خابير مارياس يكتب عن الكاتب والعُزلة

كتب بواسطة أحمد الزناتي

هنا يقدّم الروائي والمترجم الإسباني الكبير خابير مارياس (1951)، تقرير حالة حول علاقة الكاتب أو الفنان عمومًا مع عصره وأعماله واستقبال الكُتاب والقُرّاء لها. مارياس حاليًا واحد من أشهر الكُتاب الإسبان على قيد الحياة، وهو مرشَّح دائم لجائزة نوبل في الأدب منذ سنوات. طالما كرّر مارياس في لقاءاته الصحفية والتليفزيونية أنّه لا يبحث عن موضوعات لرواياته، فهو يكرّر البحث والتنقيب عن الموضوعات التي تشغل باله وتدفعه للتفكير. أصدر مارياس من سنوات قليلة كتابًا غير قصصي يضمّ مجموعة من المقالات والمراجعات الأدبية، صدرتْ الترجمة الإنجليزية تحت عنوان Between Eternities، وهو عنوان إحدى مقالات، يضم الكتاب موضوعات في غاية التنوّع والثراء على الأصعدة المعرفية والتأملّية والذاتية. اخترتُ للقاريء المقالة التالية بعنوان The Isolated Writer، أنقلها تحت عنوان: عن الكاتب والعزلة.

أظن أن معظم الكتاب يميلون إلى الشعور بالعزلة أو في الواقع ينشدون العزلة، ولا سيما بعد بلوغ سن معينة. ربما لم يكن هذا حالهم في طور البداية، وعلى الأخص بين أولئك الكُتاب الذي شرعوا في الكتابة والنشر في سنّ مبكرة. في بواكير الشباب يتحمّس المرء إلى الانضواء تحت لواء جماعة أو جيل أدبي جديد ويُفترض أنه يقدم جديدًا. غالبًا ما نحمل شعورًا بالازدراء إزاء أسلافنا، وعلى الأخص من أبناء جلدتنا ومَن يكتبون بنفس لغتنا، فنتحيّز ضدهم، ونعُدّهم مغرّدين خارج السرب، وأنهم “موضة قديمة”، فاقدين أي شعور التعاطف معهم، ومسارعين إلى إقصائهم. كما أننا غالبًا ننكر، في ظلمٍ بيّن، أي قيمة لأعمالهم ونعدّها مجرد غلطة في تاريخ الأدب، مصيرها النسيان المحقق قريبًا. يقفز الكُتاب الشباب متجاوزين جيل الآباء، مستعيدين جيل “الأجداد” الذين يراهم الشباب ضعفاء لا يشكلون أي تهديد لهم، وفي حالة تراجع.

ومع ذلك فإن هذا الشعور بالصداقة الحميمة والصراع، الناجم عن كونك جزءًا من “موجة جديدة” لا يدوم طويلاً، ففي اللحظة التي يتوقف فيها الكاتب عن النظر إلى الكُتاب الآخرين من حوله، ما يلبث أن يزول عنه شعور القلق بشأن “حالة الأدب” أو “مستقبل” الأدب في بلده وفي اللغة التي يكتب بها، فيدرك أن هذا لا يعنيه كثيرًا، فضلًا عن أنها ليست مسؤوليته. بدلاً من ذلك يكرس نفسه لشيء واحد يتحتم عليه أن يكرس نفسه له، ألا وهو تأليف كتبه كما لو أنه لا توجد كتب أخرى في العالم، عند هذه اللحظة ينتابه شعور العزلة، وهو الشعور الذي يعود جزئيًا منه إلى أنه اختياره الشخصي، ويعود بعضه الآخر إلا أن الكاتب لا يملك خيارًا آخر لو أراد مواصلة في طريقة الكتابة. إلا أن هذا ليس بالطبع، جوّ العزلة المعروفة للجميع -والحقيقية للغاية- التي يعمل في كـنفها جميع الكُتاب والتي قيل عنها الكثير. إنها ببساطة الطريقة التي يختار بها الروائي قضاء أيامه، وأقول الروائي أكثر من الشاعر أو الكاتب المسرحي أو حتى كاتب المقالات، تمامًا مثلما يختار الآخرون أو يُجبرَون على قضاء أيامهم في مكتب أو مصنع محاطين بشكل دائم بأشخاص آخرين.

