في رحلة روائية ممتعة بقلم رائد الخيال العلمي الأوَّل (جول فيرن) نواكب أحداثاً شيِّقة، ونقطع مسافات شاسعة مع روَّاد الفضاء في مركبة فضائية ضيِّقة إلى حيث القمر. تشدُّنا أحداث ومشاهد خيالية ساحرة وسط قلق يواكب خطَّ سير الرحلة من انطلاقها حتى سقوطها.
رواية (حول القمر) ترجمت لأوَّل مرَّة إلى العربيَّة بقلم الأستاذ: محمد الدنيا، مستهلاً إياها بتعريف عن المؤلِّف، وتمهيد جاء مقدماً لبدء الرحلة.
الرواية مقسَّمة إلى عناوين عديدة جذَّابة ومشوِّقة. أوَّل عنوان كان: من العاشرة وعشرين دقيقة إلى العاشرة وسبع وأربعين دقيقة مساءً. تحت هذا العنوان انضوت اللحظات الحاسمة في تجهيز المركبة للانطلاق، كيف كان وضع المسافرين الثلاثة: نيكول، وميشيل، وباربيكان، داخل المركبة وهم مستلقين على أرضها لحظة إشعال الشرارة الكهربائية في أربعمائة ألف ليرة من قطن البارود، مما جعل المركبة تنطلق في الفضاء تدفعها ستة مليارات لتر من الغازات المعززة بتفجر قطن البارود.
في العنوان الثاني: نصف الساعة الأولى، يظهر الحالة التي وصل إليها المسافرون الثلاثة وقد شارفوا على الموت نتيجة الضغط الكبير والحرارة المرتفعة.
أما الكلبة (ديانا) فنتيجة الصدمة كانت متمدِّدة في غير مكانها أما الكلب (ساتيليت) فقد أصيب بجرح بالغ في قدمه.
وراحوا يتفقَّدون كل الحاجات الموجودة في المقذوف، من حاجاتهم الضرورية كالطعام مثلاً، فكلها كانت سليمة.
الجميل في الأمر أنهم يمتلكون روح الدعابة والمرح، هذا مما أعطاهم دفعاً قوياً من الأمل والسعادة داخل العتمة المطبقة. حتى إنهم شكَّوا في أن المركبة قد انحرفت عن مسارها وربما سقطوا في البحر أو أي مكان آخر.
أما العنوان الثالث: (مكان الإقامة) فقد أوضحت الأحداث عن حالة الكلبين بعد عمليَّة الانطلاق الرهيبة وكيف عثر المسافرون عليهما وهما في وضعيَّة صعبة.
بدأوا بإعداد الطعام وقد وفَّرت لهم اتساع مساحة المركبة التي تبلغ قاعدتها المسطَّحة مساحة أربعة وخمسين قدماً مربَّعاً، وارتفاعها اثنا عشر قدماً. وقد كانت مرتَّبة بشكل دقيق من الداخل من حيث أماكن حفظ الطعام وأوعية السفر، فالزجاج المعشَّق الذي يؤلف جزءاً كبيراً من القاع، يمكن له أن يتحمَّل أوزاناً كبيرة بلا عواقب.
وتتوالى العناوين تباعاً، موضحَّة المواقف الغريبة والصعبة التي تمرُّ فيها القذيفة، وخاصة بعد اطمئنانهم على أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، فقد كان القمر يتضخَّم أمامهم رويداً رويداً، بعد أن ظنُّوا أنهم يغوصون في عتمة تامة. وقد دار نقاس طويل بينهم حول المسائل الجبرية التي تتعلَّق بالبعد والقرب نحو القمر.
تتوالى الأحداث في غمرة الصخب التي كانوا يحدثونها نتيجة الخلافات التي كانت تقع بينهم، فقد أكدَّ (ميشيل) أنه كان عليهم أن يجعلوا من القذيفة كسفينة (نوح) فقد وجب عليهم أن يحملوا فيها زوجاً من كل حيوان ودابة. وفي النهاية توصَّل إلى أنه كان عليه إحضار حمار صغير معه، لكنَّ موجة الضحك التي انتابتهم أوقفتها صرخة (نيكول) هو يقول: لقد مات الكلب.
لقد احتار الأصدقاء، كيف لهم التخلُّص من جثته، فالتعفن قد يقتلهم جميعاً.
