الإنسان: النص والتأويل والمجتمع
المعنى هو ذلك الكائن الميتافيزيقي الذي يشكله الإنسان ولا يكاد ينفك عنه في لحظة من لحظات حياته سواء أتعامل مع النصّ أم مع ظاهرة طبيعية، فتشكُّلُ المعنى بمثابة انفعال يعد نشاطا طبيعيا في كل حيواتنا؛ لأن الإنسان يعيش في عالم متداخل من العلامات. على أن النصوص ظواهرُ طبيعية لا يمكن أن تدرك إدراكا كاملا، فالتفاعل معها تفاعلٌ جزئي وفقا لمكوناتٍ وعوامل اجتماعية وثقافية وأيديولوجية متعددة، وما يراه الإنسان نهائيا في “المعنى” إنما هو نتيجة فعلية للانهمام والانحشار في زاوية من زوايا النظر بفعل تلك العوامل والمكونات. والنصوص كائنات في السيرورة الاجتماعية ونحن في مواجهة النصوص إنما نعيش صراعا وتجاذبا لا يبارح حالة من حالاته: إما الانفعال والتأثر، وإما الصراع والهدم.
ولعل أبرز وجهات النظر التحليلية في اللسانيات وعلم الاجتماع “التماثل النسبي” بين النصوص والظواهر الطبيعية؛ فلا يمكن المساواة بين الواقع (الممكن والحاصل) ومعرفتنا عن الواقع؛ إذ إنها (معرفتنا) عرضية ومتبدلة وجزئية، وهي من جنس معرفتنا بالواقع أو الطبيعة؛ إذ يجب ألا نفترض أن معرفتنا عن النصوص تستنفد الواقع أو أنها نهائية؛ لذا فإن الرهان الحقيقي لفهم النص وتشكيل المعنى وإنتاجه هو تضافر زوايا النظر والاختصاصات وتجنب الانغلاق التخصصي الذي لا يخلو من وهم[1].
عندما نعود إلى عمليات التلقي أو التفاعل مع النصوص، وهي تلك اللحظة التي لا يستطيع إنسانٌ أن ينفك عنها في لحظة من لحظات حياته كما قد أسلفنا؛ نجد أنه لا توجد مسافة زمنية فاصلة بين “التلقي” و “النص”، ونقصد بذلك أن درجة الصفر في التأويل تكاد تكون معدومة أو متوهمة؛ من حيث إن التأويل كالتنفس في حياة الإنسان وأداة من أدوات الصراع في الحياة تتمثل في ادعاء الحق في التأويل من الأحاديث اليومية الدارجة في السوق والشارع إلى الخطابات والصيغ العالِمة، وقراءة الصحف، وتفسير الكتب المقدسة[2]؛ فالحاجة إلى التأويل تفرض نفسها حتى تغيب تلك المسافة المدعاة من إعطاء النصّ فرصة ليتكلم بمعزل عن المؤول (الإنسان).
ويمكن تقريب حالة السيطرة على النصوص بمثال من أمثلة الحوار بين طرفين: (أ) و(ب) على سبيل الحوارات الحجاجية والتجاذبات اليومية البسيطة، وقد يتعلق بالقرآن أو السنة أو غيرهما من النصوص الدينية المقدسة أو الشأن العام؛ فيتجه الطرف الأول (أ) إلى القرآن ليستل آية يحتج بها تأييدا لرأيه واستدلالا، وقد يخيل للمرء أن في ذلك حجة للطرف (أ) على (ب) من حيث إن النص بذاته يذهب إلى المعنى الذي يريده المتكلم، وحينئذٍ علينا أن نسأل: ما الذي يجعل الطرف (أ) يختار تلكم الآية دون غيرها من النص القرآني وأحيانا يكون النص ذاته هدفا للاحتجاج على الطرف الآخر؟ ذلك يعني أن النصّ بمجرد اتصال العقل به في لحظة من لحظات التأويل والتفاعل، وقد تكون لحظاتٍ سابقةً على لحظة الحوار لا يتاح لهذا النص أن يقول ما يريده بمعزل عن مزيج التفاعل بين الإنسان (بكل عواطفه، وثقافته، وأيديولوجياته) والنص؛ فما يقدم في الحوار على أنه دليل لا يخلو من صناعة تأويلية وأيديولوجيا وإسقاطات.
