علاقة الفلسفة بالسينما من خلال فيلم التطهير

كتب بواسطة عبد الصمد زهور

مقدمة: الفلسفة والسينما؛ التطهير أنموذجا.

تتسم محاولة تحليل فيلم The purge بطابع خاص، إذ يصعب الجزم منذ المشاهدة الأولى بحمل الفيلم لرسائل الفلسفة بشكل كامل، وبالتالي القول بتمثيله الحق للفيلموصوفي (السينما الفلسفية التي كشف عن ملامحها دانييل فرامبتون Daniel Frampton في كتاب الفيلموصوفي).

 لكن، بدون هذه التكهنات الأولية، لابد من الإشارة وكما يقول ألان باديو Alain Badiou أن كل فيلم سينمائي يحمل وضعا ونقيض الوضع، وبالتالي ينفلت من دائرة التصنيف والتنميط على الشاكلة التي تنفلت بها الفلسفة.

ما وراء الخير والشر

تدور أطوار فيلم The purge في ليلة من ليالي 2022 بالولايات المتحدة، خصت للاحتفال بتطهير الأرواح من الحقد، بحيث تصبح أمريكا وكأنها أمة ولدت من جديد، فبفعل هذه الليلة تراجعت نسبة البطالة والجريمة، حيث لا بقاء إلا للقوي القادر على حماية نفسه، أو للنبلاء بلغة نيتشه Friedrich Nietzsche. على هذا النحو يتم التخلص من غير القادرين على الدفاع عن أنفسهم ومن المجاعة والفقر، فلهذا اليوم فوائد اقتصادية واجتماعية ونفسية. لذلك فالحكومة هي من يسهر على ضمان الاحتفال بهذا اليوم في كل سنة، وهو الأمر الذي تأكد في الفيلم من خلال الخطاب الذي بث من قبل المحلل النفسي عن التطهير قبل برهة من بدايته، مؤكدا أن له العديد من الفوائد ومنها إطلاق العنان لمكبوتات النفس.

 لذلك لا عجب أن يتلازم حضور نيتشه مع حضور فرويد Freud في هذا الفيلم، خصوصا وأن هذا الأخير يعلن أنه كان يتخوف من قراءة نيتشه حتى لا تكون تحليلاته النفسية مجرد إسقاطات، لأنهما كانا يقولان نفس الشيء. 

اللاشعور في مواجهة الشعور

خلال أحداث التطهير التي تدور على مدار أحد عشر ساعة يظهر اللاشعوري إلى العلن، مستغلا غياب الأنا الأعلى المتمثل في الأعراف والقوانين، وهو أيضا اللاشعور الذي ظهر للعلن عندما حاول هنري عشيق ابنة السيد ساندين تحت وطأة الإيروس والليبيدو أن يقتل أباها الذي منعه من ربط علاقة بها، بعدما حاولت الابنة وأمها إقناعه بذلك أكثر من مرة، حيث قال ساندين لزوجته بصريح العبارة أنه لا يوجد ما يفعله لها، فعليها أن تنساه.

قبل أن تعلن الدولة بداية عملية التطهير، كان السيد ساندين يطمئن على نظام الحماية الذي أعده لمنزله، علما إنه يعمل كمقاول في بيع أجهزة الحماية وخبير بشؤونها، فقد حاول مواجهة اللاشعور الجمعي بتقوية نظام الأمن، الذي سيظهر أنه عاجز عن الوقوف أمام كم المكبوتات التي يحملها الناس في صدورهم، وذلك بعدما فتح ابن السيد ساندين الباب لأحد من الناس السود كان على وشك الموت، إذ كانت تتعقبه جماعة من الشباب البيض المشاركين في عملية التطهير السنوية، مما يكشف عن وجه آخر من وجوه فيلم The purge، متمثل في التلميح إلى أن الميز العنصري الذي عانت أمريكا من جرائه، لا زال مكبوتا ومغيبا بسلطة الأنا الأعلى والقوانين وليس باختيار عقلاني نابع من حرية جميع الأفراد البيض.

