ســلاح الأدب في مواجـهة الموت

كتب بواسطة أحمد الزناتي

عن كتاب هارولد بلوم الأخير

تقديم

هذا هو الكتاب الأخير للناقد والمحلل الأدبي الأميركي الأشهر هارولد بلوم (1930 – 2019)، والذي نُشر بعد وفاته. يحمل الكتاب عنوان “التسلّح ضـدّ طوفان المشاكل: قوة عقل القارئ في مواجهة عالم الموت”، ويضمّ عدداً من المقالات والتحليلات النقدية التي كتبها في أواخر أيامه. كان بلوم يشغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الإنسانية بجامعة “ييل”، وكان له دورا بارزا في الدفاع عن حركة الشعر الرومانسي والنظريات الجمالية والنقدية الرومانتيكية ضد التيارات الأخرى التي يُطلق عليها الماركسية والتاريخية والنسوية والتفكيكية إلخ… بدايةً من سنة 1980 تحوّل بلوم من الكتابة الأكاديمية البحتة إلى مخاطبة عموم جمهور القُراء عبر تقديم مختارات شعرية وأدبية وتعليقات ثاقبة على عيون الأدب الغربي أسفَرتْ عن أعمال مهمة. ألّفَ بلوم هذا الكتاب في أثناء السنوات السابقة لرحيله الماضية، ووفق دار النشر كُتبت فصول منه في أثناء دخوله المستشفى بعد تدهّور صحته في الشهور الأخيرة، واختيارات بلوم للنصوص والكُتاب والشعراء محل الدراسة تعكس وعي بلوم القوي بدنوّه من الموت، مثلما يعكس حُبَّ بلوم للشعر طوال حياته واستجاباته العاطفية لذلك للقصائد. في هذا الكتاب يبدي بلوم -كعادته- احتفاءً بقوة الأدب وقدرته على تجاوز فكرة الموت، حيث انتهى الرجل من تأليف الكتاب قبل أسابيع قليلة من وفاته. محور الكتاب هو قدرة الأدب على تجديد الحياة وسطَ ما أسماه الشاعر الإنجليزي الشهير جون ميلتون، مؤلف الفردوس المفقود، “عالم الموت”. حيث يمارس الناقد الأميركي الراحل فعل القراءة كوسيلة تشبه وسيلة حَمل السلاح في مواجهة طوفان مشكلات الحياة كما يقول عنوان الكتاب، فيأخذ القُرّاء في جولة بانورامية واسعة يطلّ منها على عدد من الأصوات الشعرية التي لبثت تطارده طوال حياته من القراءة. يقول بلوم: “الأدب الرفيع هو كذبة منقذة للوقت، مناهضة لفقدان الفردية وموت مبكر”.

في مقاطع من الحميمية المذهلة يكتب بلوم أنه يستيقظ أحياناً في وقت متأخر من الليل، وهو يتلو سطورًا من دانتي وشكسبير وميلتون ومونتين وبليك ووردزورث وهارت كرين وجاي رايت، وغيرهم الكثير. في ست عشرة مقالة مكثّفة ثرية وحميمة يقدم بلوم نظرة عامة شاملة على أساطين الشعر الغربي، بدايةً من هوميروس إلى الأمريكي الأفريقي المعاصر جاي رايت الذي أشاد به بلوم كونه “من بين أفضل الشعراء الأمريكيين، بالإضافة إلى الاحتفال بالكتاب المحبوبين الذين طالما أشار إليهم وعلّق على نصوصهم.

في المقدمة يقول بلوم:

“إذا قُدّر لك أن تعيش تسعين سنة فستنجو ببدنكَ، ولكن ستهزمكَ أخطاؤك وستنال منك صروف الدهر وخيبة أملك في الآخرين. انهضْ عند شروق الشمس واقرأ شيئاً ذا قيمة على وجه السرعة. أعاني الآن من مشاكل في التنفس بصفة دائمة، وبرغم ذلك ما يزال يغزوني شعور قوي بأنني أتنسّم الهواء الصافي لأشعار والاس ستيفنز”.  

في السطور التالية ترجمة فقرات مُختارة من الكتاب:

بأي معنى تعزز القراءةُ العميقةُ الحياة؟ هل في مقدور القراءة تحويل الموت إلى أن فتاة لعوب؟ أغلب التمثيلات الأدبية للموت لا تصوره على أنه حدث صاخب بشكل خاص.