فقد فكَّروا في فتح الكوَّة ورميه من خلالها، وبأدق حيطة، وذلك لسببين، الأول: لئلا يضيِّعوا أي جزء من هواء القذيفة، والثاني: عدم السماح للبرد الخارجي أن يتسرَّب إليها.
ونتيجة التقدم السريع، راحوا يرصدون الأرض من الزجاج السفلي للقذيفة، فقد غدت بقعة قاتمة غارقة في الأشعَّة الشمسيَّة، أما القمر، فكانوا يزدادون اقترباً منه، وظهرت الشمس كما كانت تظهر على الأرض تماماً وكذلك النجوم.
نتيجة المدة الزمنية الطويلة التي يعيشها الأصدقاء داخل القذيفة، وهم ضمن مساحة ضيِّقة قد تخطر لهم أسئلة جنونية، فماذا يحدث لو اصطدم نيزك بهم؟ فيأتي الجواب: بأنهم سوف يحترقون أو بالأحرى يتبخَّرون.
نقتطف:
“بتنا نعرف أن الحرارة ليست سوى تغيير الحركة، عندما نسخِّن الماء، أي عندما نزيدها حرارة، يعني ذلك أن نمدَّ جزئياتها بالحركة…
وهكذا مثلاً عندما أكون قد ركضت لوقت طويل، وحين أسبح وأتصبب عرقاً، لماذا أكون مجبراً على التوقُّف؟ ببساطة، لأن حركتي قد تحوَّلت إلى حرارة”. ص 73
ويستمرُّ النقاش والجدل، وخاصة عندما شاهدوا كيساً يتبع القذيفة في المسار ذاته، وفي النهاية يكتشفون أنه جثَّة الكلب (سايتليت) التي رموها من الكوَّة. ويتساءل (ميشيل) لماذا لم نملأ القذيفة بأشياء مهمة ومفيدة، مثل: الكتب والأدوات… لكنا رمينا كل شيء، ومن ثم سوف يتبعنا في رحلتنا هذه.
ــ الجميل في الأمر الأحاديث الطريفة التي تدور بين الأصدقاء والتعليقات، فقد فكَّروا في أن يضعوا سلكاً طويلاً في نهاية القذيفة من أجل التواصل مع الأرض، لكن (باربيكان) أجاب: إن السلك سوف يلتف حول الأرض نتيجة دورانها وسوف يعيدنا إليها مرَّة أخرى.
ـــ ينشب خلاف بين الرفاق حول سبب الرحلة إلى القمر، فهم في بداية الأمر لم يكونوا قد حدَّدوا أهداف الرحلة، فهي إلى القمر فحسب. لكن في نهاية الأمر يبحثون عن أسباب مقنعة، وهي من أجل أن يكون القمر هو بمثابة الولاية الأربعين للولايات المتحدة.
راحوا يوزِّعون لأنفسهم المناصب: إمبراطورية القمر، (لميشيل) الكونغرس، ولـنيكول سيكون مجلس الشيوخ، ولباربيكان الرئاسة. وبعد فرح وصخب ودوان سقطوا على الأرض بلا حراك.
وقد اكتشف (نيكول) سبب هذه الحالة التي تشبه السكر، إنه الأكسجين، فقد لاحظ أن جهاز الهواء يسرِّبه من صنبوره، فأسرع وأغلقه كما يلزم، فيمكن له أن يؤدي إلى احتراق المركبة بالكامل.
الذي جعلهم يتأكَّدون أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، هو أن القمر قد بدأ يتضخَّم أمامهم رويداً رويداً، فاطمئنوا وابتهجوا، بعد طويل من الشك في أنهم يسبحون في عتمة تامة. وقد دار نقاش حاد بينهم حول مسائل جبرية تتعلَّق بالدوران في الفضاء، ومع كل المواقف الغريبة التي كانوا يمرُّون فيها، ما زالت تدور بينهم أحاديث طريفة ورغبات طفولية مرحة.
راحوا ينظرون إلى القمر عبر مناظيرهم الدقيقة فقد اختلطت عليهم الصور بين الخيال والواقع، فهناك تضاريس معقَّدة وجميلة جداً بعضها مشابه لتضاريس الأرض، وبعضها الآخر غريب ليس له أي نظير مقارنة بالخرائط العالميَّة التي بين أيديهم.
-تحت عنوان (كفاح ضد المستحيل) يتعاطف المتلقي كثيراً مع رواد الفضاء الثلاثة، وخاصة عندما يرون أن مركبتهم قد استدار قاعها نحو الأرض، أي أنها لن تسقط على القمر، وهذا يعني أنهم لن يصلوا إليه، وسوف يظلون في حالة دوران حوله إلى ما شاء الله.
يبحث الكاتب عن مخرج لهذا الأمر، عندما اكتشف (ميشيل) السبب قائلاً: لقد استدارت القذيفة لأنها مرَّت في المنطقة الميِّتة على الخط المحايد حيث تكون جاذبية القمر والأرض ملغيتين.
يتفاعل التلقي مع الأصدقاء حين يأكلون من أجل الهروب من النقاش الحاد والاختلاف في الرأي والتشاؤم مما سيحدث، وهم ينتظرون لحظة وصولهم النقطة المحايدة بعد ساعات طويلة قرَّروا فيها اللجوء إلى النوم أخيراً.
تزداد قوَّة التشويق في الرواية، مما يحفِّز الخيال والتوقعات المتوتِّرة لمتابعة ما يجري بلهفة أكبر.
وتأتي اللحظة الحرجة، نعم لقد استدار قاع القذيفة باتجاه القمر، وقد وجَّه (ميشيل) فتيلاً جاهزاً إلى الغاز، وقرَّبه من حرَّاقة توصل بين الصواريخ آلياً. لم يسمعوا أي انفجار في الداخل الخال من الهواء، ولكن (باربيكان) قد شاهد شراراً متطايراً من الكوَّة.
لكن قاع القذيفة لم يستدر كما توقَّعوا، إذا هم ينطلقون في اتجاه الأرض. فقد سقطت القذيفة في المكان الذي كانت إحدى الشركات تعمل فيه من أجل مدِّ كوابل البرق، فحدث صوت انفجار ضخم في وسط المحيط الهادئ.
حشدت الجهود من أجل انتشال القذيفة مهما كانت نتيجة حال الركاب الأصدقاء الثلاثة، وذلك في العنوان ما قبل الأخير: (الانتشال).
القذيفة سقطت وسط المحيط الهادئ فينزل (ج. ـ ت. ماستون) وصديقه عبر مركبة خاصة إلى قاع المحيط، بعد أن جهِّزت كل الآلات التي سوف تقوم بالمهمَّة، وقد استغرقت عدَّة أيام لتجهيزها كما يجب.
تتصاعد وتيرة التشويق من خلال البحث عن القذيفة، ولكن دون فائدة، فلا شيء في نقطة القاع المحدَّدة لسقوطها.
وأخيراً يشاهد الحشد شيئاً ما يطفو على سطح الماء، وراية ترفرف، إنهم الأصدقاء الثلاثة لقد نجو من الموت، ورفعوا علم أمريكا من الكوَّة المحطَّمة الزجاج.
العنوان الأخير: (في الختام) يستقبل الناس الأصدقاء بترحيب كبير، ويعبر قطارهم الوحيد سكة القطارات، وهو يدور في العديد من مدن الولايات المتحدة الأميركيَّة.
اشترت (نيويورك هيرالد) مدونة الرئيس (باربيكان) بسعر ضخم جداً، وقد ارتفع عدد نسخ الصحيفة إلى خمسة ملايين نسخة خلال ثلاثة أيام.
الرواية بالمجمل مكتوبة بجهد خيال كبير، امتزج فيه الخيال مع الواقع العلمي المواكب لضرورات حلِّ المآزق التي كانت تعترض طريق الرحلة.
لقد ابتعد المؤلِّف عن الغموض على الرغم من أن الرواية طابعها خيالي علمي، وقد سُردت الأحداث بطريقة سهلة لطيفة تمتزج فيها الفكاهة والدعابة والمرح مع بعض المواقف الحرجة، والخطيرة في كثير من الأحيان.
لقد ترجم الأستاذ محمد الدنيا الرواية بطريقة متأنيَّة حذرة وهذا واضح من طريقة عرض الأحداث التي لم تشكل على المتلقي، ولم يشعر بأي تلكؤ في الجمل أو اختلال في المعاني.
رواية حول القمر للمؤلِّف جون فيرن.
ترجمة الأستاذ محمد الدنيا.
وزارة التعليم العالي. مطبعة جامعة دمشق 2018.