“يمنى العيد، من الماركسية إلى البنيوية”

كتب بواسطة يوسف المرحمي

مراجعة في كتاب النقد الغربي والنقد العربي

         مما لا يدع مجالا للشك أن الأدب قد عرف تغييرات كثيرة ومتباينة، إن على مستوى الشكل أو المضمون، وذلك بفعل تغيُّر العصور والأزمنة التي تحمل بدورها أفكارا ومبادئَ تعبِّر عن رؤى أصحابها. فكان ذلك سبيلا إلى تعدُّد المقاربات والمناهج التي من شأنها أن تستنطق العمل الإبداعي، وتُبرز مواطنَ ضعفِه من قوته، ممارسةً عليه العملية النقدية طبقا للمفاهيم الإجرائية المتعددة، التي تُعدُّ أداة ووسيلة لممارسة النقد. غير أن هناك من يمارس نقدا من نوع آخر مُتعلِّق بنقد النقد، وهو من أهم القضايا التي أثارتها النظرية الأدبية. ولمعرفة ذلك أكثر نُسلِّط الضوء على يمنى العيد التي كانت إحدى النماذج التي تناولها محمد ولد بوعليبة من خلال كتابه “النقد الغربي والنقد العربي”، وقد قال موضحا منهجه في ذلك: “سنحاول أن نوضح أن هذه الناقدة تناولت البنيوية انطلاقا من مواقفها الماركسية، ولنا أن نتساءل عن النتائج التي سيثمر عنها التقاء فكرين قد يختلفان إلى حد التناقض”(1). فيمنى العيد من النقاد الذين استقبلوا النقد الغربي وكان لها الفضل في بلورة الماركسية في الوطن العربي، وفي وقت لاحق في تبني البنيوية من منظور ماركس، ولعل أعمال الثقافة الوطنية اللبنانية هي ميلاد فجر انتقال يمنى العيد من الماركسية إلى البنيوية. غير أن السؤال المطروح هو إلى أي حد استطاعت يمنى العيد أن تقف عند حدود البنيوية ومفاهيمها الإجرائية؟ وهل حققت نقدا موضوعيا أم خرجت عن البنيوية لتشتغل بمناهج أخرى؟

لماذا النقد الماركسي؟

تتمسك يمنى العيد بالمبادئ الماركسية في نقدها وهي على وعي تام باشتغالها على البنيوية، فتعتَبر بذلك أن النص يستمد قوته أثناء تحليله عن طريق ربطه بالظروف الاجتماعية، أي أن كل نتاج أدبي ما هو إلا انعكاس لظروف سوسيوثقافية، وهي الفكرة التي تبرز بجلاء نظرية الانعكاس في النقد الأدبي. وهذه الرؤية رافقت آراء يمنى العيد عبر دراساتها النقدية، ولم تستطع أن تتخلص منها، إلى حد أنها ستسعى لدمج البنيوية بالمنهج الاجتماعي، ويوضح ولد بوعليبة هذا بقوله:” إن يمنى العيد تريد أن تبرز بنية النص لتوضح العلاقة فيما بينها وبين الثقافة المسيطرة فالمبدأ الأساسي الذي ستطوره في باقي دراساتها النقدية هو وجود علاقة بين التعبير الأدبي والظروف الاجتماعية”.(2)

صحيح أن الأدب قد يُقرأ انطلاقا من مفهومي الفهم والتفسير باعتبارهما مفهومين من مفاهيم البنيوية التكوينية، وهذه مقاربة أخرى تنطلق من فهم النص وتحليل بنياته وتنتهي بربطه وتفسيره انطلاقا من الواقع الاجتماعي، غير أنه من غير المقبول أن ينزلق الناقد في اشتغاله من منهج إلى منهج آخر، وهو ما يبرزه ولد بوعليبة من كون الناقدة توسلت إلى مفاهيم البنيوية، إلا أنها سرعان ما بحثت عن منفذ لآخر لفهم النص أكثر.