إن هذه المسألة بالذات تفتح المجال أمام علم اجتماع النص ليبرهن على أن حركة النص في السيرورات الاجتماعية هي حركةٌ للأيديولوجيات، وتعكس المجتمع بما هو خزانٌ للتعدد والتجاذبات والمواجهات؛ فالطوابع الأيديولوجية والفلسفات والنظريات الاجتماعية مصنوعات خطابية وليست حيادية أو موضوعية بريئة[3]؛ فالنص لا يعكس ذاته بحيث إنه كائن محايث يعيش عزلته، وإنما يعكس طبيعة الأفراد والمجتمع والثقافة، والبحث عن براءة النص من هذه العوالق يُعدُّ نوعا من العبث وضربا من المستحيلات والأوهام، كما أن مسألة التماهي بين المتكلم ولحظة التلقي في عمليات الاستدلال على المعنى يؤكد حضور الإنسان بكل أفكاره وأيديولوجياته لتنظيم مفردات المعنى في نص من النصوص؛ لذا نجد له انعكاسا في التراث الإسلامي؛ إذ تلتقي النزعاتُ اللسانية بالأفكار الأصولية عند الجويني (ت478هـ) وغيره من الأصوليين في مفردة “الكلام النفسي” وتمييزه عن الخطاب، ونحن إذّاك نستعيد أنموذجَي الشفرة والاستدلال مازجين بينهما؛ “فاللغة تمكِّن من التعبير عن كل شيء، وهي إلى حد ما شفافة من جهة ما تبلغه الجمل من الرسائل، وهي تكتفي بنفسها، إذ يقوم تأويل جملة ما على فك رموزها، أي على استعمال النظام الترميزي الذي أنشأته اللغة التي استعملناها للتعبير عن تلك الجملة من أجل إعادة بناء الرسالة”[4]. ولكن هل يعني النظام الترميزي أننا نصل إلى الدلالة أو المعنى بمجرد الاستماع إلى جملة ما بمعزل عن ذواتنا وثقافتنا وأيديولوجياتنا؟
يشيرُ مؤلفا “نظرية الصلة أو المناسبة” إلى أنموذجين في التواصل وتشكيل المعنى؛ وهما: أنموذج الشفرة، وهو يفترض امتلاك كلٍّ من المتكلم والمستمع ليس لغة مشتركة فحسب، وإنما مجموعات مشتركة من المقدمات وقواعد الاستدلال نفسها وبطرق متوازية للتوصّل إلى المعنى؛ وأنموذج الاستدلال الذي يستدعي تحقيق التواصل وإنتاج المعنى عبر عمليات استدلالية تقتضي توافر الدليل وتأويله[5]، وعندما نعود إلى التراث الإسلامي بوصفه تراثا تمثّل ظاهرة التأويل عبر التفاعل مع معطيات متعددة إنسانية ومادية نلاحظ أن الأصوليين –كما أشرتُ آنفا – وظفوا مصطلح “الكلام النفسي” وابتنوه عبر القصديات؛ فالكلام الإلهي الأزلي لا يمكن فهمه بوصفه ظاهرة في الاجتماع الإنساني إلا من خلال الذات الإنسانية المتكلمة وسلوكها؛ إذ لا يمكن إدراك الصفات الإلهية إلا بإدراك الذات الإنسانية والتبصُّر بها، وهذا يفتح المجال أمام مسألة غاية في الأهمية تستدعي تعدد المعنى بتعدد أرحامه وسياقاته، وإن