تعلمتُ من لوكريتيوس وأبيقور ما قاله الأخير في رسالته إلى مينوسيوس (أواخر القرن الرابع قبل الميلاد):

إذن فالموت، وهـو أفظع البلايا، لا يمثّل شيئاً بالنسبة إلينا. ليس للموت وجود ما دمنا على قيد الحياة، وليس لنا وجود حين يدركنا الموت. ومن ثمَّ، فالأمر لا يتعلق بالأحياء والأموات، إذ لا وجود للموت بالنسبة إلى الأحياء، ولا وجود للموت لمن ماتوا”.

بيد أن هذا لا يخفّف من غلواء حزني على الموتى الأعزاء على القلب ولا يعوّض ألم وحدتي على كثيرٍ ممن قضوا من أصدقائي، إلا أنه يبدّد أية مخاوف بشأن تلاشي وجودي. لا أريد السقوط مجدداً وتنكسر لي ساق أو ضِلع. عندما أقول لنفسي وأقول إلى الآخرين إن القراءة تُعينني على البقاء على قيد الحياة، فأنا أدرك تماماً أنني أرسم صورة مجازية، فالعودة إلى قراءة دانتي أو ميلتون لن تطيل من عمري دقيقة واحدة، في حين أن المواظبة على التمارين البدنية ستفعل بالتأكيد، ولكن لو أردنا للحياة أن تغدو أكثر من كونها أنفاس تدخل وتخرج، فإن علينا دعمها بمزيد من المعرفة أو بنوع الحب الذي هو شكل من أشكال المعرفة.

طالما كان نموذجي الأمثل للقراءة هو صمويل جونسون الذي ألتهمُ كتبه التهاماً كما كان هو يحبُّ التهام اللحوم، كان جونسون يتذكر سنوات الضنك الأولى في لندن عندما كان يجوب الشوارع مع صديقه الشاعر ريتشارد سافاج، وكلاهما لا يعرف أين سيعثران على الوجبة التالية أو الكتب التالية أو محلّ السكن التالي. عندما يصلني كتاب عبر صندوق البريد، أسارع لأن أحذو حذو صمويل جونسون كأفضل ما يكون وألتهمُ الكتاب على الفور. عندما كنت طفلاً لم يكن لدي مال لشراء الكتب، أما الآن وأنا في خريف العُمر تشكو زوجتي بنبرة لطيفةً من أن طوفانًا من المجلدات قد استحوذَ على منزلنا، وبرغم جهود زوجتي الحثيثة عمَّتْ الفوضى المكان حتى أنني لا أستطيع تحديد مكان الكتاب الذي أحتاجه في هذه المرحلة”.

أتمنى تصديق أن مسألة دراسة التفكير الشعري ربما تخفف من وطأة التقلبات التكنولوجية التي تزداد وتيرتها باضطراد أسبوعياً، لكنها أعجز بالطبع عن فعل ذلك، كما أن الأدب، مهما بلغ سموّ قدرِه، ليس في مقدوره أن يبرأ أحداً، أقصى ما يمكن أن يفعله الأدب هو شحذ مستوى الوعي.

 لكن أليست هذه أعظم إنجازات شكسبير: صـقل وعينا؟ يمكنك أن تجادل بأن هومر وفيرجيل ودانتي وتشوسر، وميلتون وجوته، ووردزورث، وبوشكين، وفيكتور هوغو وسائر أساطين الشعر الغربي يصقلون وعينا، ولكن شكسبير بطريقة أو بأخرى، يختلف في نوع تغيير وعينا، وليس درجته فقط.

على مدار سنوات عديدة رفعتُ راية التمرد ضـد افتراض نيتشه القائل بأن الألم يبقى في الذاكرة أكثر من المتعة، وارتأيتُ أن البهجة الجمالية للأشياء تتحقّق عبر إدراك الألم نفسه كمعنى، وكانت الذاكرة الحافظة التي لازمتني منذ سنوات الطفولة قـد ورطّتني في مأزق ذائقة جمالية اعتمَدَتْ على نوعيّة الألم وكمّه، لا على التحرر منه. لا أنفكّ أعيد قراءة الملك لير وعطيل وتدريسهما في كل فصل دراسي، لكني أواجه ألماً في ردي عن أسئلة الطلاب أكثر مما أستطيع تحمله.

أفتقر إلى سُلطة الحديث نيابةً عن أي شخص آخر غيري. إن ما تقرأه ومقدار عمق قراءاتكَ لا يكاد يقلّ في أهميته عن مقدار ما تحب ومقدار ما تعمل وما تؤديه ولا أهمية صوتك في صندوق الاقتراع ولا ما تنهض به من أعمال خيرية ولا يقل في أهميته عن أهمية نضالك لأجل إرساء العدالة الاجتماعية ومبادئ اللٌطف والاحترام وأداء الصلاة إذا كنت قادراً على أداء الصلاة.

