سبعة أسرار في حياة “تشارلز ديكنز” صاغت إبداعاته.[1]

كتب بواسطة دينا البرديني

 صدر في الأسواق كتاب “غموض تشارلز ديكنز” The Mystery of Charles Dickens لمؤلفه أ. ن. ويلسون A.N. Wilson، وفيه يسلط المؤلف الضوء على الوجه الآخر لشخصية ديكنز، والأسرار التي كانت تعج بها حياته، والتي كان لها أعظم الأثر في صياغة مشواره الإبداعي كأيقونة من أيقونات الأدب الإنجليزي.

الكاتب: يسندا جراهام  YSENDA MAXTONE GRAHAM

المصدر: صحيفة ديلي ميل البريطانية- يونيو 2020

ترجمة: دينا البرديني

شأنها شأن كل قصص الغموض المثيرة، تبدأ تلك القصة الواقعية بمشهد موت. ففي يوم الأربعاء، السادس من يونيو عام 1870، استقل تشارلز ديكنز، البالغ من العمر 58 عاماً، القطار المتجه إلى بيكهام Peckham في طريقه للقاء “نيللي”، حبيبته البالغة من العمر 31 عاماً، بعد أن كان قد أعلم أصدقائه بأنه في الطريق للقائهم قريباً في لندن. وخلال زيارته لها ما لبث أن هاجمته نوبة صرع شرسة أفقدته الوعي. ولكن في ذلك الوقت، لم تكن ملابسات سقوط تشارلز ديكنز، ذلك الصرح الأدبي العظيم، بالأمر الذي يمكن استساغته بسهولة. هكذا استهل “ويلسون” Wilson A.N. كتابه الشيق الذي يتقصى فيه عن سبعة أسرار في حياة تشارلز ديكنز- ذلك الرجل المهووس بالكتمان وإخفاء الأسرار- حسب مؤلف الكتاب.

تمكنت “نيللي” من وضع حبيبها الفاقد للوعي في عربة وإيصاله إلى منزل العائلة في “جاد هيل” Gad Hill. لم تكن “كيت”، زوجة ديكنز، في المنزل إذ كانت قد أضحت منذ زمن بعيد كم مهمل في حياته، فبعد أن أنجبت له عشرة أطفال، كانت قد فقدت جمالها وتحولت إلى امرأة بائسة سمينة تعاني من تنمر زوجها المستمر حتى طلقها وأرسلها لتعيش في بلدة “كامدن” Camden في لندن، باذلاً قصارى جهده لاستصدار شهادة موّثقة تفيد باختلالها العقلي، كما منع أولادهما من زيارتها. كانت شقيقة “كيت” تتولى إدارة منزل العائلة، ولم يكن لديها أدنى علم بوجود “نيللي” في حياة ديكنز أو عن قيام الأخير بالتكفل بنفقاتها المعيشية.

في اليوم التالي، توفي ديكنز، وكان مشهد وفاته كلاسيكياً متناغماً مع حقبة العصر الفيكتوري، إذ توفي محاطاً بأطفاله، وبحضور رسام شهير أتى خصيصاً لتسجيل ذلك المشهد المثالي، كما أرسل عميد جامعة ويستمينستر Westminster  رسالة يعرض فيها أن يُدفن ديكنز في دير ويستمينستر آبيWestminster Abbey ، وهو ما يعد امتيازاً شرفياً نادر الحدوث.

ولكن، ترى ما الظروف التي صاغت شخصية تشارلز ديكنز، ذلك الداعي إلى تمكين الخير في مواجهة الشر، المنتصر للضعفاء المنسحقين بقسوة تحت وطأة منظومة القرن التاسع عشر، ذلك المتنمر العنيف مدمن الحيل والألاعيب في الوقت ذاته.

إنها تلك “الشخصية المنقسمة” لتشارلز ديكنز التي يسعى المؤلف بعبقرية فذة إلى استفزازها ومن ثم اكتشاف ملامحها عن كثب من خلال سبعة أسرار: علاقته الغرامية ب “نيللي”، طفولته التعسة، زيجته القاسية، أعماله الخيرية المحمومة، شغفة بالقراءة للعامة، عمله الأخير “إدوين دروود Edwin Drood” الذي لم يمهله الموت الوقت الكافي لإتمامه، والذي كان على ما يبدو السبب في التعجيل بوفاته، وأخيراً اللغز الأكبر الذي يكمن في شخصيته التي يُستعصي سبر أغوارها.

ماضي مؤلم يفرض نفسه:

دون قصد، وخلال لعبة عائلية في كريسماس عام 1869، أفصح ديكنز عن مكنونات عقله الباطن حينما صاح “مصنع وارين”، ويذكر ابنه كيف بدا وجه والده حينما نطق تلك الكلمات، إذ “كانت هناك لمعة غريبة في عينيه وتهدُّج غير معتاد في صوته، تلك الحادثة تركت أثرها الذي لم يفارق ذهني لزمن طويل”.

