نهج نيتشه في الفلسفة والحياة

كتب بواسطة ترجمة: علي حمدان

حوار مع البرفيسور هانك مانشت Hank Manschot  أستاذ فخري في جامعة العلوم الإنسانية في نيذرلاند.

أجرى الحوار *امريلي مالكي Amirali Maleki  ونشر في مجلة الفلسفة الان.

ترجمة علي حمدان

هل فلسفة نيتشه، ليس نيتشه فحسب، وفلسفة كل الفلاسفة هي انعكاس لحياتهم اليومية؟

 إنه سؤال مثير حقا، أعتقد أن الفلاسفة حالهم حال كل شخص منغمس في محيطه اليومي ووعيه بذلك المحيط. ولكن ما يجعل الفيلسوف عظيما ذلك أنه أو أنها تجسد المشاهد، الأفكار، والأحاسيس التي يتلقاها من تعليمه، ومن الثقافة، ومن الدين، وبالتالي يبتكر طرقا جديدة لإدراك العالم الذي حولهم والشعور به.  وهذا الأمر فعلا ينطبق على فريدريش نيتشه(1844-1900). وعوضا عن أن تكون الفلسفة دراسة اكاديمية،  يدعو نيتشه إلى أن تكون انخراطا شخصيا، حيث تصبح طريقة للعيش والتفكير مرتبطتين بشكل مستمر، كما أوضحت في كتابي نيتشه والأرض (2020). نيتشه ترك الحياة الاكاديمية وثقافة الانحطاط في بازل سويسرا، وبدأ حياة جديدة تماما، باحثا عن اتصال عميق بالأرض، كما كتبت في مقدمة كتابي. اذا أردنا أن نتتبع خطى نيتشه” فلسفة جديدة للأرض تتطلب من الإنسان المعاصر، إعادة الاتصال بالطبيعة في حياته اليومية.”  مع ذلك سندرك حالا،  كم هو صعبا القيام بذلك. ماذا يعني إعادة الاتصال بالطبيعة لحياتنا؟  وما هو نوع التفكير والتأمل الجديد الذي سينبثق من ذلك؟ في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة. تتبعتُ حياة نيتشه و أوضحتُ كيف أن  طريقته في التفكير قد تغيرت، خطوة بخطوة. عوضا عن الفيلسوف الأكاديمي الذي كان يوما ما، أصبح ماشيا، كاتبا للأشعار التي تلهمه، مستشرفا أن الحياة هي تجربة عظيمة.

ماذا تعني قطيعة الإنسانية بالكوكب الذي نعيش عليه. اليس كل منا يؤول الحياة بطريقته الخاصة، لأن الكوكب أو كما أود أن أصيغها بالعموم الحياة اليومية، دائما تبدو لهم انعكاسا لمجتمعهم وتاريخهم؟

السؤال هو إلى أي مدى وكيف بشكل جذري يمكن للناس القطيعة مع طريقة تفكيرهم وشعورهم التي ورثوها من التعليم والتنشئة الاجتماعية هو سؤال كبير. ولكن الفلسفة تبدأ حين يبدأ الإنسان يعي أو تعي بتضمينه (embeddedness) التاريخي و يتخذ موقفا من ذلك. الطريقة الظاهراتية (( Phenomenological way لعمل ذلك، على سبيل المثال هو أن تضع  بشكل مؤقت بين قوسين كل أفكارك المحسومة، وتحاول أن تفتح نفسك بقدر ما تستطيع لما يظهر لك من انطباعات ومشاعر. في كتابي أوضحت منهج نيتشه نحو الطبيعة كظاهراتيه( Phenomenology avant la letter). كان يدرس تجاربه الخاصة وردود أفعاله اتجاه العالم قبل أن تصبح علم الظواهر( Phenomenology  ) إلى اختصاص أكاديمي. نيتشه كان مدركا تماما أنه بشكل جوهري، من الصعوبة أن تتخلص بعمق من الإطار الذي أُطرت به حياتك وعقلك، علي سبيل المثال عن طريق لغتك الام . بكلماته هناك دائما نص مهيمن( the grundtext of Homo natura).

