ماذا تفعل بنّا الحروب..؟!

كتب بواسطة جورج لوفيش

تقرير: جورج لوفيش

ترجمه عن الألمانية: شيرين ماهر

“الحرب تلتهم الروح”.. هكذا يرى الناجون من براثنها، عندما يقصون كيف ظلوا أمداً يرتجفون ويصرخون في أحلامهم بعد أن فشلوا في التحرر من حرائق الذكرى. وهناك أيضاً من التزموا الصمت، ولم يستطعوا حتى التعبير عن خوفهم الكامن أسفل جلودهم..لقد حان الوقت الذي يجب أن نحمي فيه أرواحنا من جحافل الخوف المُطبِقة. فالتاريخ يقص لنا الكثير عن مأسي الشعوب تحت وطاة الحروب.. ودروس الماضي لا يمحوها الزمان ولا تَسقُط بالتقادُم، بل على العكس، يُضاعِف من أهميتها وضرورة الأخذ بها، خاصة عندما يعيد التاريخ نفسه بصور جديدة، كالتي يعيشها العالم الأن.. لقد صار من الأجدر بنا أن ندثر أرواحنا أولاً، قبل أجسادنا، من بطش الحروب. فهي تنال من أرواحنا، عن بُعد، وتتركنا أشباحاً قبل الموت.

عن نفسي، لم أعش الحرب على أرض الواقع، وخبرتي عنها “سماعية” فقط. ومن ثم، لا يصح لي أن أتحدث عنها وأصفها. لكن ربما يعكس إدراكنا السلبي لها أيضًا مدى وحشيتها، لدرجة تؤثر على الأشخاص الذين لم يتأثروا- فعلياً- بالحروب بصورة مباشرة. كما أنها تهدد أولئك الذين كانوا بمعزل عن بطشها المادي وليس المعنوي. الحرب حقاً تصيبهم بالصدمة جراء ما يراقبون من صور قاتمة تأفُل فيها مظاهر الحياة اليومية الطبيعية، لذا ينهار الشغف والدافع، وتنهار الحياة تدريجيًا بالنسبة للبعض.

عندما أُذيعَت أغنية “قل لي أين الزهور؟” و “أخبرني أين الجنود؟” على بوابة براندنبورغ الإخبارية في برلين في أعقاب أنباء اندلاع الحرب في أوكرانيا، لم يكن يبدو ذلك أحد أشكال النوستالجيا أو العودة إلى فن الثمانينيات، بل كان من الواضح أن الناس تأثروا، بصدق، بما يدور في جزء من قارتنا الأم. الحرب تحركنا دائماً وتوقظ شيئاً داخلنا.. تُرى ما الذي تطلقه في بهو أرواحنا؟ بالطبع، تعد الحروب تهديداً واضحاً وصريحاً لأرواحنا، ربما وهي على بعد مسافات طويلة منّا، فهذا ليس بالشيء الجديد. الأمر كان كذلك خلال حرب البلقان، وأيضًا أثناء حرب العراق وفي بداية الحرب في أفغانستان. لقد عايشنا نفس السيناريو في حرب إسرائيل وفلسطين واستمر ذاك الأثر داخلنا مع الحرب التي لا تزال دائرة في سوريا. ثم ارتعدنا قليلاً عندما قام  بوتين بقتل أشخاص في شرق أوكرانيا في عام 2014. دائماً ما ينشأ التعاطف مع كل الحروب. وهذا يعتمد على مدى الدمار الذى تخلفه وما نراه على الشاشات وكيف يعيش الناس في بلد تحت وطأة القصف. وكذلك كلما اقتربت الحرب من المحيط الذى نعيش فيه.

تصلنا كل هذه الصراعات، بأي حال من الأحوال، وبنفس الطريقة، سواء أردنا ذلك أو لم نرد. فنحن لا نسعى إلى معرفة الكثير عن البعض ولا الجهل على الإطلاق، بما يحدث للآخرين. يعتمد مدى تأثرنا بالحرب أيضًا على النظرة العالمية للمتلقي وعلى مدى لين أو قسوة القلوب. ثم بعد ذلك نعتاد على ذلك الرعب، رغم كونه شيئاً رهيباً لا ينبغي التكيف معه على الإطلاق. لكننا نضطر، مع الوقت، إلى التصالح مع فكرة أن الحروب وحشية وستظل تندلع من آن إلى أخر، وإلا فلن نكون قادرين على التكيف مع اللحظات الفعلية التي يدور فيها ذلك على أرض الواقع.