 الأمر، قبل أي شيء آخر، يتمثل في الحاجة إلى الشعور بأن تكون نسيج وحدك بدلاً من أن تكون مجرد عضو قابل للاستبدال داخل جيل أدبي أو جماعة أدبية، بل حتى بدلاً من أن تكون “ابن عصرك”. لا شيء يزعج الكاتب الحقيقي أكثر من أولئك النُقاد والأساتذة والمعلقين الثقافيين الذين يصرون على تصنيفه أو وضعه في سياقه أو إيجاد روابط بين عمله وبين عمل مُجايليه من الكُتاب، وذلك عبر نسبة انتمائه إلى اتجاهات أو حركات أو موضات سردية معينة، أو في وصفه بأنه “واقعي” أو “تاريخي” أو “كاتب أدبي”، وما إلى ذلك من ألوان اللغو السخيف الذي ذاع وشاع للغاية في عصرنا الأحمق، أو وصفِه بأنه مزارع في حقل “التخييل الذاتي”، وهو مفهوم سخيف آخر رائج حاليًا، أو أنه “كاتب ما بعد حداثي”، ولم أعرف ما تعنيه هذه الصفة قط، لكنها -لحسن الحظ- أمست اليوم مهجورة مُهملة.

إن ما يثير حنق الكاتب الحقيقي هو محاولات ترسيخ “وضعه” داخل التقاليد الأدبية لبلده ولغته أو إيجاد روابط بينه وبين هذا التقليد وبين التقاليد الكلاسيكية، إذ أنه يعرف أن البلد الذي وُلد فيه واللغة التي يكتب بها، برغم ما لها من أهمية بالغة، ليست إلا أمرًا ثانويًا، بل، إلى حد ما، أمرًا عرضيًا، وليد الصدفة، ذا وجهيْن. يعلم الكاتب الحقيقي أن “بروست” كان من الممكن أن يكتب بالإيطالية أو الإنجليزية، وأن “لامبيدوزا” كان الممكن أن يكتب بالإسبانية أو الألمانية، وأن “توماس مان” كان من الممكن أن يكتب بالتشيكية أو السويدية، وأن “ثربانتيس” كان من الممكن أن يكتب بالفرنسية أو البرتغالية؛ يعرف الكاتب أن اللغة ليست سوى وسيلة أو أداة، وليست غاية في حد ذاتها ولا شيئًا مقدسًا، وأنها ليست بأي حال من الأحوال أسمى شأنًا ممن يستخدمونها. إنها ليست عاملاً حاسمًا، أو ربما تكون كذلك فقط عند بعض “الكُتاب الزينة”، الذين يتوقعون من قُرائهم في اللغة الإسبانية على سبيل المثال، أن يهتفوا صارخين: عـَظَمَة! (Olé!) بعد كل عبارة قشتالية رشيقة أنيقة لا تُبارى.

لن يشكل الأمر فارقًا حاسمًا لو ألّف الكاتب بلغة شكسبير أو بلغة دانتي أو مونتاني أو هولديرلين أو كونراد أو نابوكوف أو فيتجينشتاين، بل سيتضائل الفارق لو وضع المرء في حسبانه أن الثلاثة الأخيرين بدّلوا ألسنتهم في مرحلة معينة من حياتهم واختاروا اللغة التي يريدون التعبير بها عن أنفسها.

كل هذه الأشياء تزعج الكاتب، وهو مُحقٌ في شعوره بالإنزعاج لأنه لن يتمكن من كتابة وإنهائه إلا لو كان مسكونًا بإيمان مضلّل خلاصته أن كتابَه هو الكتاب الوحيد في العالم.