نحو تطبيق منهجي للبنيوية:

وبمحاولة من تبنيها للبنيوية تطرح يمنى العيد تصورها الجديد للنقد معتبرة أن النقد ليس قراءة ينتج عنها نص موازي للنص الإبداعي فحسب، ولا هو تقديم معطياته النصية انطلاقا من العوامل الخارجية، بل إنَّ النقد ممارسة وإنتاج، تقول: “أن نمارس النقد معناه أن نشارك في دورة الحياة لثقافتنا، ننتج حياة هذه الثقافة لتنتج بدورها حياة أفضل”. (3)

ولتتبنى يمنى العيد البنيوية عادت إلى تبني المفاهيم اللسانية لدى سوسير من أجل معرفة النص وخصائصه، وفي هذا الصدد تقف عند بنية النص كونها بنية موحدة، متوسلة بذلك لمجموعة من المفاهيم التي أوردها منظرو النقد البنيوي، فناقدتنا في هذا الصدد تتحدث عن اشتغال هذه المفاهيم: البنية العميقة و البنية السطحية، والمحور الأفقي والمحور العمودي، وهي مفاهيم أساسية لابد منها في هذا الاتجاه “إلا أن يمنى العيد تريد أن تجري تطبيقا نقديا يقوم على البنيوية بهذا الحد الأدنى من التركيز على تعريفات معقدة حيث إن الجمهور الذي تتوجه إليه لا ينتمي إلى هذا المناخ الثقافي الذي تعود إليه المفاهيم وكان من المتوقع  أن تقترح الناقدة مبادئ أكثر منهجية”.(4) وكأنه بذلك يريد أن يقول إن البيئة العربية في الوقت الذي ظهرت فيه البنيوية لم تكن لتستجيب لمفاهيم النقد البنيوي، على أساس أن الوطن العربي يحتاج إلى قراءة تتجاوز البنيوية إلى تفسير الواقع الاجتماعي في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في الفترة ذاتها.

لذلك سعت متوسلة إلى مفاهيم كبار المنظرين للنقد البنيوي، محاولة البحث عن مكامن ربط المجتمع بالنص، الشيء الذي يجعلها موفقة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تتجاوز هذه المفاهيم، لتقع في الخلط وخلق الغموض.

النص المسرحي (قصة أوديب)

تناولت يمنى العيد قصة أوديب على أنها نص مكتوب على مستويين، مستوى الحكاية، ومستوى القول، وتقسم القصة إلى متتاليات وتبدأها بنهاية القصة، لأن التسلسل السببي في نظرها هو الذي يخلق الإيهام الفني للواقع، إلا أنها تنتقد هذا التحليل بدعوى أنه لا يرى أهمية الموقع الذي ينظم التسلسل.    

    وبما أنها جعلت من النص المسرحي نصا سرديا فهذا ما عيب عليها، حيث إن النص المسرحي مختلف تماما عن المسرح المجسد فوق الخشبة، وأكثر من هذا تعتبر النص قصة أي أنها تخلط بين المسرح والقصة، “فالمسرح وسيلة للقص لكنه ليس نصا سرديا”. (5) وكما تأخذ على تودوروف البعد الأساسي للزمن المسرحي فهي تعدّ خارج المحاكاة. مما يعني أن الزمن الماضي والمستقبل خارج الخشبة الأمر الذي لا يمكن التوصل إليه في أوديب نحو مقتل الأب، كما تتحدث يمنى العيد عن مسألة الراوي الذي يختفي في المسرح اعتبارا منها أن المسرح ليس فيه راوٍ.

النص الروائي (موسم الهجرة إلى مدن الشمال)

أما فيما يخص النص الروائي فقد تابع بوعليبة دراسة الناقدة لرواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وأوضحَ أن أول عنصر لجأت إليه الناقدة هو عنصر الزمن (زمن السرد زمن الأحداث) ماضية في تقديم الرواية على أساس التقطيع الزمني، فخلُصت إلى زمن امتلاك الوطن وزمن الأحداث وزمن السرد، في حين أن المتلقي يعرف أن الأزمنة تتأرجح بين أزمنة السرد وأزمنة الأحداث.