اتحدّ النصُّ المراد تأويله، والنصُّ حينئذ انعكاس لثقافة المجتمع وأيديولوجياته والتأويل عملية فحواها محاولة امتلاك النص في ظل النزاع والنشاط الاستدلالي المحتدم؛ فنحن أمام ظاهرتين على الأقل؛ ظاهرة أن اللغة أو الكلام بوصفه نشاطا فرديا لا يمكن فهمه أو فهم ظاهرة التواصل إلا عبر الذات الإنسانية وهو ما يؤكده الأصوليون في التراث الإسلامي؛ فالجويني مثلا يرى أن: “العامّ والخاصّ قولان قائمان بالنفس كالأمر والنهي، والعبارات تراجم عنهما” وإنما يثبت الأصوليون ذلك “إثباتَهم الأمر المقتضي النفسيَّ في مفتتح كتاب الأوامر، ثم ردُّوا اهتمامهم إلى القول في صيغة العموم. وهذا الذي صدّروا الكتاب به ليس بالهيّن عندي (والكلام للجويني)؛ فإنا وجدنا اقتضاء نفسيا وطلبا مختلجا في الضمير لا يناقض كراهية وجود المقتضى على ما سبق ذلك متضحا، فسمينا الطلب النفسي أمرا، وأوضحنا من طريق اللسان تسمية العرب إياه كلاما، فأمّا العموم والخصوص فما أراهما إلا كذلك في الوضوح”[6]، وهذا الرأي يجعل الذات الإنسانية جوهرية في عمليات التلقي للنص، وتاليا في تعدد المعنى وشرعية الاختلاف؛ مما يجعلنا نستعيد كلَّ العوامل التي تحيط بنا في تشكيل ذواتنا من حيث إنها مؤثرة في إنتاج المعنى ليكون مزيجَ ذلك التفاعل بين هذه المكونات كلها حتى لا نستأثر به (المعنى) دون الآخر المختلف عنا؛ لذا فإنّ مما يدل على تعدد “المعنى” بتعدد المتلقين للنص في التراث الإسلامي، في النظرات اللسانية الحديثة وعدم القطع في ما توصّل إليه المتلقي؛ درجاتِ البيان في أصول الفقه على اعتبار “الجهد” الذي يبذله المتلقي في تأويل النص والوقوف على مناسبته[7] وذلك ما نرمي إليه بالظاهرة الثانية.
إن النصُّ بمجرد وقوع النظر عليه يتحول إلى حاصل عمليات مزجٍ عقلية وانفعالية بينه وبين المتلقي –كما قد أشرتُ– بيد أن المهم في هذا السياق هو استحضار حالة التماهي بين المتكلم والمتلقي، والتي عبَّر عنها علماء الفقه بـ”الكلام النفسي” أو درجات البيان، وما عبّرت عنه التداولياتُ بـ”الحالات الذهنية”؛ فاللغة وإن كانت نظاما ترميزيا إلا أنها لا تختزل في ذلك النظام الترميزي الشفاف؛ لأن استعمال اللغة وإنتاج الجمل وفهمها يتطلب معارف غير لغوية ويستلزم عمليات استدلالية[8]، وفي سياق النصوص المقدسة فإن التأويل محاولة لتشكيل معالم المتكلم الميتافيزيقي ولكن عبر مسار تجريبي مادي يبدأ من الذات الإنسانية وثقافة المجتمع والخطاب في حضوره الثقيل والكثيف بتعبير ميشيل فوكو.
