الحرب في أوكرانيا.. معضلة الفنانين[1]

كتب بواسطة دينا البرديني

أيجب على الفنان الانجراف مع ظروف الحرب أم الاستمرار في ممارسة فنه من أجل جمهوره؟ هاري بور/ Harry Baur كمثال تاريخي.

من اليمين إلى اليسار Harry Baur و Tugan Sokhiev

مقال للكاتب: Emmanuel Berretta

المصدر: مجلة Le Point الفرنسية

تاريخ النشر : 10 مارس 2022

ترجمة: دينا البرديني

          في بداية مارس 2022، حدد قائد الأوركسترا الروسية توجان سوخيف/ Tuga Sokhiev اختياره، وكان الحرب. قرر التخلي عن واجباته كقائد اوركسترا لمسرح البولشوي في موسكو وأوركسترا كابيتول دو تولوز الوطنية الفرنسية. كان اختيار أحدهما يعني خيانة الآخر؛ واختيار الآخر هو خيانة أحدهما. كتب سوخيف في رسالة بعث بها إلى وكالة فرانس برس “أعلم أن الكثير من الناس كانوا ينتظرون مني التعبير عن نفسي والإعلان عن موقفي بشأن ما يحدث في الوقت الحالي في أوكرانيا” بادئ ذي بدء يجب أن أقول أهم شيء: لم أؤيد أبداً وسأكون دائمًا ضد أي صراع بأي شكل من الأشكال”.

في كل مرة تندلع فيها حرب، يتعرض الفنانون لتلك المعضلة القاسية: الاستمرار في ممارسة فنهم بالوسائل المتاحة، أم الامتناع كلية عن ذلك، أو حتى الفرار إلى الخارج للعمل في مهنة أخرى؟ أدت الحرب العالمية الثانية إلى انقسام عميق في عالم الفن الفرنسي. على سبيل المثال، غادر جان جابين/ Jean Gabin، وكان من نجوم القمة، فرنسا في عام 1941 متوجهاً إلى هوليوود، حيث عانى بعد حدوث عدة عمليات إطلاق نار، قرر على أثرها الانضمام إلى القوات المقاتلة الفرنسية في عام 1943.

عندما يحيي الألمان السينما الفرنسية

ثم سيطر الألمان على السينما الفرنسية، وأسسوا شركة كونتيننتال، وهي شركة إنتاج بموجب القانون الفرنسي برأس مال ألماني، ووظّفوا فنانين وفنيين فرنسيين لتقديم ترفيه شعبي للشعب الفرنسي. كونها وسيلة لضمان السيطرة الاجتماعية على السكان بعد مقابلة مونتوار[2]. في الوقت نفسه، نهب النازيون ممتلكات اليهود واستولوا أيضاً على شبكات التوزيع ودور السينما.

في ذلك المشهد السوداوي، صُك المصير المأساوي لهاري بور Harry Baur. اليوم، أصبح هاري بور في طي النسيان، وكان في وقت مضى أحد أكبر نجوم السينما الفرنسية، يتقاضى أعلى الأتعاب. موهبته مُعترف بها بالإجماع. تُذكرنا القدرات السخية لهذا العملاق بقدرات برنارد بلير/ Bernard Blier. هو وحش مقدس، تتخطى قدراته على لعب الأدوار قدرات خلفائه اللامعين. يمكنه أداء أدوار تتباين في طبيعتها بين الحساسية والوحشية والضحك والبكاء. باختصار، هاري بور نجم مشهور تتألق موهبته، يطمع به النازيون على وجه التحديد لشعبيته الكبيرة.

هل يجب أن يكون الفنان بطلاً؟

تعاطف رئيس شركة كونتيننتال، ألفريد جريفن/ Alfred Greven، المعروف لدى دوائر السينما، مع هيرمان جورينج/ Hermann Göring [3] خلال الحرب العالمية الأولى وكان يشغل أيضاً منصب مدير الإنتاج في UFA (شركة الأفلام الألمانية العظيمة) في عام 1939، ولكنه مدين لجوزيف جوبلز/ Joseph Goebbels، رئيس الدعاية، بالفضل الأكبر في تبني مهمة بناء سينما فرنسية تحت إشراف ألماني عبر شركة كونتينينتال للأفلام وشبكة دور السينما التابعة لها.