هل تقترح نهجا متاثرا بكل من نيتشه واسبينوزا ؟ أي الوحدة التي تعتبر الإنسان مساويا للطبيعة، أو لأله اسبنوزا؟

لقد كان نيتشه معجبا باسبنيوزا في المرحلة المبكرة من تفكيره، قبل 1881. كتب عنه ” لدى من السلف وهو واحد عظيم”. ولكن حماسه لم يستمر على ما هو طويلا. اسبنيوزا أصبح له فيلسوف عقلاني جدا، وهو اعتبر زهد اسبينوزا مثيرا للشك، وصوفيته مبهمة.  نيتشه لم يتبنى مفهوم اسبينوزا الاله ، أو الطبيعة (mantra Deus sive natura) كما أعتقد. ولكن في تاريخ الفلسفة هناك اخرون توصلوا إلى أن هناك ارتباط بين هذين المفكرين. هناك بالتأكيد صلات.

ألم يحاول نيتشه دحض عقلانية ديكارت المجردة وعوضا عن ذلك ترقية أهمية الثقافة والحياة؟ ألم يكن ذلك رد فعله على تصنيع العالم الذي كان نيتشه يكرهه؟

نيتشه انتقد بشكل جذري المنهج الديكارتي من عدة نواحي. هو رفض تقسيم رينيه ديكارت بين الجسد والعقل أو (الروح): التفكير من حيث تقسيم بين الموضوع / الكائن، والتمايز في القيمة بين الإنسان وكل الكائنات الحية الأخرى، بما فيها فكرة أن الإنسان هو السيد ومالك للعالم. كل هذه الأفكار أصبحت تجسد له “الثقافة الحديثة”، ولكن ارتياب نيتشه من الثقافة السائدة صاحبه رغبة شديدة للنظر إلى الثقافة بطريقة مختلفة كليا، ولخلق حياة من وجهة نظره جديرة بالاسم. لذلك في “هكذا تكلم زرادشت” ( 1883 )، زرادشت تناول كل هذا ، طارحا أسئلة جوهرية حول الأخلاق، والدين ، والفن. نيتشه يخبرنا إذا كان الإنسان المعاصر يرغب في العودة للارتباط  بالأرض، يجب علينا ان نتجرأ على جعل معنى وأهمية  الحياة البشرية القائمة على الأرض همنا المركزي. لذلك نيتشه يمعن النظر في عداء الحداثة اتجاه الطبيعة، والقيم التي تعتمد عليها هذه العدوانية. هدفه هو الثقافة التي ستجعل الكون وخاصة الأرض مرة أخرى مرشدة للبشرية. هو لا يركز على تقصى الحقائق الإدراكية المنطقية، بل يسعي أكثر نحو الجمال، والتعددية ، وبالأفكار المغايرة عن الثقافة، والفن، والموسيقى، والمسرح، والإبداع بصورة عامة، التي يجب أن تلعب دورا أساسيا في بناء ثقافة جديدة وبصحة عظيمة.

في “نيتشه والأرض” انت تحيل “فن العيش” بالعلاقة بقضايا البيئة، هل العيش يحتاج إلى فن؟ أليس فن العيش يشير إلى الطريقة التي على كل شخص اتباعها؟ وهل على كل شخص اتباع نفس المبادئ؟

الفلسفة ينظر لها بالأساس على أنها فن العيش، عوضا عن أنها اختصاص لبناء نظريات، والمحاججة، أو تحليل اللغة أو الخطابات. وهذا المنظور “فن العيش” تم تعزيزه في السنوات العشرين الأخيرة من قبل الفلاسفة، مثل الفرنسي بيير هادوت (Pierre Hadot) وآخرون. حتى ميشيل فوكو يرتبط بهذا التقليد،  أفكاره هي الاهتمام بالذات ( care for the self).