من هنا يمكن القول أن فيلم The purge ينهض برسالة فلسفية أخلاقية يؤكد من خلالها ضرورة تنقية النفس من هذا الغل الدفين، ليس عن طريق القتل وإنما عن طريق الوعي بأن الآخر هو إنسان مثلنا مثله، وهي الرسالة التي تم التعبير عنها بوضوح في نهاية الفيلم حيث تمكن الشخص الأسود من النجاة، في الوقت الذي مات فيه أولئك الذين حاولوا قتله، بعدما ساندته أسرة السيد ساندين وغيرت رأيها، حيث كان السيد ساندين في البداية ينوي إخراجه إلى هؤلاء الذين يطاردونه لكي تنجو عائلته من اقتتال محتمل تحت وطأة غريزة الأبوة.

فلسفة الاعتراف

إن الجميل الذي أسدته أسرة ساندين للشخص الدخيل دفعه لرد الجميل، وكأننا أمام تأسيس لفلسفة الاعتراف على الطريقة التي يؤسس بها أكسيل هونيث Axel Honneth لذلك اليوم، فقد قابل المعروف بالمعروف إذ منع الجيران الذين حاولوا القضاء على زوجة السيد ساندين وأبنيه زوي وتشارلي، بعد أن أنقدهما من أولئك الذين كانوا يتعقبون الشخص الدخيل. فـ The purge إذن يرسل رسالة فلسفية أساسها الانتصار للإنسانية على حساب العرقية والاعتراف عوض الاستغلال.

يرصد الفيلم كذلك فكرة فلسفية مهمة ترتبط بالإنسان وهو مجرد من المضاف الاجتماعي، وهي الفكرة التي جسدها الابن عندما سأل والديه عن لماذا لا يشاركان في عملية التطهير رغم أنهما يقولان أن فيها خير، وعندما فتح الباب لذلك الشخص الدخيل دون تفكير مسبق، فهو هنا يمثل لحظة البراءة الأصلية التي لم تتسلل لها بعد القواعد الاجتماعية التي تنتقل عن طريق التنشئة الاجتماعية بشكل تام.

حدود الاتصال والانفصال بين الطبيعة والثقافة

يفتح الفيلم كذلك، السؤال الذي سبق أن أثاره توماس هوبس Thomas Hobbes يتعلق بإنسان الطبيعة المجرد من أي مضاف اجتماعي أي على الحالة الطبيعية المفترضة، هل هي حالة سلم أم حالة حرب؟ وهل هي حالة نظام أم حالة فوضى؟ ليكشف عن كونها حالة حرب للكل ضد الكل، فالإنسان شرير بطبعه وذئب لأخيه الإنسان، وما يؤكد ذلك هو القول بأن رجال الحكومة الأمريكية محميون من ليلة التطهير هذه، إذ لا تشملهم، وهذا هو رأي هوبس نفسه الذي يذهب بناء على تصوره لحالة الطبيعة إلى أن الحاكم لا يكون مشاركا في العقد بين الأفراد، فله كل السلطات في مقابل توفير الأمن، حيث تلتقي في ليلة التطهير هاته وبالتالي تبرز في الفيلم طروحات توماس هوبس السياسية بطروحات سيجموند فرويد السيكولوجية، وبطروحات فريدرك نيتشه الأخلاقية.

الوجود والزمان فلسفيا/ سينمائيا

يمكن أيضا مناقشة فكرة الوهم في علاقتها بالحقيقة من خلال هلع الأم قبل بداية عملية التطهير من لعبة المراقبة التي يتحكم فيها ابنها، بحيث يظهر بوضوح كيف أن انتظار الإنسان لحدث معين يمكن أن يؤثر بشكل مباشر في تصرفاته، عكس ما يكون سائدا في الحياة العادية، فالوهم مستمد مما يحتل حيزا لاشعوريا في ذاكرتنا، من حيث أن الذاكرة هنا تحيل على ما هو آت مستقبلا، لا على ما تحقق في الماضي، وفي هذا أيضا كشف عن التصور الفلسفي المعاصر لمفهوم الزمن، وهو تصور يخترق فيلم The purge، حيث الزمن ليس علاقة تعاقبية بين ماضي وحاضر ومستقبل، وإنما هو علاقة تداخل غير منظم بين هذه الأبعاد الثلاثة، وهو التداخل الذي يجسده بعد رابعا من أبعاد الزمن، يجعلنا نعيش الحاضر قادما من المستقبل على الشاكلة التي جسدته بها أم تشارلي، وليس آت من الماضي، فكل أحداث الفيلم التي سبقت بداية عملية التطهير أو التي كانت بعد بداية العملية تكشف عن الحضور القوي للتصور الفلسفي المعاصر لمفهوم الزمن، حيث تحددت بما هو مستقبلي.

