ما من شك في أن موقفنا من التقنية موقف يتسم ببعض الغموض واللبس، بل تطبعه ثنائية عميقة تتميز بالقبول والرفض، بالاستعمال والاستنكار. فالتقنية تغرينا وتجذبنا بمتعها ومباهجها وسحرها من حيث إنها تقلص المسافات وتختصر الأزمنة وتوفر على الإنسان الكثير من الجهد، خاصة منذ الثورة التكنولوجية الثانية بوتيرتها المتسارعة إلى حد الذهول. بهذه المقدمة افتتح الراحل محمد سبيلا حديثه عن: التقنية كأيديولوجيا.
يؤكد محمد سبيلا على أن التكنولوجيا التي نهفو إليها وإلى المساهمة فيها ليست مشروعا بريئا أو محايدا، بل هي جزء من مشروع كوني وامتداد لرؤية معينة نشأت مع الإنسان وواكبت تطوره، وبالتالي فهي مرتبطة ببعض ملامح الأيديولوجية التي يمكن الإشارة إلى بعضها:
أ- التكنولوجيا هي التطبيق العملي للعلم. وكلاهما مرتبط بمشروع للسيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان، بل بالسيطرة على الطبيعة تمر عبر السيطرة على الإنسان سيد الآلة ومكتشفها، لكن هذه تعود لتتحكم فيه وتستعبده، بل لعله هو الذي يجعل نفسه عبدا لها بعد أن كان سيدها. إن الآلة كأداة تستجيب لحاجات معينة لدى الإنسان في السيطرة على الأشياء وتسخيرها، لكنها سرعان ما تستجيب لحاجة الإنسان إلى سيد أو حاجته إلى أن يصبح عبدا لمخلوقاته، وكأن الإنسان لا يتحرر إلا ليخطو خطوة نحو العبودية، وكل خطوة في التحرر في الوقت نفسه، وفي الحركة نفسها، خطوة في طريق العبودية. فالعلم والتكنولوجيا اللذان اكتسبا في بداية النهضة صبغة مشروع تحرري قد تحولا اليوم إلى أدوات السيطرة.
طبعا، ليس هذا هو الوجه الوحيد للتكنولوجيا، فهي حررت الإنسان من كثير من العناءات والضرورات، ولكن التحرر وإحكام السيطرة سيرورتان متضافرتان. فالتكنولوجيا هي الداء والدواء، إنها أداة تحرر… وأداة استعباد.
ب- الملمح الأيديولوجي الثاني للتقنية يتعلق بتصور التقنية ذاتها. وقد أوضح هايدغر أن التكنولوجيا ليست فقط مجموع الأدوات والوسائل، مهما بلغت درجة تعقدها، تلك التي يستعملها الإنسان، بل هي أفق فطري و”طريقة انكشاف” وكيفية في التفكير، ونمط العلاقة مع الآخرين والعالم. إنها نمط في الوجود، وقد أوضح هابرماس في كتابه القيّم “التقنية والعلم كأيديولوجيا” أن تمثلنا التقني والعلمي هو تمثل أيديولوجي، من حيث حلول وظيفة واحدة هي وظيفة الاستخدام والمراقبة النفعية محل كل الوظائف الأخرى، كالتواصل والتقييم الأخلاقي والتأمل الميتافيزيقي والديني.
ج- لقد ارتبطت الثورة العلمية التكنولوجية منذ نشأتها بظهور الطبقة البورجوازية في الغرب وبمشروعها في تسخير الطبيعة والاستيلاء على العالم. وقد اكتسب العلم بالتدريج طابعا تقنيا، كما أخذت الثقافة بموازاة ذلك تكتسب طابعا علميا أكثر فأكثر؛ وقد ارتبطا معا بهذه الروح الكونية وبالنزعة الشمولية التي نشأ فيها. فهما يعكسان ويحملان البُعد الشمولي، النوعي للإنسان، ولذلك تدخل التقنية والعلم، من حيث إنهما يحملان هذا البُعد الكوني، في نزاع مع الخصوصية الثقافية للشعوب التي لم تتمكن من متابعة التحولات الفكرية الكبرى التي حدثت في الغرب ابتداء من عصر النهضة الغربي إلى الآن.
إن التكنولوجيا إذن ليست فقد آليات وأدوات يتم استعمالها، بل إنها تحمل معها ثقافة ونظام قيم ورؤية للعالم ومنطقا يتعين استيعابه، بل إنها تحمل وتبث تغيّرا في معنى الحياة ذاتها. التكنولوجيا تنفذ إلى كل شرائح الحياة والوجود في المجتمعات وتحدث تغييرا عميقا في المجال الإدراكي وفي المجال الذهني، وتصادم ما هو تقليدي وبلدي المأكل الملبس وأدوات العمل والاستجمام، وتُحدث في جميع مستويات الحياة الاجتماعية ثنائية عميقة يعسر تجاوزها.
يصاحب دخول التقنية كذلك تغيُر في التصور والتنظيم التقليدي للمكان والزمان وللعلاقات العائلية بين الناس، ويحدث تغيّر في مكانة المرأة ودورها. وتغيّر في دلالة وتنظيم الجنس…كما توفر إمكانيات انبعاث الهويات الاقليمية أو المطمورة. وكأن التقنية، في عمقها، تحمل تصورا للعالم يدخل في تناقض وصراع مع المفاهيم والتصورات السائدة.
