قراءة جانبية
قراءة كتاب مدخل جانبي إلى البيت
أمل السعيدي
روايات للنشر ٢٠٢١ الشارقة
أن ندرك تمامًا أننا لسنا في حاجة لبعضنا، لكننا نبقى رغم ذلك، أليس هذا هو الحب؟ ص٣١
اجتياز المخاوف:
يطالع هذا الكتاب قارئه بعنوان مدخل جانبي إلى البيت، فهو ليس مدخل البيت الرئيسي، بل مدخل مختلف، جانبي، لكن لننتبه إلى أن المدخل الجانبي يجعل الداخل وسط البيت مباشرة بلا مقدمات هندسية عمرانية، ويشبه الأمر أمر القطع التشريحي حيث القطع التام والقطع الجانبي الذي يتيح للمرء رؤية أكثر تفصيلًا لموضوعه، كذلك في هذا العمل نتعرف عبر هذا المدخل الجانبي بشكل تفصيلي على البيت، وما هو البيت أصلًا وأين هو بالتحديد.
يخالف هذا الكتاب توقعات قارئه، خاصة إن لم يكن قد قرأ لكاتبته من قبل، لذلك فإن تجربة قراءته يمكن أن تغدو نوعًا من المغامرة، والمقامرة بالوقت والمشاعر إن شئنا، بدءًا من أسلوبيته المختلفة والمغايرة، وقد تنتاب قارئه ما ينتاب قارئ رواية عوليس لجيمس جويس لأول مرة، حيث يعترف المرء بالبراعة الأسلوبية لكنه يعجز، وهو المتعود على التصنيف والرؤية الكلية، عن تصنيف عوليس ورؤيته بشكل كامل، وإذا ما سُئل عن ماذا تدور الرواية؟ فإنه لن يجد تصنيفًا مباشرًا وسهلًا، كحالة الرقيب الإيرلندي الذي منع الرواية إبّان صدورها، ورغم أن زمن عوليس عبارة عن يوم واحد في دبلن العاصمة لكنها رواية عن كل شيء، وليست عن إيرلندا وحسب.
هذا الكتاب كذلك قد يبدو عن البيت لكنه عن أشياء وجراح ومحاولات شفاء كثيرة، مكتوب بأسلوب معاصر، راهن وحار، وهو متعذر سلفًا على التصنيف السهل والمريح، نص شائك، عنيد، وخارج بإصرار عن أي تنميط؛ قد تراه سوداويًا وانهزاميًا لكنه يعترف بذلك سلفًا ولا يراوغك:
قد يظن أحدهم أنني مثال جيد للشخص الانهزامي، وأنا كذلك بالفعل لا أريد أن أنكر، ولا أن أدافع عن أصالة حالتي، وجدّيتها. ص٧٥
أو قد تراه كتابًا عن الخوف، لكنه كذلك يكتب ذلك مسبقًا:
لا شيء يخصّني سوى الخوف، لا شيء بالمرة سوى الخوف. ص٧٤
أو قد تراه نصا كئيبًا نتاج كآبة نفسية مستعصية وطوعية وتحتفي باكتئابها، لكنه يتقدمك سلفًا:
صرت حبيسة حالة ذهان، أرى فيها الأشياء تمتصني قبل أن يحدث هذا حقًا. ص٢٨
و: العالم الذي صار يحتفي بالكآبة، لكنها بالنسبة لي حقيقتي التي لا أستطيع الفرار منها. ص٧٤
هذه الاقتباسات المتتابعة لا تريد أن تكتفي بقول إن النص متقدم بخطوات على محاولات اتهامه وحسب، بل أنه صادق كليًّا مع ذاته إلى درجة مربكة لأي محاولة احتواء، إلى الحد الذي قد يتردد في قراءته كثير من القراء الذين لا يودون خوض مغامرة قرائية كاشفة، ذلك أنه نص يظهر كل خباياه وبالتالي يظهر خبايا قارئه في نفس الوقت، وكتابته، كما يؤكد ذلك النص نفسه ص٧٥، وليدة حاجة ملحة ماسّة، كاعتراف ضروري، شبه تطهيري، ومن أجل ذلك الوجود يحطم النص أغلب، إن لم يكن كل، الحواجز والموانع والسدود المعتادة.