نيتشه أحد الملهمين المميزين والممارسين للفلسفة التي تسأل القديم وتدعو نحو طرق جديدة للحياة. الهدف الأساس في ممارسته للفلسفة هو ليكون مستفزا ومتحديا ليس لأفكار الناس فحسب، بل حتى لمشاعرهم العميقة. يتخلص الشخص من الأفكار القديمة وطرق العيش لتتفتح آفاقا جديدة في لغته المجازية، بحر مفتوح حيث الشخص يجد أو يخلق اتجاهه الجديد، ويتخيل ما معنى حياة جيدة.

إن  قوة منهج نيتشه ينبع من حقيقة أنه يحاول الجمع بين موقفين يبدوان متناقضان للوهلة الأولى. من جهة هو كأي شخص متمسكا بالمبادئ التوجيهية التي تحررت من ماضينا، يجب علينا أن نصبح ما نحن عليه، أن نعيش حياتنا، وأن ننقاد بما هو جيد لنا ويجعلنا سعداء. ولكن من الناحية الأخرى، هو يقودنا للاعتراف أن هذا التوجه الشخصي من الممكن أن يصل إلى مسعاه، إذا بدا الناس في التصرف على أساس أنهم صلة وصل في عملية كبرى للحياة، التي باي معنى لم تكتشف كل خفاياها، وبعض الأحيان غموض إمكانياتها.

ما يؤثر على شخصيا أكثر أن في سعيه نحو الحرية والحياة وأسلوب حياة مبدئي، نيتشه يتخذ كنقطة بداية هو استعادة ارتباطه بالطبيعة. هو يتخذ من ذلك كتجربة شخصية، من حيت يأتي التزامه لمستقبل مختلف من ذلك الذي تقودنا اليه الحداثة. يصبح بشكل متزايد اكثر إحساسا بسعادة الحيوانات، لنبض دوران الطبيعة، لجمال الأرض وإلى تبصر الإنسان وتشابكه مع الحياة على الأرض ككل بطرق مختلفة. جاعلا من نفسه مشاركا في الحياة بمعناها الأوسع، لم  يكن هذا موضوعا مجردا بالنسبة لنيتشه، ولكن نهجا مبدئيا في التطبيق اليومي. نشأت لديه رغبة شديدة لرجل المستقبل، نوع الشخص الذي حضوره ” يشكل الإرادة حرة مرة أخرى، مانحا الأرض غايتها، والإنسان أمنيته مرة أخرى”. ( Genealogy of Morals,p24.1887 ). هل لنا أن نبقي الأمل حيا، وتغذيته دون الانزلاق إلى التفاؤل الساذج أو الصمت السلبي؟ إن أفضل طريقة لعمل ذلك يقترح نيتشه أن لا ندع الخوف والتشاؤم يقودنا، حتي في غياب الأمل أحيانا، حتى لو طغت علينا التنبؤات الرهيبة حول المستقبل. علينا أن نملك الايمان أن الأجيال القادمة ستكتشف الفرص التي ستاتي في المستقبل، وأجيال اليوم بما فيها شخصي لم تتمكن من رؤيتها. “عند هذه النقطة شيء واحد فقط مناسب ” كتب نيتشه “الصمت: خلاف ذلك سوف اختلس شيئا ملكا لشخص اخر، شخص يافع، شخص لديه مستقبل أكثر إشراقا، شخص أقوى مني.” (GM, p 25).

هذا النوع من التفكير أتمنى، أن يوضح بما نعرفه بالفلسفة؛ كمقدمة لنوع جديد بماذا يعني فن العيش.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*اميرلي مالكي طالب حقوق يعيش في كرج، ايران. نشر العديد من المقالات في مجلات مشهورة في ايران.

ثقافة وفكر فلسفة

عن الكاتب

ترجمة: علي حمدان