د- لم تكن التقنية مجرد حلم أداتي فقط سيمكّن الإنسان من التشبه الفعلي بالساحر، وإدراك مظاهر القوة والفعالية، بل حملت معها بجانب الاصرار على تحقيق أسطورة بابل (الترجمة) وأسطورة إيكار (الطيران) وغيرها من الأساطير الدينامية، حملت معها حلما يوتوبيا جميلا بتحقيق فردوس أرضي ينعم فيه الناس بالوفر والخيرات. وقد ارتبط التقدم التقني دوما بالتطور الاجتماعي بتحقيق مثال أحسن من الإشباع والعدالة. ليس التطور السياسي أو الوعي هو وحده الذي حرر العبيد، بل الآلة والتقنية كانتا عالمين فعالين في تحريرهم من العبودية والتسخير. كما إنها وفّرت الشروط الفعلية التي مكنت من وضعية المرأة في المجتمعات الحديثة.
ويربط العديد من المفكرين بين التطور التقني والتطور الاجتماعي، فماركس يربط بين الطاحونة اليدوية والمجتمع الاقطاعي، كما يربط نشأة المجتمع الرأسمالي بالطاحونة البخارية. بل إن لينين اعتبر كهربة الأرياف بالإضافة إلى السوفييتات بمثابة جوهر الاشتراكية. فليس الإنسان وحده الذي يصنع التاريخ، بل إن الآلة بدورها تسهم في صناعة وصياغة التاريخ.
هذه الأحلام اليوتوبية التي رافقت التطور التقني تبلورت في ما بعد في أيديولوجيا عبّرت في النهاية عن نفسها بالقول بنهاية الأيديولوجيات. فبما أن التقنية هي اكتساح الطبيعة وترويضها وتسخيرها كليا لصالح الإنسان، فإن هذا المجتمع الذي ستسوده التقنية سيكون مجتمعا إنسانيا، مجتمع إشباع ووفرة وخلوّ من الاستبداد، وستنتفي أسباب الصراع الاجتماعي، وستتقلص أهمية الصراعات الطبقية الجيلية والعرقية والقومية وغيرها من أسباب التوتر.
وفكرة نهاية الأيديولوجيات هي تطور لفكرة أوغست كونت حول قانون الحالات الثلاث، حيث ستحل الوضعية أو الإيجابية حتما محل سابقاتها. بل إن فكرة نهاية الأيديولوجيات اتخذت أشكالا مختلفة، حيث نجد لها صدى لدى الماركسيين الذين يقولون بأن المجتمع العادل المقبل ه مجتمع خال من الطبقات، وبالتالي فهو مجتمع خال من أسباب الصراع الطبقي والأيديولوجي، إنه مجتمع شفاف، وبلا وعي خاطئ. فمجتمع الغد إذًا بالنسبة إلى هؤلاء جميعا هو مجتمع من دون أيديولوجيا.
إلا أن هؤلاء الذين قالوا بنهاية الأيديولوجيا والأيديولوجيات تبيّنوا في ما بعد أن ما واروه التراب ليس إلا شبحا أيديولوجيا، بينما ظل الجسم الأيديولوجي متأثرا في زوايا التاريخ الحاضر والمنسي وفي ثنايا المؤسسات وفي أعماق النفوس.
وهنا يؤكد محمد سبيلا قائلا: وعلى العكس من ذلك، فقد ازدهرت أيديولوجيات قديمة وانبعثت أخرى. فقد تكاثرت الصيغ المذهبية ذات المسحة الأيديولوجية ابتداء من الصيغ المذهبية الفلسفية كالوجودية والشخصيات والعدمية والبنيوية والماركسية الوضعية والظاهراتية وغيرها، كما ازدهرت صيغ مذهبية سياسية كالاشتراكية والليبرالية وغيرها، بينما انبثقت صيغ مذهبية منسوبة إلى زعامات شخصية كالماوية والفرنكوية والستالينية واللينينية والتروتسكية وغيرها من المشتقات.
ولعل تواتر الأيديولوجيات ابتداء من مطلع القرن العشرين في أوروبا، وفي مناطق أخرى من العالم الثالث، ابتداء من منتصف هذا القرن، يدل على أن الدورة الأيديولوجية مستمرة ونشيطة عبر مواسم دورية في منتهى التنوع والغنى. ولعل التقنية لا تبيد الأيديولوجيات بقدر ما توفر المجال لانبعاثها بشكل جديد، وهذا ما نشهده اليوم في مختلف ربوع العالم.
بعد هذه الوقفة، نؤكد أن التقنية التي جعلت العالم شاشة صغيرة وقربت المسافات بين الشعوب والحضارات وفتحت آفاق التواصل الكوني، فإنها في الآن نفسه تطرح تحديات كبرى على كافة المجالات خاصة مسألة الهوية؛ فمن دون شك أن التأثير في هذا الجانب سيكون أقوى، وهذا يجعل الدول النامية عرضة للاستيلاب الثقافية مقارنة بغيرها من الدول المتقدمة.