مذكرات غلوب باشا

كتب بواسطة سمير أحمد الشريف

مذكرات غلوب باشا

الموضوعية والإنصاف

1897-1986

حتى وقت قريب، ترسّخت لدى كثير من الناس ،صورة غلوب باشا  النمطية السلبية، بأنه امتداد للاستعمار، و أحد الأدوات التي وظفها للتمهيد للسيطرة على البلدان والشعوب، كما فعل كثير من المستشرقين، لكن قراءة مذكراته بحياد وموضوعية وعقلانية، تُبدّد تلك الصورة، فقد وجهت للرجل اتهامات تاريخية خلال نكبة فلسطين كسوء الإدارة عند قيادته للجيوش العربية في حرب ثمانية وأربعين، ومساعدته لليهود في قيام دولتهم .

ترك الرجل للتاريخ هذه المذكرات، وأكثر من عشرين كتابا، عبّر فيها عن رأيه وسيرته الوظيفية ،وسجّل وجهة نظره، وما شاهده وعايشه من أحداث، ككتابه “جندي بين العرب” وكتب أخرى ك “حرب في الصحراء” ” الفتوحات العربية الكبرى ” وغيرها .

دافع الرجل فيما  كتب عن فلسطين و حقوق العرب، وكان قريبا من وجهة النظر العربية، كما عمل على توضيح التاريخ العربي والإسلامي للغرب، وحق الفلسطينيين في  إقامة دولتهم.

لم يتوانى الرجل عن التعبير عن رأيه في حكومته وقراراتها المنحازة، ففي العام 1920م، كان الوضع معقداً في العراق، وانتهت الحرب العالمية ومرت سنتان، ولم تنجح مؤتمرات الصلح في اتخاذ قرار بشأن مستقبل العراق، وكانت بريطانيا قد شجعت القومية  العربية لكي تضمن تعاون القوات العربية ضد الجيش العثماني في فلسطين والعراق.

موضوعية الرجل وانصافه لم تحُل دون نقد حكومته وتوجيه الاتهام لتصرفاتها، ها هو يسجل رأيه المنصف بشجاعة عندما فنّد ما عملته بريطانيا في العراق، حيث كتب منتقدا ومسجلا للتاريخ، أن بريطانيا  جمعت الضرائب، وسيطرت بالقوة واستغلت ثروات العراق الطبيعية، خاصة النفط، فقد كان الجيش البريطاني يزحف شرقا وغربا لاستكمال احتلال أراضي العراق، و فرق الجيولوجيين تسير مع الجيش الزاحف تنقيبا عن النفط في كل بقعة،  خلافا لتركيا التي لم تجبي الضرائب من العشائر، ص .90.

أسهب الكاتب  في تعرية أهداف بريطانيا التي  فرضت  انتدابها على الشعوب، للمزيد من الاستغلال، ولو لم تكن كذلك لاستجابة هي وكل الدول المُستعمِرة لمطالب الشعوب، والسماح لها بممارسة سيادتها الوطنية، ولما بقيت الدول المستعمِرة متمسكةً بـأساليبها الاستعمارية الاستغلالية حتى أجبرتها ثورات الشعوب على التسليم بحقوقها وإجبارها على التخلي عن تسلطها، ص 103.

هذه الموضوعية من قِبل غلوب لم تمنعه من الغمز في شخصية “كرومر “، الذي كان له دور في سياسة مصر، ولم يتوانى عن ذكر رأي المصريين فيه لما فعله في بلدهم، فمزارعو مصر كانوا يُدركون ما حدث على يد “كرومر” أحد عتاة الاستعمار البريطاني في الشرق، الذي عينته بريطانيا قنصلا في القاهرة وحكم خلال 24 سنة بيد من حديد، ص 91.

 ولا من لوم حكومته  والتهكم عليها، وهي التي لم تحرك ساكنا أمام تهجير الفلسطينيين بالآلاف على أيدي الصهاينة، بينما يجتمع مجلس العموم فيها لمناقشة منع صيد الثعالب بحرارة واهتمام ،ص 234.

يعترف “غلوب” بخطر القومية التي نفخت فيها حكومته ، في مقارنة بين حكم بريطانيا وحكم العثمانيين، بأن القومية هي اللعنة التي استوردت من أوروبا، فقد جرى  حكم الامبراطورية العثمانية لعدة قرون بخليط من الأصول العرقية، من دون تحزب أو تحيّز، ولم تكن لدى عشائر العراق أية أحاسيس ونعرات قومية، وفي هذا الموقف يُشيد غلوب بالقبائل العربية التي رحبت به، وعاملته كفرد من أفرادها، مما سهّل  على غلوب أن يتعرف على تفاصيل  المجتمع العشائري، والغوص في أعماقه، والتقرب من كل فرد، وبنى علاقات ودية مع الجميع، وتمكّن من الوصول لأي مكان يرغب الوصول إليه، بفضل عادات الكرم والترحيب  بالضيف، والعناية بالغريب التي ينهض عليها المجتمع العشائري، وما يتميز به مجتمع الأرياف،  ص 105-110.