وحدها حرب بوتين في أوكرانيا تلمسنا بما يتجاوز نطاق الحروب الأخرى. فهي ليست بعيدة وليس هناك ما يمنع وصولها إلينا. في مقال، كتبه الباحث الاجتماعي “ديتليف بولاك” يتحدث عن التجربة المؤلمة التي تختبر قيمنا الانسانية وتقابلها بمنتهى الوحشية، فلا نجد ما يرمم ضعفنا الانساني. وفجأة، في منتصف مقاله، اعترف “بولاك” بفكرة قاتمة، قائلا: “أحيانًا أشعر بالغضب لدرجة أنني أظن أنه يجب أن يتذوق مجرمو الحروب نفس الكأس الذى أذاقوه للآخرين”. كذلك تعيش الكاتبة “يفغينيا بيلوروسيتس” ما بين مدينتي برلين وكييف. في إحدى المقابلات التي أُجريت معها مؤخراً، تحدثت عن واقع محبط وهو أنه بإمكان قوى شريرة أن تواصل التلاعب بمصائر البشر، قائلة: “إن حقوق الإنسان تتراجع فجأة لمجرد أنك في المكان الخطأ”. فعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، كانت “بيلوروسيتس” في مدينة كييف، حيث تقول إنها لا تريد المغادرة وتبغي البقاء في المدينة، ليس فقط لمتابعة أخبار الحرب.

هناك ايضاً صورة التقطتها المصورة “إيرين تريب” لأربعة متطوعين يتعرفون على الأسلحة الآلية على أريكة مرسوم عليها مناظر طبيعية، ويبدو عليهم أنهم حديثو العهد بإطلاق النار، ولا يوجد شيء بطولي يرتسم على ملامحهم.. لقد تم اقتيادهم إلى حرب غامضة لا يحركهم فيها دافع واضح. مثل هذه الصورة، كما يحلل “أندرياس أوهلر” في استعراضه لها، تحمل تناقضاً فجاً وتجبرنا على طرح أسئلة مزعجة: “هل يتعين علينا الاستعداد لحقيقة أن الألمان ربما اضطروا أيضًا للدفاع عن بلادهم بالسلاح؟”.لا أحد يعلم ما الذى يختمر في الأفق بعد أن تلبدت السماء بغيوم الحرب.

لقد شكلت الحرب شخصية المحلل النفسي “مايكل إرمان”، الذي ولد عام 1943 في مستشفى دمرته قنبلة بعد ولادته بقليل. أجرى “إرمان”، لاحقًا، ابحاثاً حول أزمة صدمة أطفال الحروب. تحدثت إليه زميلتي “ميرل شمالينباخ” ومع خبراء آخرين – كما أجرت مقابلة مع والدتها، التي ولدت عام 1951 وتعاني الآن أيضًا من مشاعر قديمة جراء الحرب لا تبرحها. الأمر نفسه كان مع مايكل إرمان، البالغ من العمر 78 عامًا وهو أستاذ جامعي فخري في جامعة ميونيخ، حيث يقول أنه، لبضعة أيام، كانت تدور عبارة واحدة في رأسه، ألا وهى: “الروس قادمون”. ثمة خوف قديم يترجل في بهو ذاكرته ويستدعي ربطاً خفياً بين ما مضى وما سيأتي.

لماذا تثير الحرب ردود فعل قوية داخلنا؟

في الواقع، تتوقف حدة التأثير على ثلاثة عوامل: مع انتشار أنباء الغزو الروسي في أوروبا يوم الخميس الموافق 24 فبراير، سرعان ما اتضح أن هذه الحرب تؤثر على معظم الناس أكثر من حروب أخرى سبقتها. إذا أخضعنا الأمر  للأرقام والمسافات، وجدنا المسافات ما بين هامبورغ- أوديسا: 2080 كيلومترًا. ما بين برلين – كييف: 1350 كيلومترًا. لايبزيغ – لفيف: 960 كيلومترا..كذلك بدت مدينة لفيف الأوكرانية، وكأنها مدينة ألمانية قديمة في غضون الحرب العالمية الثانية. لقد ترجمت الجغرافيا والثقافة المتشابهة وقع الصدمة و مدى نفاذها إلينا، فلا يوجد شيء بعيد. قدر من ذلك الجحيم ربما بات قريباً منّا. تدريجياً، أصبح الاقتراب الوشيك من هذه الحرب الجديدة واضحًا لنا بقوة. ربما استغرق هذا الإدراك  بعض الوقت لأنه لم يكن من الممكن تخيله من قبل. لقد قال بوتين ذلك بالفعل في إعلانه عن الحرب: “إذا تجرأ أحد على التدخل، فسوف تلجأ روسيا إلى إجراءات لم يختبرها العالم من قبل في التاريخ”. فمنذ أن وضع قوات الردع النووي في حالة تأهب، صار من الواضح في هذه الحرب، أنه يوجد شخص ما ينتظر صافرة البدء ليضغط على زر قنبلة وشيكة الانفجار، بل ويتصرف وفقًا لمعايير يصعب أو يستحيل التأثير عليها، وكأنه محارب على الطراز القديم ينتظر نفير الموت منذ قرون ماضية.