سيضيع الكاتب لا محالة لو أنه رفع بصره من فوق الآلة الكاتبة أو جهاز الكمبيوتر (ما أزال حتى اليوم أستعمل الآلة الكاتبة)، ناظرًا إلى المستقبل أو الماضي ليرى عمله وقد تقلّص إلى مجرد اسم يُضاف إلى قائمة لا نهائية من الكُتب، أو لو نظر إلى الحاضر مبددًا وقته في التساؤل: كيف يحرز زملاء المهنة تقدمًا؟ وما الذي يخططون له؟ وما الذي حقّقوه وما مدى جودة إبداعهم ومدى عمقها؟ أو لو وضع أسلافه نصب عينيه، أو لو ترك نفسه فريسة لأن تستحوذ عليه الأعمال الرائعة التي كُتبت في الماضي، والأعمال التي ستكتب بلا شك بعد مروره في هذا العالم.

لهذا السبب يحتاج الكاتب إلى عزل نفسه أثناء الكتابة، وغني عن القول إن نكرر: في أثناء الكتابة فقط، لعلمه أن إيمانه، الذي أشرتُ إليه آنفًا، هو مجرد إيمان مغلوط ومؤقت، ولعلمه أنه في اللحظة التي يُنهي فيها تأليف كتابِه فيغادر الكتابُ الحجرة ليصير على مرأى ومسمع من الجميع ويُنشر، سيختفي وسط غيره من آلاف الكتب المنشورة وسيرى كتابَه مجرد قطرة في المحيط، قطرة تبذل قصارى جهدها، مثلها مثل غيرها، لأن تلفتَ انتباه الناس، وسينتاب الكاتب وقتها شعور أن كتابه لا لزوم له.

علاوة على ذلك يستحيل على أي كاتب معاصر أن يرتاح إلى فكرة الكتابة للأجيال القادمة ولا إلى فكرة البحث عن ملاذ آمن في مستقبل بعيد، مملوءًا بثقة أن الزمن واختيار عجلة الزمن الغامضة سوف تجعله كاتبًا مرموقًا في يوم في المستقبل البعيد، في حين أنه أنه لن يكون موجودًا حتى يرى ذلك اليوم.

لم تخل فكرة الكتابة للأجيال القادمة يومًا مما يبعث على السخرية والرثاء أيضًا. وعلى غرابة الفكرة إلا أنها لا تعدم جانبًا إيجابيًا لو أخذنا في الحسبان أن “عمر الأشياء” صار أقصر من أي وقت مضى، وأن الأمور صارت تمضي بسرعة مذهلة أكثر من أي وقت مضى؛ فعرض فيلم جديد أو تأليف مقطوعة موسيقية أو إصدار كتاب جديد من شأنه تحويل هذه الأشياء على الفور إلى شيء راح وانقضى؛ لا يفارقنا انطباع أن الأشياء الوحيدة الموجودة بحق هي الأشياء التي لم توجد بعد، ولكنها على وشك الوجود، ومجرد وجود شيء ما، كالفيلم الذي يمكنك رؤيته، والموسيقى التي يمكنك سماعها، والكتاب الذي يمكنك قرائته، كل ذلك يشير إلى انتهاء صلاحيتها الوشيكة ويحيلها على الفور إلى غياهب الماضي.

لقد رأينا أو سمعنا أو قرأنا هذا العمل بالفعل ونريد شيئًا جديدًا، مما يعني، بطبيعة الحال، أننا في حالة انتظار دائم. يبدو الأمر كما لو أن فكرة الصمود في وجه الزمن تنتمي إلى عصر آخر تمامًا غير عصرنا، وبالتالي فهي في متناول شكسبير ومونتيني وثربانتيس وحتى كونراد ونابوكوف، أي في متناول من حققوها عندما كانت ما تزال في طور الإمكان والتحقق، كما لو أنها باتت فكرة مستحيلة التحقق لأي كاتب يعيش بيننا الآن.

بالنسبة إلى الكاتب في وقتنا الراهن فإن اعتقاده أن أحدًا سيذكُره متعارض أشد التعارض مع الآليات التي يعمل بها العالم الحديث، حيث يمسي كل شيء قديمًا لحظة ولادته؛ إن هذا الاعتقاده بكل بساطة غير متناغم مع كل ما يدور حولنا؛ باختصار، هو اعتقاد خارج عن المألوف، اعتقاد لا يزيد الكاتب إلا شعورًا بالعزلة وبوجوده المؤقت.