إنه نص يكتب المخاوف، كلها أيًا كانت تلك المخاوف، وهو يتجاوز الحسابات المعتادة للكاتب العادي، مراهنًا على صدقه وحسب:
الحقيقة أيضًا كلمة كبيرة، كلمة يتوخى الكثيرون استخدامها، فالنسبية والتردد والهرب روح الحياة التي نعيشها اليوم، لكن ما ضر العالم لو كان لي حقيقة واحدة، أنني مهشّمة ومقصيّة ويعاد تدويري كل يوم في أيام باهتة لا تقتصد في الدفع بي كل لحظة مسافة أقرب من الموت. ص٧٥
بمواجهة الخوف ينصرف الخوف، وبتحرر النص من هواجسه والرهان الاجتماعي على الأحكام الخارجية “للآخر”، يصل النص بطريقة ما الى خلاصه الذاتي، يكتب شعوره بصدق ولا يغاور ولا يضمر ولا يدّعي:
بدا لي العالم باهتًا، كل هذه البراري التي أقطعها والجبال التي أمر عليها أصدق من كل الأوهام الخضراء، هنا الدنيا صافية، وبلادي ليست قضية عل الإطلاق. ص٢٤
حتى الموت المخيف يغدو مستأنسًا أمام نص حرّ إلى هذه الدرجة:
قبل أن أنام أفكر في الحرية التي سيعيشها جسدي إذا مت، أفكر بأسهل طرق الانتحار. ص٧٣
لقد فزت أخيرًا بشعور الجثة في الطريق. ص٧٠
الموضوع:
يبقى سؤال الماهية سؤالا بسيطًا ومشروعًا، فعن أي شيء هذا النص، وما هو موضوعه الرئيسي:
لا أريد أن أبدًا أن أبخس الناس حقهم أو أن أكتب عنهم كما لو كانوا موضوعات. لكنني الموضوع هنا. ص٣٤
الذات هي موضوع العمل، “بيت” القصيد، وهكذا يصبح القارئ الذي دخل البيت من مدخله الجانبي وجهًا لوجه أمام المرآة الرئيسية، بما أن كل شيء في الحياة ينعكس في هذه الذات، من الطفولة القديمة في البيت، إلى لحظته الراهنة، كل الحب والصداقات والمخاوف والتأملات:
لن نعود صديقات لأن شيئًا لا يبقى، لكنني متأكدة أننا سنكون مستعدات لهذا الموقف حينها، لن نكون حزينات، سيكون الوقت المناسب. ص٣١
يتقدم النص برؤية صافية، نقيّة، إلى الحد الذي تتخلص فيه المرئيات من ضبابيتها المعتادة، بتفاصيل حادة، إذا استعرنا لغة بصرية، والنص حين يتخذ من الذات موضوعه، فإنه يحاول تخليصها هي الأخرى من شباكها:
كل الأشياء لها وقع سوريالي في نفسي أصارع أصغر الأشياء، والأكثر قسوة أنني أصارع مصارعتي هذه. ص٧٤
كل مصارعة تتطلب قوة، وقوة هذا النص تتأتى له ببساطة من طين المشاعر:
أي رادع عقلي ليس مفيدًا على الإطلاق فأنا من طين المشاعر معجونة بها ولا يمكن لأي من أجهزة هذا الكون أن يفيد في حالتي هذه. ص٧٣
هكذا يعاد اختبار كل المشاعر وتأملها، بما أنها ليست مسلّمات مسبقة بأي شكل:
أليس الحب والكراهية وجهان لعملة واحدة كما تقول كل الدراسات التافهة لطبيعة سلوكنا، آه طبيعة سلوكنا. كما لو أن هذا محدد ومفهوم ويمكن وضعه في درج، مثل قطعة ملابس أخرى. أو فردة حذاء، أو سندويشة مؤجلة. كم أكره هذا العالم. ص٦٦
كره العالم يتلو محاولة العالم تنميط المشاعر، سجن المشاعر في سجن النمط، وهذه إشارة معبرة عن تأسيس النص، عن المشاعر التي وقفت خلف نص متنوع نافر على التصنيف والتنميط بشكل متعمد. وبهذا المستوى والزاوية من الرؤية يكون للأشياء ظهور مختلف ومغاير، من أبسطها حتى الحب:
لا أحب الحب يا حبيبي أحبك أنت. ص٧٤
بتحرر النص من هواجسه ومخاوفه الأولية، يتحرر القارئ كذلك، وحتى إن بدا هذا التجريد مغاليًا في تجريديته لكن لديه ما يقدمه من رؤية جديدة سابر وصادقة، حتى للجمال الذي يبرز بجلاء جراء التجريد.
قد يقال لو أخذت مثل هذه المشاعر القوية والصادقة درجة إضافية وتحولت إلى خلق فني، خلق بشخصيات وأحداث سردية لأخذت طابعًا فنيّا ورمزيًّا أقوى، وأبقى، لكن كل تلك التنظيرات لا تهم الآن، ذلك أن النص منشغل أكثر بصدقه الذاتي، كما أن الزمان والمكان لم يعودّاننا أن يكونا على كيفنا ومزاجنا ورؤيتنا:
كنت أعيش فيما يشبه الواقع المتقطّع. ص١٩
أخيرًا هل غاب البيت المقصود في خضم هذا النص الذاتي، أم تحول البيت نفسه لمدخل جانبي، غير متوقع، إلى بيت آخر؟ هذا ما يمكن لكل قارئ أن يتعرف عليه بنفسه.
كتاب مدخل جانبي إلى البيت هو كتابة مغايرة، مختلفة ولذلك فهي تفتح أفقًا جديدًا للكتابة الحيوية، الأقرب والأصدق، وتتبنى اختلافها هذا برؤية ووعي ذاتي كاف، وبتجرد مخلص للكتابة الصادقة بوصفها مسبرًا فنيّا للأعماق الإنسانية الغامضة، وسفرًا مفتوحًا، وليست مجرّد تزويق شكلاني على هامش الوجود كما قال مرة إدوارد سعيد حين كان يتحدث مرة عن المنزل المؤقت في الأنسنة والديمقراطية:
لسنا مخربشين ولا صغار الكتبة وإنما عقول تتحول أفعالها إلى جزء من التاريخ البشري الشامل الذي يصنع حولنا…