فهي إذن تخلط بين زمن السرد ومقام السرد، وهو ما يحيل على أن “يمنى العيد لم تتوصل إلى الاستفادة من مكتسبات البنيوية، وكأن يمنى العيد لا تستطيع الحركة بسب بحثها عن معنى أو حقيقة النص التي تريد إبرازها ( الشعور بالوطن)” وهو الأمر الذي حذا بالناقدة إلى خلط أو قلب بعض المفاهيم خاصة عندما تتحدث عن النحو عند تشومسكي، الذي يستعمل البنية العميقة وينطبق عليها المكون الدلالي، في حين ينطبق المكون الصوتي على البنية السطحية، ولذلك ينطلق من البنية العميقة إلى البنية السطحية، أما يمنى العيد فتنطلق من العكس، دون أن توضح معنى البنيتين ولا كيفية تطبيقها.(6)

ورغم سعي يمنى العيد إلى تطبيق البنيوية على النص الأدبي إلا أنها تتساءل عما إذا كان باستطاعة المثقف قبول عزل النص الذي يؤدي إلى التحليل البنيوي، وهي إشارة واضحة من الناقدة إلى أنها لم تستطع التملص من النظرية الماركسية، فتسعى بذلك إلى تجاوز البنيوية باعتبارِها مرحلة أولى، إلى الانتقال لمرحلة ثانية هي ربط النص بالواقع الاجتماعي، ومن أجل حصول هذا الهدف انطلقت من اعتمادها لمفاهيم سوسير حين عدّ أن اللغة ذات طابع اجتماعي. فما دامت اللغة تشتغل داخل النص فإن هذه اللغة تفعِّل هذا الاجتماعي داخل النص على حد تعبير الناقدة، لكن إذا كانت تعدّ أن هذا هو المدخل الذي يجعلها تربط الاجتماعي بالنص، فإن سوسير يعني بالاجتماعي أن اللغة عقد مبرم بين أفراد داخل جماعة، في حين أن الكلام فعل فردي، وهنا تخلط الناقدة بين مفهومي اللغة-كلام، وهذا يحيلنا كما أشرنا سابقا أن الماركسية أثرت في الناقدة إلى حد أنها تقرأ المفاهيم من منظور ماركسي، يقول ولد بوعليبة:” واجهت يمنى العيد البنيوية انطلاقا من افتراضات ماركسية وبذلك لم تستطع الانتماء إلى البنيوية، هذا ما تدل عليه تساؤلاتها”(7).  وأملا في ربط النص بالمجتمع جعلها تتبنى توجه باختين في اعتبار الكلام -الذي يعبر عنه بالتلفظ- فعل اجتماعي لارتباطه بظروف عملية الاتصال التي لا تنفصل عن البُنى الاجتماعية، وهكذا تتبنى يمنى العيد فكر باختين، الذي يَنِمُّ على أن كل تعبير يوجد ضمن سياق اجتماعي، تقول في هذا الصدد: “إننا وفي نطاق العلاقات الاجتماعية، نحوِّل الكلمات إلى علامات نصوغ بها قيما دلالية تعبر عن حاجاتنا وعن مصالحنا وتطلعاتنا … فالتركيب هو موضوع تداولي تخاطبي”(8). وهذا التوجه هو ما يشير إليه باختين من كون السياق الخاص الذي يحدثه التعبير هو الحوارية التي تدل على دراسة الخطابات الأخرى. إلا أن التركيب عند يمنى العيد مفهوم يتميز بالثبات، في حين يعدّه باختين قابلا للتطور، فتقع الناقدة في اختلاف مع باختين حول ثبات وتغيُّر مفهوم التركيب الذي يؤدي إلى الصياغة.