لم يكن لدى هاري بور أي تعاطف مع النازيين، لكنه في سن 59، اختار قبول تصوير أول فيلم من أفلام شركة كونتيننتال في عام 1941، وكان فيلماً بوليسياً تحت عنوان “اغتيال الأب كريسماس/ L’Assassinat du Père Noël”.  كان متاحا لديه الفرار إلى هوليوود مثل الآخرين (أمثال جان رينوار، تشارلز بوير.. وغيرهم)، ولكن أيهما الأكثر جبنا؟ الفرار أم البقاء وإسعاد المتفرجين الفرنسيين العام تلو الآخر، حتى في ظل الاحتلال؟ هل يجب أن يصبح كل فنان بطلاً وينظم مقاومة، ولو كانت فكرية، من الخارج؟ على أي حال، سيُغلق الفخ قريبًا على هاري بوتر.

هاري بور، محاصر في أدواره كونه يهودي

خلال الاحتلال، رأى بور بضع فقرات في الصحافة المتعاونة/ la presse collaborationniste[4] تدّعي أنه يهودي. في ذلك الوقت، كان ذلك الاتهام في غاية الخطورة. ذهول الفنان الكاثوليكي من أصل ألزاسي[5]، ورغبته في إنكار الاتهام، ذهبت به إلى الحد الذي جعله ينشر “شهادة الآرية”. كان من السهل حدوث ذلك الارتباك في أذهان الجمهور، وذلك هو بالضبط ما كان يلعب عليه متهموه: إذ كان غالبًا ما يلعب هاري بور دور اليهود والمصرفيين الأثرياء، وهو بالضبط ما تصنفه الدعاية النازية والفيشي على أنهم العدو. أصبح هاري بور، رغماً عنه هدفًا بسبب أدواره اليهودية.

اهتم به النازيون، وبعدها وافق هاري بور على عمل أفلام مع شركة كونتيننتال -في الأغلب- لتبديد الشكوك التي خيمت عليه. باختصار، كان يظن أنه ينقذ نفسه من خلال جدلية أنه لا يمكن أن يكون يهودياً لأنه يعمل مع الألمان. أثارت شعبيته اهتمام جوبلز/ Goebbels بشكل أكبر، فطلب منه الحضور لتصوير فيلم في ألمانيا. رفض هاري بور، مدعياً أنه ليس على ما يرام.

فخ التصوير في ألمانيا

بعد ذلك، استمر النازيون في الضغط عليه باعتقال زوجته ريكا راديفي/ Rika Radifé. كانت النيابة تراهن أيضاً على حالة الإرباك التي قد تعم الجمهور: هل هي يهودية أم لا؟ لا على الإطلاق، فهي من أصول تركية مسلمة. لكن كيف تُثبت ذلك؟ أيقن هاري بور أن هدف ذلك الترهيب هو الحصول على موافقته على العمل في ذلك الفيلم في ألمانيا. بعد أيام قليلة استسلم،  فأطلق الجستابو سراح زوجته. ولكن هذه المرة كان قد تم إحكام إغلاق الفخ عليه.

انطلق الزوجان إلى برلين حيث قضيا، تحت المراقبة الدقيقة، بضعة أسابيع، وقت تصوير فيلم “Symphonie eines Lebens/ سيمفونية الحياة”. كانت الشقة مليئة بأجهزة التنصت. رغب هاري بورتر بدافع السذاجة في حضور اجتماع لأدولف هتلر لرؤية “الوحش عن كثب”، فما لبث أن التُقطت له صورة تُخلد هذه اللحظة، تم نشرها على نطاق واسع من قِبل الدعاية النازية. ومنذ ذلك الحين، أصبح هاري بور هدفًا لصحافة المقاومة كونه المتعاون المُطلق.

تعرُّض للتعذيب على خلفية التنافس بين النازيين

عقب عودته إلى باريس في مايو 1942، وجد بور نفسه بين شقيّ رحى ما بين جوبلز/ Goebbels من ناحية و ثيودور دانيكر/ Theodor Dannecker (من الجستابو والمشرف على عمليات اعتقال اليهود من قِبل الشرطة الفرنسية) من ناحية أخرى، وذلك من خلال تورطه في إحدى الجمعيات السرية النازية. كان الأخير مصراً على إثبات أن بور بالفعل يهودي وأنه تمكن من إخفاء هويته لتصوير ذلك الفيلم في ألمانيا. كان دانيكر، في الأساس، يسعى بشكل غير مباشر إلى إضعاف جوبلز. بلغ الضغط الحد الذي تم معه اعتقال الممثل وزوجته، وكان يتعرض للضرب يومياً في سجن الجستابو للاعتراف بأنه يهودي، وهو ما لم يكن صحيحاً، واستمر التعذيب لأربعة أشهر.