يفكر المرء في دخيلة نفسه:”أنا موجود حقًا فقط في أثناء عملية الكتابة، أي طالما أن أحدًا لا يمكنه رؤيتي وطالما أن أحدًا لا يعرف ما أفعله. للمفارقة: أنا موجود فقط ما دمتُ أنا وعملي مختبئين، ما دمنا غير موجودين حتى الآن للعالم. وبمجرد ظهورنا سنتوقف عن الوجود ونضيع بين الحشود السريعة نافدة الصبر التي تلتهم وتهضم وتفرز كل شيء. كتبتْ إميلي ديكنسون: “النشر مزاد مُقام على عقل الإنسان”، وهي فكرة كثيرًا ما أعود إليها؛ فكرة التواصل التافه مع العالم الخارجي، مع الجماهير، مع ملايين الصفحات المشابهة للصفحات التي كتبناها، وكلها مولودة من رحم الدافع نفسه. إننا نجد أنفسنا محبوسين داخل إطار من التقاليد، سواء أكانت تقاليد متعلقة ببلدنا أم بلغتنا أم بتاريخ الأدب بأسره (كمجرد هامش على تاريخ الأدب من دون شك). هو إدراك أننا، بعيدًا عن كوننا كتابًا متفرّدين، تجمعنا قواسم مشتركة كثيرة بأسلافنا وبمعاصرينا، وأن “الأولين” الذين ربما لم نقرأ لهم قط، كتبوا مثلما كتبنا، كل ما في الحكاية أنهم سبقونا بسنوات فقط، وأن “الآخِرين” الذين لا يعرفوننا ولا حتى يعرفون بوجودنا، يؤلفون كتبًا قريبة الصلة بنا، وبشكل مزعج. في مثل هذه اللحظة المؤلمة نحن ملزمون بقبول وجود شيء مثل روح العصر Zeitgeist، وأننا على نحو لا إرادي ولا واعٍ، طـوع أمـرِه.

من حين إلى آخر تظهر تذكرة أقوى بأننا لسنا سوى اسم آخر يمكن إضافته إلى العديد من الأسماء الأخرى، وأننا جزء من قائمة. هذه المقالة واحدة من هذه التذكيرات، برغم ذلك تذكّرة آتية في أبهى حُلّة.

نلتُ عديدًا من الجوائز (معظمها أجنبي وقليل منها إسباني)، لكنني لا أظن أنني تُوّجت منذ أمد بعيد بجائزة تضارع جائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي، التي مُنحت للمرة الأولى في سنة 1965 حسبما رأيتُ في القائمة. تضم تلك القائمة الكُتاب الذين طالما أعجبت بهم منذ بواكير شبابي عندما كنت مجرد قارئ ولم أكن حتى كاتبًا شبحيًا لديه الوقت الكافي للكتابة للأجيال القادمة، والسبب أن هؤلاء الكُتاب عاشوا في حقبة زمنية كانت تسمح بفكرة الكتابة للأجيال القادمة: أسماء مثل الشاعر العظيم “أودن” والكاتب المسرحي “يونسكو”، والرائع “إيتالو كالفينو” و”سيمون دي بوفوار” و”دورينمات” و”مانجانيلي”.

كنتُ أنظر إلى هذه الأسماء كونها مخلوقات آتية من الفضاء الخارجي، حتى حينما كنتُ طفلًا، كنتُ متأكدًا من أنها لا تشبهني لكونها أسماء عصيّة على البلوغ بالنظر إلى تقدمها في السنّ وإلى منجزها الإبداعي.

إلا أن القائمة تضم أسماء رائعة أخرى؛ أسماء الكُتاب الذين ما زالوا على قيد الحياة أو الذين قضوا نحبهم مؤخرًا، أو الذين صاروا منتمين، بطبيعة الحال، إلى أزمنة الارتباك والنسيان والسيولة التي نحيا فيها: كونديرا وسلمان رشدي وإيكو وبارنز وإنكويست. كنت قد قابلت بعضهم بشكل عابر، لكنهم كانوا بالنسبة إليَّ -كيف يمكنني أن أصف ذلك-  دائمًا هم الآخر، بمعنى الكُتاب الذين قرأتُ لهم وشعرتُ بالانفصال التام عنهم.

أدب العدد الأخير العدد الثاني والثلاثون بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي