بسبب الاحتلال.. تحولت الوظائف في فلسطين إلى جحيم

كتب بواسطة عبد الرحمن محمود

لم يكن مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة برصاص قناص إسرائيلي عند مدخل مخيم جنين، إلا تأكيداً جديداً على أن رصاص الاحتلال لا يفرق بين أحد من الفلسطينيين والجميع في دائرة الاستهداف سواء كان من الطواقم الإعلامية أو الصحية أو القضائية وغير ذلك من وظائف حولها الاحتلال بفعل انتهاكاته التي لا حصر لها إلى جحيم.

وخلال العام الماضي وبجانب النصف الأول من العام الجاري 2022، ارتقى 413 شهيداً في الضفة الغربية وقطاع غزة اختلفت أعمارهم ووظائفهم، فكان من بينهم وكيل النيابة عيسى برهم والمهندسة ريهام الكولك وأستاذ اللغة العربية زكريا حمايل، فضلاً عن الطبيبين معين العالول وعائلته، وأيمن أبو العوف رئيس قسم الباطنة في أكبر مشافي القطاع (مجمع الشفاء الطبي).

وفي الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، تعمد الاحتلال استهداف الكوادر والمقار الصحية، فإلى جانب الشهيدين العالول وأبو العوف أصيب 21 من أفراد الطواقم الطبية منهم 5 وُصفت جراحهم حينها بالخطيرة، بينما تعرضت 111 مؤسسة صحية لأضرار بالغة من بينها 5 مستشفيات و16 مركز صحي حكومي، فضلاً عن 7 مستشفيات غير حكومية و13 عيادة خاصة.

وبدأ الاحتلال مسلسل جرائمه ضد المؤسسات الصحية بالاستهداف لمحيط المستشفى الإندونيسي شمال القطاع، والطرق المؤدية إليه لمنع وصول سيارات الاسعاف والتسبب في أضرار جسيمة في المستشفى، ثم دمر المركز الصحي “هالة الشوا” بعد استهداف محيطه.

أيضاً استهدف الاحتلال محيط المركز الصحي “شهداء الرمال” والمقر الرئيس لوزارة الصحة ما نتج عنه دمار كبير بالمبنى الذي يضم المختبر، وكذلك تضرر مستشفى بيت حانون، وتوقف العمل بمركز صحي “الدرج” بعد استهدافه بصواريخ طائرات الاستطلاع.

واستناداً إلى تقرير صدر عن وزارة الصحة، فقد بلغ إجمالي قيمة الخسائر للمؤسسات الحكومية والخاصة ٣,٨١٧,٧٠٤ دولار، جراء الاستهداف المباشر وغير المباشر لها، مما أصاب المنظومة الصحية في مقتل وجعل طواقمها الطبية والكوادر ذات العلاقة تعمل في ظروف غير آمنة وخطرة.

الناطق باسم الصحة أشرف القدرة، أكد خلال حديث صحفي عقده بمناسبة مرور عام على الحرب أن “الطواقم الصحية مكفولة بالحماية والرعاية بنص القوانين الدولية والإنسانية، وعلى الجهات المعنية والدولية ارغام الاحتلال على احترام هذه القوانين والمبادئ وعدم انتهاكها”.

ولأن الاحتلال بجرائمه لا يُفرق بين أحد، فتعمد قصف سيارات الإسعاف وإطلاق النار عليها وعلى الطواقم الطبية المكلفة بمهام نقل وإخلاء الجرحى والمرضى، فاستشهد خلال حرب 2014، خمسة مسعفين وأصيب العشرات، بينما جرى تدمير أكثر من 20 سيارة إسعاف.

المخاطر المميتة التي يتسبب بها الاحتلال لم تتوقف عند العاملين في القطاع الصحي، بل شملت كذلك الكوادر التدريسية، إذ لاحق الجنود الإسرائيليين المعلمين الفلسطينيين بالرصاص الحي أو المطاط أو الدمدم أو القنابل الصوتية، مما تسبب بارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى وحالات الاختناق جراء إطلاق الغاز المسيل للدموع.