بعد أن أُطلق سراحه في سبتمبر 1942، لم يتعاف هاري بور من تلك المعاملة السيئة. كان معذَّبوه يعلمون جيدًا أنه ليس يهوديًا. توفي بور مجهولاً في 8 أبريل 1943، وسقط في هاوية تاريخية سحيقة، كان فيها خائنًا لمقاومي المقاومة ويهوديًا في نظر الفيشيين الفرنسيين. وفي التحرير، كان بور هو النجم الذي سعت السينما الفرنسية إلى نسيانه بأي ثمن. في الواقع اختفى هاري بور، واسمه الحقيقي هنري ماري رودولف بور، من الرفوف.

الغيرة في قلب دراما هاري بور

كان علينا الانتظار حتى عام 2017 لمعرفة تفاصيل وخاتمة هذه القصة المحزنة، وذلك من خلال كتاب كريستين ليتوكس/ Christine Leteux الممتاز “أفلام كونتيننتال: السينما الفرنسية تحت السيطرة الألمانية” (البرج الأخضر) / Continental Films: cinéma français sous contrôle allemand (Tour verte)”. كان هاري بور ضحية لرسالة مجهولة موجهة إلى الجستابو، لم يكن مرسلها سوى صديق الطفولة والأب الروحي لأحد أبنائه، إدوارد بوشيز/ Édouard Bouchez، ممثل فاشل تملؤه الغيرة. الآن بتنا نعرف “من قتل سانتا كلوز”. تحثنا قصة هاري بور المعقدة على توخي الحذر في إصدار أحكام متسرعة عن الفنانين خلال أوقات النزاع. وفي ضوء هذه القصة، يجب أن نعيد قراءة تصريحات توجان سوخيف، الذي ينتفض ضد “ثقافة الإلغاء” المستترة وراء الحرب في أوكرانيا.

استطرد سوخيف في رسالته إلى وكالة فرانس برس قائلاً: “بعض الناس يشككون في رغبتي في السلام ويظنون كوني موسيقيًّا أستطيع أن أتحدث عن أي شيء آخر غير السلام على كوكبنا وذلك أمر مروع ومهين بالنسبة لي”. ويضيف: “من المستحيل أن أختار بين أعزائي الموسيقيين الروس والموسيقيين الفرنسيين. أنا مُطالب باختيار تقليد ثقافي على الآخر. وسأُطالَب باختيار فنان على آخر، واختيار مطرب واحد دون الآخر. سيُطلب مني قريبًا الاختيار بين تشايكوفسكي وسترافينسكي وشوستاكوفيتش وبيتهوفن وبرامز وديبوسي. ذلك أمر يحدث بالفعل في بولندا، وهي دولة أوروبية، حيث يتم الآن حظر الموسيقى الروسية. نحن الموسيقيون موجودون لنتذكر من خلال موسيقى شوستاكوفيتش أهوال الحرب، نحن سفراء السلام. بدلاً من استخدام أنفسنا وموسيقانا لتوحيد الأمم والشعوب، نحن منقسمون ومنبوذون. اضطررت لمواجهة الخيار المستحيل للاختيار بين الموسيقيين الروس الأعزاء والموسيقيين الفرنسيين الأعزاء، قررت الاستقالة”.


[1] رابط الموضوع الأصلي

https://www.lepoint.fr/politique/emmanuel-berretta/guerre-en-ukraine-le-dilemme-des-artistes-10-03-2022-2467615_1897.php

[2]  كانت مقابلة مونتوار عبارة عن اجتماع عُقد في 24 أكتوبر 1940 بين المارشال الفرنسي فيليب بيتان والديكتاتور الألماني أدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية في محطة القطار في مونتوار سور لو لوار، وهي بلدة فرنسية محاصرة. لوضع أسس العلاقات المستقبلية بين الرايخ الثالث وفرنسا فيشي.

[3] كان هيرمان فيلهلم جورينج سياسيًا ألمانيًا وقائدًا عسكريًا ومجرم حرب مُدان. كان أحد أقوى الشخصيات في الحزب النازي  الذي حكم ألمانيا من عام 1933 إلى عام 1945. كان جورينج، وهو طيار مقاتل مخضرم في الحرب العالمية الأولى، حاصلًا أيضاً على وسام الاستحقاق Pour le Mérite.

[4] Collaborationism هو مصطلح يعني التعاون مع العدو ضد بلد المواطنة في زمن الحرب. غالبًا ما يستخدم المصطلح لوصف تعاون المدنيين مع دول المحور المحتلة، وخاصة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإمبراطورية اليابان ، خلال الحرب العالمية الثانية.

[5]  نسبة إلى Alsace في فرنسا وهي منطقة ثقافية، ولغوية، وتاريخية، وإدارية في شرقي فرنسا وعاصمتها ستراسبورغ.

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ثقافة وفكر سياسة

عن الكاتب

دينا البرديني