السينما والإنسان المركب: العقل والقلب.

يكشف أيضا فيلم The purge عن صراع قوي بين خطاب العقل وخطاب القلب، يخترق هذا الموجود الإنساني، وهو الأمر الذي جسدته حيرة أفراد أسرة السيد ساندين بخصوص تسليم الشخص الدخيل إلى الجماعة التي كانت تلاحقه بغرض قتله، ففي الوقت الذي كان فيه العقل يقضي بتسليمه لهم، قضى القلب بعدم تسليمه امتثالا للمشاعر والأحاسيس الإنسانية، وهذا من فضائل المرأة علينا، فزوجة ساندين هي من ترددت أولا قبل أن يقتنع هو بجدوى ترددها، ويصير العقل تابعا للقلب، وهذا لا يعني أن المرأة قلب والرجل عقل، وإنما يعني تفاوت نسبة الأولوية عند كل منها، كما لا يعنى تفاضلهما؛ أي القلب والعقل، بحيث يكون القرار سليما بأحدهما وسليما بقوة بكليهما.

آفات المجتمع الفرداني

تعاني المجتمعات الغربية من تفكك اللحمة المجتمعية، وهو الأمر الذي جسدته أحداث الفيلم  من خلال سعي الجيران إلى القضاء على أسرة ساندين، كما جسده التواصل المتشنج بين أفراد الأسرة أنفسهم، خصوصا بين زوي وأبويها تحت وطأة المراهقة. يشخص الفيلم نماذج من هذه الحالات التي تتطلب تدخلا فلسفيا، يعوض الفراغ الذي بات ينخر جسد المجتمع اليوم، إذ يمكن أن يتفاقم في القادم من السنوات كما يلمح بذلك الفيلم، حيث الابنة منزوية في غرفتها وتعيش لحظات حب مع شخص مرفوض من قبل أسرتها رغما عنها. والابن يدخل إلى مكان سري يختبئ فيه لا يعلمه أحد سوى أخته.

الأفق التأويلي اللانهائي للفيلم السينمائي

يمكن الإشارة أيضا إلى وجود بعد ديني يجسده فيلم التطهير حيث أن عملية التطهير وكأنها نزعة أورفية، الغاية من ورائها مباركة الرب لأرض أمريكا، وهو اللفظ الذي تردد كثيرا على أكثر من لسان في الفيلم. كما يمكن الكشف عن ملامح سيكوفنية تمثل الإنسان كمكون من عناصر إنسانية وأخرى عناصر حيوانية، حيث يعيش الطرف ونقيضه في نفس الموطن، ويلتقي الشعور باللاشعور، والخير بالشر، وهو ما تعبر عنه شذرة الفيلسوف الإغريقي أنكساغوراس Anaxagore “كل شيء موجود في كل شيء”. 

يمكن أيضا ملاحظة مسايرة الأصوات والصور والإضاءة في الفيلم لطبيعة الأحاسيس والمشاعر التي يعكسها الأفراد، مما يكشف عن كون الفكرة يتم إيصالها أيضا بالصورة قبل الصوت، ومن هنا تتبدى الأفاق التي يفتحها الفيلم أمام التفكير الفلسفي. رغم ذلك فإن كل مشاهدة للفيلم تكشف عن أشياء جديدة مما يُبين كيف أن الفيلم يحمل من الغنى والوفرة ما يحمله الخطاب الفلسفي نفسه، ويبين كيف أنه مجال للإبداع من خلال التأويل.

هوامش

  • الفيلم من اقتراح الدكتورة ثريا بركان رئيسة قسم الفلسفة بجامعة القاضي عياض – مراكش (المغرب)، جاء في إطار دراسة فلسفة الفن بماستر الفلسفة تأويل وإبداع.
  • ننطلق في هذه المحاولة التحليلية من الجزء الأول، علما أن كل جزء من أجزاء الفلم يمكن أن يشاهد باستقلال عن الأخر.
سينما وأفلام فلسفة

عن الكاتب

عبد الصمد زهور