26 شهيداً من المعلمين والموظفين في السلك التربوي ارتقوا ما بين عام 2014 و2021، وقد بلغ خلال العام الأخير عدد الجرحى 70 معلماً ومعلمة وموظفاً إدارياً، مع إصابات بالرضوض والكسور بسبب الدهس والضرب، والخوف والهلع بسبب الاقتحامات وتهديدات جيش الاحتلال والمستوطنين، بينما اعتقل الاحتلال 31 معلماً وموظفاً، وكان هناك 99 محتجزا في السجون الإسرائيلية.

واستمرت كذلك انتهاكات الاحتلال الرامية إلى عرقلة العملية التعليمية وإضاعة الوقت وحرمان الكادر من الوصول الآمن للمدارس من خلال إغلاق الحواجز والبوابات وإقامة الحواجز الطيارة وإغلاق المناطق بأوامر عسكرية، ما أدى إلى ضياع ” 5781.2 “حصة تعليمية بشكل كلي، وبينما وصلت عدد حالات التأخير ومنع الوصول 983 حالة خلال 12 شهراً فقط.

وتصل اعتداءات سلطات الاحتلال على القطاع التعليمي إلى تسليم 10 إخطارات هدم مدارس خلال العام 2021، ناهيك عن قرارات مجحفة بوقف أعمال بناء ومصادرة وإغلاق لعدد آخر من المدارس، الأمر الذي يشير برمته إلى أن الاحتلال عمل وما زال يعمل من خلال انتهاكاته المختلفة إلى تحويل العمل في السلك التعليمي إلى جحيم.

وتعقب وزارة التربية والتعليم على ذلك بالقول إن “الاحتلال لا يتوانى في استهداف والاعتداء على المؤسسات التعليمية في انتهاك صارخ لكافة المواثيق والأعراف الدولية.. فبات الحصول على التعليم أمراً شاقاً بسبب ممارسات الاحتلال تجاه طلبة المدارس والمعلمين التي تعرضوا لكافة أشكال القمع والتنكيل من قبل سلطات الاحتلال”.

“مهنة الموت”

وتبرز انتهاكات الاحتلال بشكل فاضح تجاه الصحفيين والطواقم الإعلامية، في محاولة لطمس الحقائق وتعطيل فضح جرائمه ومنع إيصالها إلى الرأي العام العالمي، فوصل عدد ضحايا الأسرة الصحفية منذ عام 2000 إلى 48 صحفياً، بينما استهدف منذ بداية العام الحالي أكثر من 66 صحفياً تنوعت إصاباتهم بالرصاص الحي والمطاط وقنابل الغاز السام.

وتتنوع مظاهر الاستهداف بحق الصحفي الفلسطيني ما بين الاعتداء عليهم بالضرب والسحل والاعتداءات الجسدية، ثم المنع من التصوير والتغطية الصحفية مروراً بمصادرة الكاميرات ومعدات العمل الإعلامي أو تحطيمها تحت تهديد السلاح.

وتتواصل الاعتداءات من خلال الملاحقة والاعتقال المباشر للصحفيين وتقديمهم للمحاكمات ضمن سياستها الممنهجة والهادفة لمصادرة الحقيقة وتكميم الأفواه وقمع حرية الرأي والتعبير، فتواصل سلطات الاحتلال اعتقال 15 صحفياً في معتقلاتها من بينهم الصحفية بشرى الطويل المعتقلة إدارياً.

وانتهاكات الاحتلال بحق الصحفيين بلغت ذروتها بالاستهداف المباشر عبر قصف وتدمير المقار والمكاتب الصحفية، بل وصل الأمر إلى استهداف الصحفيين داخل منازلهم، مثلما حدث في حرب 2014، فدُمر حوالي 42 منزلاً بشكل كامل و61 منزلاً بشكل جزئي، ونتيجة العدوان الإسرائيلي البري على شرق غزة نزحت حوالي 140 أسرة من أسر الصحفيين.

