أُحَيِّي الذين يمسكون بريشة قلمهم للتعبير ولمشاركة القراء عمّا يدور بخاطرهم. فهم بكتاباتهم هذه ينشرون المعرفة ويكتبون التاريخ. ولكن للأسف، هناك نقطة تمنعني من الاستمتاع الكامل بهذه المقالات الجميلة. أجد بأن الكثير من الكُتّاب يُهْمِلُون مسألة الاهتمام بقضية الجملة في اللغة العربية. وكأنهم يضربون بمقالاتهم هذه العواملَ الأساسية في الشكل الخارجي للجملة بعرض الحائط. وما شدني إلى كتابة هذه المقالة هو نشر أحد الصحف المحلية العمانية لمقال هو عبارة -في الوقت ذاته- عن جملة واحدة فقط. مقالٌ يصل عدد كلماته إلى أكثر من 800 كلمة ولا توجد به ولا أي علامة ترقيم، ولا حتى فقرات لتسلسل الأفكار! لا أبالغ في الموضوع، ولكن هذه هي حقيقة تعاني منها صحفنا العُمانية.
هناك العديد من المؤامرات التي تُحَاك ضد العديد من اللغات. وإن لم يعتنِ بها أهلُها، فإن مصير هذه اللغات هو الزوال. وستصبح في حال كان وأخواتها. وأَفْضَلُ مثال على ذلك هو حال اللغات الأفريقية التي صارت في زوال أكيد، بل أصبحت من التراث. فاللغة هي كنز وثقافة كل مجتمع. وهي كذلك وسيلة تفكير وطريقة تحليل، وهذا ما أشارت إليه العديد من الدراسات في علم اللسانيات. فعدم اهتمام القوم بلغتهم يعني بداية نجاح المؤامرة. وإنْ لم يعتنِ القوم بجودة لغتهم، فهل سيعتني الغريب بها؟!
أتابع الصحف المحلية بشكل يومي، وخاصة المقالات المكتوبة من قبل العُمانيين. فوجود مثل هذه المقالات يريح النفس ويبشّر بوجود طبقة علمية مثقفة. وسرعان ما تزول هذه البهجة حالما أجد مقالاً تكتظ به الفواصل والثلاث نقاط بين الجُمَل. وما يزيد حسرةً هو اعتبار الكُتَّاب أنّ كل جملة فقرة وأنّ كل فقرة هي عبارة عن جملة. فالجملة، في اللغة العربية، هي ما يستطيع تركيبُها توصيلَ معناً مفيداً للقراء. ولكن، إذا جئنا إلى الناحية المظهرية للجملة، نجد بأن كل جملة مفيدة حاملة معناها الخاص يجب أن تنتهي بنقطة أو بعلامة استفهام أو تعجّب بحسب السياق الموضوعة فيه. وعملية شحن الفواصل بين الجمل بدلاً من النقاط يُعطي نوعاً من التسلسل الفكري للجملة غير المرغوب فيه. وهذا يعيق – بدون نقاش – عملية استساغة الجملة. ويدعو القارئ إلى إعادة القراءة بِنَفَسٍ جديد حتى يستوعب الصورة التي يود رسمها الكاتب. وليس بغريب في أن نجد العديد من القراء يعتبرون المقالات الصحفية عبارة عن كتابات أخبار خالية من علامات الترقيم إلا النقطة في آخر الفقرة وهي في نفس الوقت جملتهم الوحيدة.
لا أطالب هنا بإيجاد طريقة جديدة للكتابة. فكل الطرق صحيحة وإنما الأسلوب يختلف. ولكن ما أرغبه من كُتّابِنا الأعزاء هو احترام قواعد الجملة في اللغة العربية وإعطاء علامات الترقيم حقها ووضعها في مكانها المناسب. فالكتابة السلسة والسليمة تُكْسِبُ صاحبها احترام القراء. أما الكتابات غير المستساغة من قبل القراء فهي كسلعة صُنِعَت وعُرِضَتْ للبيع ولكن لم تُشْتَرَ. فلا أحد يود قراءتها لعدم سلاستها. وهذا ما يفقد الهدف الأساسي من الكتابة-الوصول إلى أكبر شريحة ممكن من القراء للفائدة المرجوة.