الخوف.. ليس تهديداً أعمى، وإنما يعرف وجهته إلى أرواحنا ويتسلل إليها بسهولة مطلقة. لقد ولت عقود السياسة الأمنية التي كانت على ما يرام، لينتهي المطاف بمجتمعات أصبحت في مهب الريح. لقد أنتج “راينر فيرنر فاسبيندر” فيلمًا عن شيء مختلف تمامًا. لكنه ليس ببعيد عما أعنيه. تدور قصة فيلمه عن زوجين غير متكافئين. عنوان الفيلم بمثابة حكمة في حد ذاته. العنوان يقول “الخوف يلتهم الروح”. هذا بالضبط ما نحن مهددون به الأن ويجب علينا حماية أرواحنا. نحسب أن الروح تتجاوز الجسد. ولكن ما نختبره في الحياة من مشاعر تتعلق بالحب والأمل والخوف، إنما هو اختبار حساس لأرواحنا يضعها على المحك. تماماً  كالاختبارات المفزعة التي نخوضها في أحلامنا.

تبق الروح هي ما تميزنا نحن البشر عن العقول الإلكترونية. فهي باقية حتى بعد الموت. هي الرباط الذى يصلنا بالرب. وتستحق أن نحميها بقدر ما استطعنا. ولكن كيف نحمي أرواحنا في ظل كل ما يحدث؟ مئات الآلاف يتظاهرون في برلين وروما ولندن وليوبليانا وطوكيو ونيويورك. المحتجون في كولونيا يملأون الشوارع منددين بالحرب، فيما تدعو الكنائس للصلاة الجماعية. ألا يبدو كل ذلك عديم الفائدة؟ أي قلوب قاسية ستتحرك من هذه النداءات؟ من السهل أن تبتسم بسخرية إزاء كل هذه الأفعال، فلن تحرك هذه الممارسات مُحبي الحروب ومُشتهي الدماء. ولكن لا يزال علينا الدفاع عن غيرنا ممن ينتظرهم الموت. ما نفعله لأجلنا أيضاً، بحثاً عن رفقاء الروح. يحضرني في ذلك السياق الكتاب الرائع الذى نشرته مؤخراً اللاهوتية “جوانا هابرر” بعنوان “الروح”. لقد صارت “الروح” أحد الحقوق التي نحرص عليها في ذلك الوقت. تكتب “هابرر” عن توقها إلى مجتمع روحاني، حيث ترى هذا النمط المجتمعي متجسداً بقوة داخل ملاعب كرة القدم، عند إطلاق الحشود صيحة واحدة من القلب فور تسجيل هدف. تراه أيضاً في النشوة الغامرة التي تسود أثناء حفل لموسيقى الروك. أو في مشهد تتدفق فيه الدموع تزامناً مع أغنية تهز أركان الأوبرا. وعندما نصلي معًا في دور العبادة، وندعو معا بصوت واحد نافذ من الأعماق- تسمي “هابرر” كل هذه اللحظات الجماعية بـ “حلقة وصل” تلملم شمل النفوس الأخرى وترمم ذواتنا المنعزلة عن بعضها البعض.. لقد حان الوقت الذي يجب أن نحتشد فيه لنهزم ذلك الشعور بالعجز في مواجهة الخوف وننقي أرواحنا من ذلك الصمت الأعزل. نستحق أن نجد رفقاء للروح في ذلك العالم المُشرذم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابط الموضوع الأصلي:

https://www.zeit.de/2022/10/krieg-europa-angst-bevoelkerung-geschichte

تاريخ النشر: 6/3/2022

سياسة

عن الكاتب

جورج لوفيش