وفي الحرب ذاتها قصف الاحتلال 19 مؤسسة إعلامية، فدمر بعضها بشكل كلي، ودمر البعض الآخر يشكل جزئي، وتوقف ما يزيد عن 15 إذاعة محلية عن البث نتيجة تشويش الاحتلال على بثها، يضاف لذلك مئات الإصابات في صفوف الصحفيين، خلفت الكثير منها عاهات دائمة، منها: فقدان الأطراف والأعين والتشوهات بالوجه.

وفي 26/8/2014 كانت الصحافة الفلسطينية على موعد مع مجزرة جديدة بحقها، عندما

دمر الاحتلال بصواريخ “أف16” برج الباشا بالكامل والذي يضم عشرات المكاتب الصحفية ووسائل إعلامية ومن ضمنها إذاعة “صوت المرأة” وإذاعة “صوت الشعب” والعشرات من شركات الإنتاج الإعلامي.

وكانت المجزرة الأقسى في عدد الشهداء الصحفيين والتي بلغ في تلك الفترة 16 صحفياً، يضاف لهم صحفي إيطالي قُتل أثناء قيام خبراء متفجرات فلسطينيين بتفكيك صاروخ إسرائيلي سقط على قطاع غزة دون أن ينفجر بمنتصف أغسطس 2014.

وواصل الاحتلال انتهاكاته في حربه الأخيرة على غزة، صيف 2021، وقد علق حينها الاتحاد الدولي للصحفيين على ذلك بالقول “الاستهداف الممنهج للمؤسسات الإعلامية هو محاولة مخزية من الجيش الإسرائيلي لإسكات صوت الإعلام … ويجب وضع حدّ لاستهداف الصحفيين والاعتداءات المقصودة عليهم”.

ودمرت طائرات الاحتلال الحربية خلال الحرب الأخيرة عدة أبراج في قطاع غزة كانت تضم العديد من الوكالات والصُحف والقنوات المحلية والعربية والدولية، كبرج الجوهرة مما أدى إلى تدمير 12 مقراً إعلامياً، منها مكتب صحيفة فلسطين وقنوات العربي الجديد والمملكة ووكالة (APA).

وفي اليوم ذاته (ثاني أيام الحرب) قصف الاحتلال برج الشروق الذي كان يضم 6 مؤسسات إعلامية، ثم قصف برج الجلاء الذي كان يضم مقر قناة “الجزيرة”، ووكالة “أسوشييتد برس” الأميركية، وإذاعة “الأسرى” وبرج البث الخاص بإذاعة “صوت القدس” وغيرها من الوسائل الإعلامية.

والوقائع السابقة، تؤكد مجددا أن الاحتلال حوّل مهنة الصحافة في فلسطين إلى (مهنة الموت)، في ظل امتلاء سجل القوات الإسرائيلية بالاستهداف الممنهج للصحفيين الفلسطينيين، بما يخالف بشكل صارخ القانون الدولي الإنساني الذي يصنفهم أعياناً مدنية ويجرم الاعتداء عليهم.

فينص القانون الدولي الإنساني على أن الصحفيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في النزاعات المسلحة يجب احترامهم وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد، ويؤمن القانون الدولي الإنساني للصحفيين المدنيين الحماية نفسها المكفولة للمدنيين.

وتضمن اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 الحماية للصحفيين وتكفل حمايتهم، والذي ورد في المادة (79) و (52) من البروتوكول الإضافي الأول، وكذلك يعتبر ما يتعرض له الصحفيون من انتهاكات جسيمة جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية حسب ما جاء في المادة 7 و8 من ميثاق روما (النظام الأساسي لمحكمة الجنائية الدولية) لعام 1998.

ويؤرخ إلى عملية اغتيال الكاتب الفلسطيني الشهير غسان كنفاني، بأول حادثة استهداف إسرائيلي مباشر لصحفي فلسطيني، بعد تفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب العاصمة اللبنانية بيروت في الثامن من شهر يوليو لعام 1972، وتبع ذلك بنحو 100 يوم، عملية اغتيال ثانية للصحفي وائل زعيتر، وصولاً إلى اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة بالحادي عشر من مايو المنصرم.