ويمكن استحضار مثالين لفهم العمليات الاستدلالية وعلاقتها بالثقافة والوضع الاجتماعي للمتكلم والمتلقي، ويُقصَدُ بها: مجموعة الاستدلالات التي تفضي انطلاقا من تلقي جملة ما، وما يحيط بها من معارف إلى نتيجة، وهذه النتيجة هي دلالة الجملة[9]؛ فعندما يطلب الأب إلى ابنه (مثلا) بعد تناول وجبة العشاء “أن ينظف أسنانه”؛ فإن الطفل قد يبدي استجابة تبدو غريبة في مسألة العلاقة بين الرد والطلب أو بين الجملتين؛ حين يقول: “لا أشعر بالنعاس”! ولفهم هذه الإجابة ينبغي تقديم فرضيات تتعلق بحالته الذهنية وافتراض أن جملته مناسبة للمقام؛ كما أن المعارف الضرورية لفهم هذه الجملة تستدعي إدراك العلاقة بين تنظيف الأسنان والنوم؛ فثقافة الطفل ومعارفه جعلته يعتقد أن العلاقة مؤكدة بينهما أولا؛ وأن والده بهذه الجملة التي أراد من خلالها إرسال رسالته يريد تنظيف الأسنان قبل النوم، وبما أن الطفل لا يريد النوم الآن في لحظة إطلاق الملفوظ فإنه لا بأس من تأجيل عملية التنظيف إلى اللحظة قُبيل النوم، وهذا يعني أن الطفل (المتلقي) تقمّص الحالة الذهنية لوالده (المتكلم) انطلاقا من العمليات الاستدلالية وليس من ترميز الجملة[10].
ويتضح الأمر بمثال آخر؛ فنحن –إن عرضنا عليك القهوة مساء- فإن إجابتك: “القهوةُ تمنعني من النوم” تقرب إلينا احتمالين على الأقل؛ فالاحتمال الأول مؤداه أنك تريد شرب القهوة وترغب فيها، وهذا الاستدلال بناء على معرفتنا السابقة بأنك راغب في متابعة فيلم السهرة في ساعة متأخرة؛ بينما يأتي الاحتمال الثاني مُعربا عن رفضك للقهوة؛ لأنك تقوم باكرا لتقطع مسافة طويلة لتصل إلى مقر عملك؛ والتوصل إلى المعنيين أو الاحتمالين السابقين من قبل المتلقي[11]، أو أن إدراك الحالة الذهنية للأب في طلبه إلى ابنه في المثال الأول يستدعي أن الفهم أو التأويل نشاط استدلالي لا ننفك نمارسه على المستوى اليومي، والمعنى ناتج عمليات منطقية لا تكتفي بالمعارف اللسانية؛ لذا فإن مسارات المعنى مساراتٌ مفتوحة ونسبية ومتعددة بتعدد الخلفيات والمعارف والأيديولوجيات وأساليب الاستدلال.
[1] نورمان فاركلوف، تحليل الخطاب: التحليل النصي في البحث الاجتماعي، تر. طلال وهبة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 45
[2] فتحي إنقزّو، معرفة المعروف: تحولات التأويلية من شلايرماخر إلى ديلتاي، الرباط: مؤمنون بلا حدود، 2017، ص. 13
[3] بيار ف. زيما، النص والمجتمع: آفاق علم اجتماع النقد، تر. أنطوان أبو زيد، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2013، ص. 20
[4] آن روبول، وجاك موشلار، التداولية اليوم علم جديد في التواصل، تر. سيف الدين دغفوس، ومحمد الشيباني، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2003، ص. 19
[5] دان سبيربر، ديدري ولسون، نظرية الصلة أو المناسبة في التواصل والإدراك، تر. هشام الخليفة، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2015، ص. 19-56
[6] الجويني، البرهان في أصول الفقه، جـ1/ ص. 220
[7] راجع دراستي الخامسة: العموم والخصوص بين الجهد والنتيجة؛ ضمن: دراسات تداولية في أصول الفقه، بيروت: دار الفارابي2016، ص. 237- 263
[8] آن روبول، وجاك موشلار، التداولية اليوم علم جديد في التواصل، ص. 20
[9] المرجع السابق، ص. 21- 22
[10] المرجع السابق، ص. 20
[11] المرجع السابق، ص. 20- 21