حوار مع المفكر البحريني الدكتور نادر كاظم

كتب بواسطة فيصل رشدي

يعتبر الفكر الإنساني سبيلا للشعوب في الرقي والازدهار والتطور، لما له من وقع على حياة الناس. فالتاريخ يؤكد أن الفكر الإنساني في تطور مستمر من العصر اليوناني إلى يومنا  هذا، والمتأمل للأمة العربية يلاحظ أن العرب أنتجوا فكرا لا يستهان به في العصر الوسيط، خاصة في ظل الدولة العباسية التي شهدت حضارة متكاملة المعالم. لكن بعد سقوط الدولة العباسية، تراجع الفكر العربي إلى الوراء، ولم يعرف تطورا، رغم محاولات الإصلاح التي نادى بها كل من محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق وغيرهم كثير. وجاءت أيضا محاولات لا يستهان بها في المطالبة بالاحتكاك بالغرب فكريا، والتعلم منه منهجا وفكرا والأمثلة على ذلك كثيرة: كطه حسين الذي تأثر بالمنهج الديكارتي والمفكر المغربي عبد الله العروي. إلا أن الواقع لم يتغير ليظل السؤال التاريخي الذي لم يستطع المفكرون العرب الإجابة عنه: لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟

 ضيفنا في هذا الحوار مفكر شاب، وأستاذ جامعي بحريني وحديثنا هنا عن الدكتور نادر كاظم الذي راكم تجربة سنوات في ميدان البحث العلمي، وكتب في مواضيع مختلفة، شخص في بحوثه إشكالات تواجه الفرد والمجتمع العربي، والبحث عن حلول لها في كتبه ومقالاته، أصدر كتبا فكرية وأخرى في تخصص الدراسات الثقافية.

ولد نادر كاظم عام 1973 بالبحرين، درس بها ونال الليسانس والماجستير والدكتوراه في مسلك الدراسات اللغة العربية.

له العديد من الكتب:

المقامات والتلقي، وصدر عام 2003

تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، صدر عام 2004.

الهوية والسرد، صدر عام 2006.

طبائع الاستملاك، صدر عام 2007

استعمالات الذاكرة، صدر عام 2008.

خارج الجماعة، صدر عام 2009.

لماذا نكره؟ أو كراهيات منفلتة مرة أخرى، صدر عام 2017.

إنقاذ الأمل: تاريخ الأمل العربي خلال قرنين، صدر في عام 2013.

لا أحد ينام في المنامة، وصدر في عام 2019.

الشيخ والتنوير، صدر في عام 2021.

تاريخ الأشياء: عن الشارع والمقبرة وأشياء أخرى، صدر في عام 2021.

أمة لا اسم لها، صدر عام 2022.

إضافة إلى مشاركته بالعديد من الملتقيات الفكرية والأكاديمية داخل البحرين وخارجها.

نال أيضا العديد من الجوائز عن كتبه منها:

  • جائزة الكتاب البحريني المتميز الأولى عن كتابه “المقامات والتلقي” عام2004.
  • جائزة الكتاب البحريني المتميز الأولى عن كتابه “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط” عام 2005.
  • وسام المبدعين الخليجيين في مجال الدراسات والإنتاج الفكري في العام 2021.

وهذا نص الحوار الذي أجريناه معه:

  1. ما موقع الفكر العربي المعاصر في خارطة البحث العلمي؟

مع الأسف الشديد هو في ذيل القائمة إذا تعلّق الأمر بالبحث العلمي، وفي إحدى الدراسات المسحية عن واقع البحث العلمي العربي أعدّتها “منظمة المجتمع العلمي العربي”، توصّلت الدراسة إلى أن مجموع ما أنتجه الباحثون من الدول العربية خلال فترة من 2001 حتى 2020 كان 601,425 ورقة علمية بينما أنتج العالم 25,600,368 ورقة، أي إن نسبة الإنتاج العربي إلى العالمي لا تتجاوز 2.35 %، بل إن انتاج جامعة كاليفورنيا لوحدها في نفس الفترة كان 635,663 ورقة علمية، أي أكبر من إنتاج الدول العربية مجتمعة. أما فيما يتعلق بالإنتاج الفكري فهذه مسألة مختلفة ومن الصعب قياسها بمؤشرات إحصائية. وأتصوّر أن منافسة البلدان العربية في المدى لمنظور غير واردة، ولكن البلدان العربية تمتلك نقاط منافسة قوية ويمكن الرهان عليها، وهي الإنتاج الفكري والإبداعي العربي الذي تكمن قوته في مجالين: إنتاج الفكر، والإبداع الأدبي.