كانت طفولة ديكنز مأساوية، وقد سعى طوال حياته إلى إخفاءها وإدماجها في نسيج رواياته حتى ظن بأنها اختفت بلا أثر، كما ظن ديكنز أن وضعه كرب أسرة من الطبقة فوق المتوسطة، حظي أفرادها بامتيازات اجتماعية عدة، يمكن أن يطغى على ذكريات طفولته المؤلمة. ففي عمر الثانية عشر، قامت والدته بإرساله للعمل في مصنع “وارين” للطلاء Warren’s Blacking Factory عشر ساعات يومياً، بينما كان والده قابعاً في السجن. سببت تلك التجربة إحساساً عميقاً بالإهانة في نفس الصغير، لم يتمكن الزمن من طمسه. ولكن، وكما يؤكد المؤلف، كان هذا الظلام هو البوتقة التي نتج عنها كل ما نحتفي به الآن من أعمال إبداعية، فلو كان ديكنز خريجاً ناجحاً من إحدى الجامعات المرموقة لم يكن ليطل علينا ذلك المبدع الذي طالما أمتعنا بأعماله.

كان ديكنز مدفوعاً بشكل قوي إلى كتابة رواياته من خلال تجربته المريعة في عمالة الأطفال وما نتج عنها من كم هائل من المشاعر المضطربة، فوفق مؤلف الكتاب، كانت تلك المصانع مقراً للوحشية والقسوة ومرتعاً للأمراض والأوبئة والموت، كما كانت مصدراً لثروة الإمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت. كان دخول ديكنز المبكر معترك الحياة في مدن العصر الفيكتوري، بآلياتها القاسية، هو أهم ما صاغ طفولته وحدد ملاحمها.

ويشير الكاتب إلى أن طفولة ديكنز القاسية كانت وراء معاملته المزرية لزوجته “كيت”، إذ “كان يعاقبها كما كان يتمنى أن يعاقب والدته”. وقد بلغت قسوته في معاملتها حداً جعل الناشرين يمتنعون عن زيارته في منزله لعدم قدرتهم على احتمال ذلك الكم من القسوة، إذ كان لا يتورع عن توبيخها وتعنيفها أمامهم. أيضاً فيما يخص أعماله الخيرية، كان ديكنز كتلة من التناقضات، فقد قام بأعمال خيرية لا حصر لها لمساعدة المستضعفين في المجتمع، كقيامه على سبيل المثال بتأسيس ملجأ لإغاثة وإعادة تأهيل النساء في شيفردز بوش Shepherd’s Bush، إلا أنه كان في الوقت نفسه من أشد المؤيدين لتنفيذ أحكام الإعدام شنقاً بصورة علنية وكان يجد متعة حقيقية في متابعتها، كما أنه كان من المطالبين بتشديد العقوبات في السجون.

صراع داخلي يأبى الاستكانة:

أيضا، من ملامح الغموض التي اكتنفت حياة ديكنز، إصراره العميق على القراءة للعامة، وشغفه بإعادة تمثيل مشهد محدد من روايته أوليفر تويست Oliver Twist  مراراً وتكراراً ، ذلك المشهد المروِّع الذي يقوم فيه “بيل سايكس” بقتل حبيبته “نانسي”. غالباً ما كانت تجهده مثل هذه القراءات إلى الحد الذي يجعله يستلقي في الكواليس ملتقطاً أنفاسه بصعوبة. إنه لأمر غامض ولكنه يلقي الضوء على معاناة ديكنز صراعاً داخلياً قوياً. يقول مؤلف الكتاب: “كان ديكنز مهووساً بتمزيق نفسه إلى أشلاء”، وكان كل ذلك نابعا من حاجة نفسه المعذبة المنقسمة إلى إيجاد متنفس.

تأتي شخصيات ديكنز الخيالية كنتاج لبركان ثائر من التناقض وتأنيب الذات، وكان يقين ديكنز بأن “نيللي” ستواصل حياتها بعد رحيله هو المحرك لذلك الإعصار الخيالي الذي بنى عليه ديكنز أحداث روايته الأخيرة “إدوين دروود” التي لم يتسنى له إنهائها، والتي تدور أحداثها في إطار من الجريمة والقتل. بالفعل واصلت “نيللي” حياتها بعد رحيل ديكنز وتزوجت رجل دين وأدارا معا مدرسة في مدينة “مارجيت Margate ” في بريطانيا.

للكتاب خاتمة مؤثرة يسرد فيها المؤلف تجربته الخاصة البائسة في طفولته، إذ عانى خلال دراسته في مدرسة إعدادية للبنين، في نهاية خمسينيات القرن الماضي، من إدارتها من قِبل بعض المنحرفين أخلاقياً. وكانت قراءته لأعمال ديكنز بمثابة طوق النجاة الذي ساعده على وضع هؤلاء في حجمهم الحقيقي ورؤيتهم مجرد شخصيات كوميدية منفِّرة، وليس كونها شخصيات مخيفة ومروعة كما كان يعتقد.

“سيظل ديكنز خالداً” لقدرته الاستثنائية على فهم الطفل النائم داخل كلّ منا والقابع هناك إلى يوم نموت، وفي هذا الكتاب تمكن “ويلسون” من الكشف عن الطفل البائس القابع داخل تشارلز ديكنز.


[1]رابط المقال على موقع ديلي ميل:

https://www.dailymail.co.uk/home/books/article-8389311/A-tale-two-Dickenses-author-champion-oppressed-home-cruel-bully.html

أدب العدد الأخير العدد الثالث والعشرين بعد المئة ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

دينا البرديني