 فالعقل البشري إن هو إلا نشاط مآله الجمود المُظلم إن لم يُدعم عبر القراءة. وعمل القراءة لا يُسقط البهجة من حساباته، فالبهجة الوحيدة في الحياة هي الطاقة كما يُخبرنا ولياك بليك.

ينبغي لنا أن نقرأ بالطريقة التي يخوض بها الكيخوته غمار الحياة، تائقاً إلى مواجهة كل تحدٍ قادم. لايني الفارس حزين الطلّة يتعرض للضرب، بينما يضطر سانشوا بانزا المسكين إلى تلقي عدد لا يُحصى من الضربات، لكنه الفارس النبيل يعرف مَن هو؟ وماذا يريد أن يصير؟ ربما سيصير سانشوا بانزا في نهاية المطاف حاكماً لجزيرته الموعودة.

يحذرنا التلمود من الانغماس في قراءة التاناخ(1) انغماساً نرى فيه أنفسنا داخل النصوص المقروءة. ولكن من المغري أن أرى نفسي أيضًا في دون كيشوت، بسبب التقدم في السنّ والحالة المزاجية، هذا هو الخطر الذي ينبغي التغلب عليه كلما انغمستُ في القراءة.

قضيتُ ثلثي هذا القرن مُدرسّاً في الخارج، طمستُ خلالها قدراً من النرجسية وتعلّمتُ كيف أمارس الصمت. السؤال: كيف تعلّم نفسكَ وتعلّم تلامذتك كيف أن تستوعبَ القصائد الشعرية الأساسية من دون الخلط بينها؟ كيف يمكنكَ تجنّب التماهي مع القصائد التي تقرؤها؟

تَعلم نيتشه مسامحة الذات من هاملت ومن شيللي. وبرغم أنه قد رأى فيلسوفاً يتفلسف بمطرقة، إلا أن قوته تبدو أكثر جنوحاً إلى الإيجابية من العدمية. هناك بالطبع نُسخ لا تُحصى من نيتشه، لكن صديقي الراحل ريتشارد رورتي(2) علّمني الاقتراب من نيتشه من خلال الفكرة الصعبة لـ. Contigency (التصادف/إمكانية الحدوث)، والحقيقة أن كلمة Contigency  لها معانٍ عديدة. ريتشارد رورتي رجل صارم يشرح بشدة حين يعارض فكرة إيمرسون بأن الشُعراء يحررون الآلهة.

الحقيقة المحزنة أن القصائد لا تملك حضورًا أو وحدة أو شكلًا أو معنى. ما الذي تمتلكه إذن القصيدة أو ما الذي تخلقه؟ للأسف لا تملك القصيدة شيئًا ولا تخلق شيئًا، وجود القصيدة مجرد وعد، مجرد جزء من جوهر الأشياء الني نأملُ حدوثها، ومجرد دليل على الأشياء التي لم نراها بعد ونؤمل رؤيتها. اكتمال القصيدة يكمن في نية القارئ الحسنة، ومعناها أن ثمّة قصيدة أخرى، أو بالأحرى ثمة قصيدة أخرى كانت موجودة.

الهوامش:

  • الكتاب المقدس (العهد القديم) معروف بالعبرية بالـ “تاناخ”، وتتكوّن الكلمة من الحروف الأولى لمجموعات الكتب الثلاث التي يشملها الكتاب المقدس: الأسفار الخمسة (توراة)، الأنبياء (نفيئيم) والكتب المدونة (كتوفيم). ويشمل الكتابان الأخيران تسعة عشر سفراً، معظمها بالعبرية. ومع ذلك فإن أجزاء كبيرة من الـ “كتوفيم” وردت بالآرامية، وقد تم تأليفها خلال مئات السنين، منذ الفترة التي سبقت دخول بني اسرائيل لأرض اسرائيل (القرن الـ 13 ق.م (المترجم).
  •  فيلسوف ومفكّر أميركي دَّرَس في جامعتي شيكاغو ويُعدّ من أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة، واشتهر بمؤلّفاته في الفلسفة، والسياسة، ونظريّة الأدب. وإليه يعود الفضل -حسب بعض الدارسين- في تحرير الفلسفة من قيودها التحليليّة، وإعادتها إلى النظر في الإشكالات الجوهريّة المتصلة بطبيعة الحياة ضمن مجتمع سياسي (المترجم).

بيانات الكتاب:

  • Publisher: ‎ Yale University Press (October 13, 2020)
  • Language‏: ‎ English
  • ISBN-10: ‎ 0300247281
أدب العدد الأخير العدد الثاني والثلاثون بعد المائة ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي