لتراثنا الأدبي ونتاجنا الحديث المعاصر”[3]. والناقد محمد مفتاح يؤكد دائما على أن الممارسة النقدية لابد أن تكون منبنية على نسقية علمية حدودها الأصول المعرفية، ومقصديتها الحفر في النص الإبداعي، ويجب الإشارة إلى أن مفتاح لا يرتكن إلى السائد في التناول النقدي العربي، وإنما يروم إلى فاعلية نقدية تعتمد”نظرية منهاجية”، من خلالها، يتم إضاءة المعتم في كل نتاج إبداعي. وقد منح النقد الصفة العلمية والنجاعة البحثية، بوساطة تصور ينهل من هذه العلوم المترامية الأطراف، والممتدة في نسيج الكون النصي. إن مفتاح يعتمد على منهاجية شمولية ترتضي المزاوجة بين الاعتماد الداخلي المتمثل في الاستناد على أجزاء البنية الكلية وفق مساق بنائي تصاعدي تتم فيه الحركة من الجزء إلى الكل حتى التماس الشكل البنيوي واكتماله في وحدته. والقصد من وراء ذلك بلوغ الشمولية المبتغاة لمنهاجيته المنشودة[4]

  وهذا ما لمسناه في كتاب “المعنى والدلالة” وقبل الوقوف على الخلفيات المعرفية المؤثثة للمشروع النقدي، لابد من التطرق إلى أن الكتاب يتضمن بابين الأول وسمه بعنونة “المفردات والمعرفة” ويتشكل من فصلين الأول (الزيتونة المباركة) تناول فيه قضايا مرتبطة بنشأة اللغة في علائقها بوسائل الإدراك الحسية أولا وبالملكات الذهنية ثانيا، وذلك في إطار رؤيا الاتصال/ الانفصال الهندسية. أما الفصل الثاني (السراج الوهاج) فهو تجسيد للفصل الأول. والباب الثاني ب”التسوية والنفخة” بفصلين الأول تحت عنوان (الربابة والقيثارة) تم فيه تحليل نصوص عبد جواهري حيث توقف الناقد على هيمنة البعد الموسيقي التصويري لتطور الكون ولمسارات حياة الشاعر في سياق اجتماعي صفته الصراع، وفي الفصل الثاني (الصور والنّاقور) وهو خاص محمد بنطلحة تمت تسمية بهذه العنونة، لكون الشاعر يتناول في شعره أحداثا عظاما ميزت شعر ما بعد الحداثة وبخاتمة أجمل فيها تصوره المنهاجي. وقد أشار الناقد في المقدمة أن تجربة الشاعرين الشعرية فرضت اعتماد نظرية منهاجية تمّ بثّها منذ عقود في مظان سابقة خصوصا كتابه” مفاهيم موسعة لنظرية شعرية: اللغة -الموسيقا- الحركة” مشيرا إلى أن جواهري ينتمي إلى شعر الحداثة، في حين أن بنطلحة يندرج ضمن شعر ما بعد الحداثة، هذا الأمر حتّم على الناقد دراستهما وفق مرجعيات فلسفية حداثية وما بعد حداثية حتى يتحقق الانسجام في المنهاجية المعتمدة. لكن الناقد لم يبقَ رهين الطاعة والاتباع وإنما سلك مسلك آخر يتجلى في أخذ ما يخدم مقاصده النقدية من كل النظريات النقدية التي تسعفه على فهم وتحليل وتأويل نصوص شعر الحداثة وما بعد الحداثة، يقول: ” لأن شعر الحداثة وما بعد الحداثة لا يمكن فهم نصوصه وتحليلها، وتأويلها إلا بمعارف عديدة”[5]  كما أن الشعر زئبقي يستحيل القبض عليه لأنه يتجاوز حدود العلم ويتسع لآفاق بعيدة تتطلب المصاحبة وامتلاك آليات نقدية تمكّن من القيام بعملية الإدراك والاستيعاب والتأويل.

(3)  مطلب المرجعيات المعرفية:

ما يميز مشروع محمد مفتاح كونه مشيّد على أرضية منهجية قابلة للتفاعل مع كافة المعارف والعلوم، وهذا يبرز نباهة وقدرة الناقد في استلهامها والعمل على تكييفها ضمن منظومة قرائية تحترم شرط العلمية، وفي هذا السياق فالكتاب عبارة عن مشتل تتلاقح فيه النظريات المعرفية بالعلوم، وتتفاعل لتعطي منجزا نقديا قمينا بالتزاوج الفعلي. هكذا نجد محمد مفتاح يسترفد هذه المصادر المعرفية ضمن المنهاجية الشمولية والمتحركة داخل نسقها التفاعلي، فالنسقية سمة من سمات المشروع النقدي لدى مفتاح، والتي يمكن ضبطها في العلوم الآتية:

*المنطق :

إن وقفة متريثة مع كتبه ومنها هذا الكتاب نعثر على هذا المفهوم الأثير إلى مفتاح مبثوثا في جل ما ألف من كتب نقدية ومباحثها، والسبب في ذلك يرجع إلى ما تتصف به هذه المنهاجية من نزوعات إنسانية. فالتأليف المنطقي[6] حاضر بقوة في هذا المشروع والسبب كامن في شمولية هذا العلم المادية ذات النفس الإغريقي والأهم الميل والنزوع المنطقي القديم لدى كثير من علماء المغاربة ومثقفيها[7]، وهذا ينسجم مع بنية النسق المتحكمة في النقد عند مفتاح. وأيضا من خلال توظيف بعض المفاهيم الكلية.

*الرياضيات :

يشكل لبنة من لبنات المنهاجية الشمولية، وهي ذات حضور سواء تعلق الأمر بالتحليل الشعري أو على مستوى النقد النظري، مما يدل على الاهتمام بعلم الرياضيات الذي يحقق للبناء التحليلي والنقدي الجانب الموضوعي نوعا ما، لأن “موضوع الرياضيات الأشكال والأعداد، تتحقق الأشكال على فضاء متصل يجزأ، بحسب تصورات ومقتضيات، فيكون المثلث والمربع والدائرة… وتنجز الأعداد كونها كيانات منفصلة فيكون الواحد والاثنان والثلاثة…”[8] فما يلاحظ في هذا المقول أن الخلفية الرياضية حاضرة، وتشكل إطارا نظريا يؤطر نسق الدراسة النقدية ، والرجوع إلى الصفحات 33و34و140من الكتاب يوضح هذا الأمر.

*الفيزياء والكيمياء :

من المفاهيم الاصطلاحية الموجودة في البناء المعرفي الذي يبتغيه الناقد في كتابه، نجد العديد من المصطلحات التي تقوم على الآلية الحركية الفاعلة منها التشعب والتفاعل والدينامية والترابط والربط والفوضى والتشاكل وغيرها وهي مصطلحات لها علاقة بعلم الكيمياء. أضف إلى هذا مصطلحات تفصح عن حقلها الفيزيائي المأخوذة منه كالنسيج والتناسل والتوالد مما يبين أن الناقد محمد مفتاح هاجسه وضع أسس ومبادئ وضوابط تكون جديرة بنقد النص الذي يعاني من القراءات المبتسرة، التي تقتل روحه بدل بذر حياة جديدة.

*الهندسة :

لا شك أن المنهاجية الشمولية تستفيد من الهندسة وتستقي منها مفاهيمها الاصطلاحية ومن أشكالها البنيوية ذات الكتل المادية ومن مبادئها العلمية، وتعتمد عليها في الكثير من ممارساتها التحليلية النقدية، فالهندسة لا تؤمن بالقطائع المعرفية لأن تاريخها تسلسلي تأخذ بقانون الاتصال وترفض الانفصال، لكونها علما لصيقا بالإنسان فله طابع إنساني.  ومن العلوم المعرفية التي كانت صلب العملية النقدية نشير أيضا إلى الفلسفة كمقوم من مقومات النقد النسقي، حيث شكّلت معطى لا محيد عنه في التصور العام للناقد، وبالسيميائيات التي يعدّ مفتاح واضع أسسها التطبيقية منذ أول كتاب نقدي له. والفكر البلاغي العربي الذي وظفه توظيفا ينسجم من الطروحات الفكرية والنقدية المبتغاة، ولا غرابة في ذلك مادام الناقد يلح على ضرورة تحقيق النسق. إضافة إلى النهل من علم النبات من خلال توظيف مفاهيم كاليقطين والتقطين ساعيا رسم ملامح تكوين النص، باعتبار” اللغة الطبيعية شبيهة بنبات اليقطين، من حيث التعدد، والتشعب الدّوري، والترابط العشوائي”[9] غير أنه مفهوم لم يرضخ له الناقد فاقترح مفهوم “التقطين”الذي يقصد به دور الإنسان وما قام به من تنظيم في مجالات عديدة، ومنها مجال اللغة التي اعتنى بأصواتها وبأبنيتها، وبنحوها…وجعل وطنها بطون أرض المعاجم اللغوية[10]، مقترحا مفهوم التشجيرية للدلالة على أن النص الإبداعي متشابك ومتفرّع.

خاتمة:  

إن كتاب “المعنى والدلالة” كتاب أكثر غنى في طروحاته، وأكثر نسقية في منهجه، ويتميّز بمرجعيات معرفية تفتح أفق المغامرة على مصراعيها لكنها مغامرة محفوفة بالمنزلقات إذا لم يكن الناقد متسلّحا بكل المعارف والعلوم والمناهج المتنوعة. غير أن محمد مفتاح شرع لنا كوة هامة للتفكير مليّا في مشروعه النقدي، ومصاحبته مصاحبة عمادها الحفر العميق في أرضه النقدية.

الهوامش:                                                                                                                                                  1- محمد مفتاح : المعنى والدلالة، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع،الدار البيضاء/ المغرب، ط1،س2018.                                            

   2 – Yves Reuter : introduction a l’analyse du romon,p37 (نقلا عن مصطفى سلام: التخييل في الفكر النقدي المعاصر،مجلة البلاغة والنقد الأدبي،ع2، خريف/شتاء 2014-2015،ص64.

3- محمد مفتاح، النص: من القراءة إلى التنظير، المدارس للنشر، الدار البيضاء، المغرب 2000، ط1، ص91

4- د.فاخر ميّا و هيثم الصديان/ المصادر المعرفية  لمنهاجية محمد مفتاح دراسة في التحيّز الإبستمولوجي، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية – سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، مجلد38، العدد6، 2006،ص248.

5- محمد مفتاح: المعنى والدلالة/ المركز اللثقافي للكتاب للنشر والتوزيع،الدار البيضاء/ المغرب، ط1، 2018، ص 19.

6- ن.م ، ص 27.

7- محمد مفتاح: التلقي والتأويل : مقاربة نسقية، المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء/بيروت/المغرب/لبنان،2015،ص من 5-54.

8- د.المصادر المعرفية مصدر مذكور، ص77.       

9- محمد مفتاح : المعنى والدلالة ، م.س،ص 80.

10- ن.م ،ص 80.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أدب العدد الأخير العدد الثاني والثلاثون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

صالح لبريني