قصيدة الزمن لأدونيس:

ينتقل الناقد محمد ولد بوعليبة من رهان الناقدة في ربطها النص بالواقع الاجتماعي إلى تحديد مفاهيم نقدية أخرى، أبرزها الشعرية والأدبية، لكن الناقد يشير منذ البداية إلى أن هناك عدم فهم جزئي أو كلي لنظرية تودوروف، حيث تخلط يمنى العيد بين الأدبية والشعرية، والأدب والشعر، فيعزي بوعلببة هذا الخلط إلى أن الناقدة لم تستطع مقابلة هذه العبارات كونها تمكِّن من التعبير بشكل مرضي عن الواقع الذي تشير إليه الكلمات الأصلية (Poétique_  _ Littérarité_ poésie_ poéticité )

وفي الواقع لم نستطع تمييز هذه العلة، غير أن الناقدة كي توضح مفهومها للشعرية عمدت إلى تحليل قصيدة “الزمن” لأدونيس لتخلص في الأخير حسب بوعليبة:” تحليل يمنى العيد … لها منطلقان أحدهما صواتي والآخر دلالي ويرتبط هذان المنطلقان فيما بينهما لإعطاء تأويل شامل للقصيدة من جهة ولالتماس ما أسميناه الشعرية في القصيدة من جهة أخرى، تبدو إذن هذه الشعرية وكأنها نتيجة تفاعل بين مستويات القصيدة المتعددة. (9)، إذن فيمنى العيد استخلصت هذه المستويات لبيان أهمية الموسيقى-الإيقاع، في حين تتوسل إلى الانزياح انطلاقا من الاستعارة والتشبيه. وإلى الأدبية في الخطاب أي القصة، وستركز هنا على أنواع الخطابات المستعملة. وفي دراستها لقصيدة الزمن تشير يمنى العيد أن استخلاص الوحدات النصية للقصيدة ودراستها بينها ترابط بنيوي وهو ما يمكّن القرّاء من بناء عالم خيالي، كما انطلقت أيضا لدراسة الصورة الشعرية لإبراز المعنى، بالإضافة إلى أنها تعطي توضيحات تاريخية أسطورية إلا أنها حسب ولد بوعليبة تعمم القول ولا توضح بما يتعلق أمر الأسطورة الواردة، وهكذا فإن مثل هذه القصائد حسب يمنى العيد لا يمكن دراستها إلا ككيان واحد يعكس القصائد الكلاسيكية، ووحدة تلك القصائد هي التي تمنع تماسك بنياتها الدلالية، فيذهب القارئ إلى إعادة بناء القصيدة، وفقا للمنطلق الخطابي، وهذا ما تعتبره يمنى العيد الحتمية الإبداعية للقارئ، وهو ما جعل الناقد يُسجل مفهوم الموقع عند الناقدة بحيث أن الحوار هو الفرق بين موقع الشاعر وموقع القارئ.

تركيب:

 تسعى يمنى العيد إلى التوفيق بين النص الأدبي والظروف التي أنتجته، وهو النقد الذي يسعى إليه العرب في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية، حيث إن البنيوية لم تستجب لتطلعات الجمهور باعتبارها نقدا لبنية النص وحدها، دون النظر في العوامل التي أنتجته. إلا أنها كونها ناقدة ذات مبادئ ماركسية يصعب عليها التوقف بين نظريتين. ومن خلال ذلك نسجل التأثير الكبير لنقاد النقد الغربي في فكر يمنى العيد، خاصة باختين وتودوروف، وهو تأثير جعل من الناقدة مقاربة النص من منظور أو منظورين حسب رغبتها، معرفة لبنية النص أولا، ثم تفسيره وفق ظروف خارجية، وهذا الإصرار في محاولة ربط النص بالواقع الاجتماعي يؤكد بجلاء سيطرة النقد الماركسي على الفكر النقدي ليمنى العيد، وبالرغم من ذلك فإنه لا يمكن نكران جهود يمنى العيد في بلورة النقد البنيوي في الساحة العربية النقدية، كونها من الأوائل الذي اشتغلوا عليه.

  1. ولد بوعليبة (محمد): النقد الغربي والنقد العربي، تقديم صبري حافظ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 1، 2002. ص167
  2.  المصدر نفسه ص 186
  3. العيد (يمنى): في معرفة النص، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1985 ص 5
  4. النقد الغربي والنقد العربي ص 176
  5. المصدر نفسه ص213
  6. نفسه ص 177
  7. نفسه ص 183
  8. في معرفة النص ص 69 و70

9. النقد الغربي والنقد العربي ص 193

أدب العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة سياسة

عن الكاتب

يوسف المرحمي