كذلك هناك دور كبير يقع على عاتق الصحف والمجلات الإلكترونية قبل نشرهن للمقالات. يجب على مدققيها اللغويين، ليس فقط الاهتمام بقواعد النحو وبالألفاظ العربية، ولكن أيضاً الاهتمام بتركيب الجملة المظهري بشكل صحيح. فأصحاب الأقلام غير المستساغة كتاباتهم غالباً ما تُرْبَط أسمائُهم بالمصدر الناشر لمقالاتهم. وبالتالي ستفقد هذا الأخير جودته وشعبيته لدى الطبقة المثقفة. وما اقترحه هنا للمؤسسات الصحفية هو رفع المعايير الأساسية في قبول الكتابات للنشر. ووضع هذه المعايير في أيادي الكتاب حتى يأخذوها بعين الاعتبار حال شروعهم في الكتابة. بهذه الطريقة ستحقق هذه المؤسسة هدفين مَرْجُوَّيْن: الأول ثقافي، وهو الأهم، تطبيقها لدورها الفعلي في المحافظة على اللغة العربية؛ والثاني، وهو من ناحية اجتماعية وتجارية في نفس الوقت، ارتقاء سمعتها لدى الطبقة المثقفة من الشعب مما يدفع الناس لحب مطالعة المقالات المنشورة في هذه الجريدة لجودتها ولسلالة لغتها.
تعلّمنا في مقاعد الدراسة العديد من قواعد اللغة العربية. تعلمنا أقسام الجملة؛ اسمية وفعلية. وأن الجملة الاسمية هي مركبة من مبتدأ وخبر. والجملة الفعلية، بدورها، هي مكونة من فعل وفاعل ومفعول به أو جمل ظرفية. فإذا انتهت جملتك، أَحْسَن من فضلك باللغة العربية وضع نقطة حتى تُعْلِمَ القارئ بأن هذه هي جملتك وأنها حملت معنى من الفكرة المرجوة. كذلك تعلمنا –وأذكر بأننا كنا نردد هذه العبارة في صفوف التعبير في المرحلة الإعدادية- بأن كل فقرة تحمل فكرة. فإذا انتهيت -عزيزي الكاتب- من تطوير فكرتك بشكل جيد في فقرة، انتقل بعدها لفقرة أخرى. لا تدع شعار الفقرة هو وجود النقطة في آخر الجملة، ولكن اجعل شعارها هو فكرة محتوية على العديد من الجُمَل. ارحموا لغتنا فهي في أمس الحاجة إلى اهتمام من طبقة مثقفة مثلكم.
في الختام، اعتبر مقالي هذا مكملاً لمن يحثوا الكتاب على الاهتمام بالقواعد النحوية للغة العربية في خطاباتنا الرسمية وفي كتاباتنا. ولكن، يجب كذلك أن نُعِيْرَ تركيب الجملة الشكلي اهتماماً لا يقل عن تركيبها النصي والنحوي. دعونا نطبق ما تعلّمناه في مقاعد الدراسة في صفوف اللغة العربية. ضعوا الفاصلة مكان الفاصلة والنقط مكان النقطة ولا تخلطوا الحابل بالنابل فينفر الناس من مقالاتكم. وكنوع من التشجيع للاهتمام بهذا الموضوع، أحب أن أؤكد بأن معظم المؤسسات الحكومية والخاصة تُعِيْر اهتماماً خاصاً -قبل عملية التوظيف- لطريقة كتابة الشخص ومنهجيته في الإقناع كتابياً. فهذا فَنٌّ يجب علينا إتقانه حفاظاً على ثقافة لغتنا.