يُنصفُ الرجل ثورة العشرين في العراق  بأنها تشكلت من فئات الشعب جميعا ، العشائر وسكان المدن، وفي الطليعة منهم، المثقفين والضباط، وقد تم القضاء عليها، وفيالق بريطانيا  تتحرك  في أنحاء القطر ترفع العلم البريطاني وتجمع  الضرائب، ص 96.

لم  يُنسه مركزه ووظيفته المرموقة أن يكون إنسانا قريبا من الناس، ففي أوائل 1921م، عندما نقل إلى الرمادي، صار صديقاً لأفراد فرقة الجسر التي يقودها، ويذكرُ بفخر كيف تمت دعوته، على عادة العرب للطعام في بيوتهم، وهم البسطاء الذين يعملون في زراعة  القمح والشعير والنخيل، وكيف وجد الألفة بينهم، وهو الأجنبي الغريب الوحيد، حتى حفظ الكثير من الكلمات العربية خلال خدمته معهم، عملاً بقاعدة إنسانية تَمَثّلَها وعمل بها ” ..لا تستطيع أن تُساعد الناس إلا أن تُصبح واحداً منهم، تشاركهم بؤسهم وفرحهم وفقرهم ” ، القاعدة التي اتخذها دستوراً لحياته، ص 102.

من إنصاف الرجل  أيضا، ِذكره أن حرب  1948م، بين العرب واليهود، والتي أدّت لقيام دولة إسرائيل، بتضافر قوى الاستعمار في العالم، شرقيهِ قبل غربيهِ، وتخاذلِ الحكوماتِ العربيةِ وارتباطها الوثيق بالدول الاستعمارية، خاصة بريطانيا وفرنسا، ولاحقا أمريكا، ص 200.

من شهادته الموضوعية المنصفة، ما ذكره بحق الفيلق العربي، أنّ وحداته في الحروب كلها، كانت موزعة في كل أنحاء الشرق الأوسط، ولم تَظهر منه ولو حالة واحدة من سوء التصرف، ولهذا تم تحويل الفيلق إلى جيش، بعيدا عن العادات والطوائف، ص 205.

هذا الفيلق، الذي قام أفراده بواجبهم الإنساني، على أكمل وجه عندما حملوا أطفال وشيوخ المستعربين اليهود، وعملوا على إخلائهم من القدس القديمة، ص 232.

أما محبته للقدس فهي شأن روحي آخر، تركت في نفسه آثارها الإيجابية، مؤكداً على تكرار زياراته للقدس خلال فترة الانتداب، رغم وجود ارتباط رسمي بحكومة فلسطين، وكان يفعل  ذلك لشعور روحي مفرح، يتعلق بالمدينة المقدسة، ص 207.

ومن موضوعيته وإنصافه كذلك، ذكره لعدل المسلمين خلال الحروب التحريرية لفلسطين، في السنوات 633—683 وفيها لم  يقض المسلمون على الأديان أبدا، ص 214.

ضمير غلوب الحي وخبرته وتجربته، أوصله ليكتب بتوازن عن الحالة الفلسطينية التي لخصها ب “شعب يفني شعباً آخر، بصراع وحشي، شعب يتطلع إلى أن يطرد شعباً آخر، وكيف احتل الصهاينة مدينتي اللد والرملة واحتجزوا المدنيين فيهما، وجعلوا منهم أسرى حرب، وعاملوا النساء والاطفال بقسوة، لإرغامهم على الهرب، وحصدوهم بسلاح المورتر، وفضح وتعرية السياسة البريطانية التي قدّمت المساعدة غير المشروطة للصهاينة، وكشف انحياز الأمم المتحدة ومجلس الأمن الجليّ لإسرائيل، والوقوف ملياً أمام فظائع الصهاينة وكشف مذابحهم في القرى الفلسطينية كقرية “قبية”، ص236.

في فصل مذكراته الأخير ” الامبراطورية التي غابت عنها الشمس “، ينتقد غلوب حكومته ويسجل اعترافه الناضج الحكيم، أن بريطانيا قبل 1914م، كانت أعظم دولة في العالم، تُقدّم الخير للبشرية، وأنها بعد هذا التاريخ، لم تعد كذلك، ولا يخفى أنها انحطت خلال السبعين سنة الأخيرة، بسبب  انحطاط داخلي لا علاقة له بأبعاد خارجية، وأن الاحساس أن بريطانيا تقوم على خدمة البشرية وتقديم العون لها، تغيّر بعد الحرب العالمية الأولى، وتحوّل الإحساس إلى أن امبراطوريتنا فقدت قاعدتها الخُلقية، وقد أصبحت عكس ما وجُدت له وأصبحت خدمتها وسيلة للسيطرة على الشعوب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

** مذكرات غلوب باشا

حياتي في المشرق العربي، الأهلية للنشر والتوزيع ، عمان .الأردن.

سياسة

عن الكاتب

سمير أحمد الشريف