وفي سياق المخاطر المميتة التي يعمل في ظلها الصحفي الفلسطيني، يتحدث مدير مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، سليمان بشارات قائلاً: “يتعرض الصحفيين ليس فقط للاستهداف المباشر، بل عرقلة العمل والاعتقال على خلفية العمل الصحفي، وهذا بحد ذاته أيضاً يمثل انتهاكات، أو يجعل من الصحفي أيضاً طرفاً مستهدفاً وليس ناقلاً للحدث”.

ويشير بشارات خلال حديثه لمجلة الفلق “تحليل لعمليات الاستهداف ضد الصحفيين تبرز بشكل واضح أن هناك مبدأ التحييد للصحفيين الميدانيين بهدف تنفيذ أعمال من قبل قوات الاحتلال لا يرغب بتوثيقها، وهو ما يعزز أن يكون الاستهداف للصحفيين مخطط له، لخلق نوع من الخوف ومنعهم من ممارسة عملهم بالشكل الصحيح”.

وتجدر الإشارة إلى إعلان كل من الاتحاد الدولي للصحفيين ونقابة الصحفيين الفلسطينيين والمركز الدولي للعدالة للفلسطينيين “ICIP”، عن تقديم شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية يتهمون فيها الاحتلال بارتكاب جرائم ضد الصحفيين الأمر الذي قد يؤدي إلى تحقيق رسمي ومحاكمة.

وأوضحت الشكوى المرفوعة أن الاستهداف الممنهج للصحفيين الفلسطينيين نيابة عن أربعة صحفيين وهم: أحمد أبو حسين، وياسر مرتجى، ومعاذ عمارنة، ونضال اشتية، الذين استشهدوا أو شوهوا على أيدي قناصة جيش الاحتلال أثناء تغطيتهم لمسيرات سلمية، وجميعهم كانوا يرتدون سترات صحافة تحمل علامة واضحة وقت إطلاق النار عليهم.

وعقب ذلك، أعلنت منظمات دولية، أواخر إبريل الماضي عن تسلم محكمة الجنايات شكوى تهدف لمحاكمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد الصحفيين، وتقاعس الاحتلال عن التحقيق في عمليات القتل التي يتعرض لها العاملون في وسائل الإعلام.

وحول الدوافع الخاصة باستهداف (إسرائيل) للموظفين، يعلق الإعلامي محمود هنية: “الاحتلال منذ أن جاء إلى فلسطين قبل أكثر من 7 عقود لا يحمل إلا هدفاً واحد، قتل الإنسان الفلسطيني وتشريده عن أرضه ووطنه، ثم إحلال المستوطن بدلاً منه”.

ويضيف هنية لـمجلة الفلق: “ليس بالأمر الغريب أن يستهدف الاحتلال المعلم الفلسطيني أو الطبيب والكادر الصحي، لأن ذلك ينسجم مع الهدف الذي جاء لأجله، ولكن الاحتلال يتعمد استهداف طاقم الموظفين في بعض المجالات كالتعليم والصحة مثلاً سعياً منه لإضعاف المجتمع الفلسطيني من الداخل وزيادة الضغط عليه”.

ويؤكد هنية أن استهداف الاحتلال للصحفيين والمؤسسات الإعلامية على وجه الخصوص، يأتي في سياق منهج وسياسية مستمرة عند الاحتلال لمنع أصحاب “السلطة الرابعة” من فضح جرائم دولة الاحتلال ضد الإنسان والحجر والشجر، وطمس الحقائق وتشويهها قبل أن تصل إلى الرأي العام.

وهنا يبقى السؤال مشروعاً، هل ستتحرك الجهات الدولية المعنية بتوفير الحماية للصحفيين، نحو محاسبة الاحتلال عن انتهاكاته والذي لا يتردد بملاحقة أو قتل الصحفيين على الهواء مباشرة، أم ستبقى تلك الشكاوى حبيسة الأدراج، فيفعل الاحتلال ما يشاء دون حسيبٍ أو رقيب.

العدد الأخير العدد الثالث والعشرين بعد المئة ثقافة وفكر سياسة

عن الكاتب

عبد الرحمن محمود