  • يجمع المفكرون على أن الجامعات هي التي تعكس مستوى الفكر في البلاد، وقد صدر مؤخرا تصنيف لجامعة شنغهاي يرتب الجامعات الرائدة في مجال البحث العلمي، فكانت الصدارة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا. لماذا غابت الجامعات العربية عن مواقع الريادة العلمية؟

على الرغم من تحسّن أداء بعض الجامعات العربية خلال السنوات الأخيرة، فإن غياب المنافسة العربية على المراتب المتقدمة في التصنيف حقيقة قائمة. وأنا أتصوّر أن هذا الغياب سوف يستمر طويلًا ما لم تتخذ البلدان العربية قرارات حاسمة فيما يتعلّق بتأمين الحريات الأكاديمية، وتوافر البيئات التمكينية اللازمة للبحث العلمي، وضخ ميزانيات كافية في مجال البحث العلمي، واحترام استقلالية الجامعات كمؤسسات علمية وأكاديمية، وتحويلها إلى مراكز جذب لأفضل العقول العربية لا مواقع طرد وتنفير وتهجير.

  • تبدي في بحوثك اهتماما علميا بحقل الدراسات الثقافية. فما هي القضايا التي تتناولها الدراسات الثقافية؟ وكيف تتقاطع الحقول المعرفية في هذا المجال؟

كانت بدايتي، في الحقيقة، مع النقد الأدبي الحديث بحكم أن دراستي الجامعية كانت في تخصص النقد والأدب منذ مرحلة البكالوريوس. وفي الماجستير بدأ اهتمامي ينصب على نظريات القراءة والتلقي، وخاصة جمالية التلقي التاريخي لدى هانز روبرت ياوس الألماني. وقادني هذا التلقي التاريخي لنصوص الأدب إلى هانز جورج غادامير، ومن بوابة غادامير وجدت نفسي خارج دائرة النقد الأدبي، وأقرب إلى الهيرمنوطيقا والتأويل ودلثاي وشلايرماخر وهايدغر وفلاسفة التأويل والفهم الآخرين. إن التلقي التاريخي يعني الفهم النسبي لكل شيء، والإيمان بأن كل البشر حين يستوعبون أي شيء فهم يستوعبونه في سياق تاريخي ومكاني محددين، وأن هذا الفهم لا يمكن أن يكون إلا فهما نسبيا لا مطلقا؛ لأنه فهم محدود بحدود الزمان والمكان والمعطيات التاريخية. إن الفهم النسبي المحدود هو قدرنا كبشر، وهو أصل هشاشتنا المعرفية الأزلية، لأن ما نتوهّم أنه المعنى المطلق لأي موضوع في لحظة تاريخية معينة، يتكشف، في زمان ومكان آخرين، أنه لم يكن سوى معنى واحد من بين عديد من المعاني الممكنة الأخرى. الأمر الذي يحتم علينا أن نكون متواضعين تجاه فهمنا، ومتسامحين تجاه أفهام الآخرين. وأتصور أن هذا النوع من التسامح التأويلي – إن صح هذا التعبير – قادني إلى صلب ما صار اهتمامي الأساسي فيما بعد، وهو نقد العنصريات والتحيزات من أي نوع كانت إثنية أم دينية أم اجتماعية. وكما تعرف، فإن هذا الاهتمام بدأ معي في أطروحة الدكتوراه التي كانت عن نقد “تمثيلات الآخر الأسود” في متخيل العرب خلال العصور الوسطى. ومنذ العام 2003، أي بعد الانتهاء من الدكتوراه مباشرة، أصبح هذا الموضوع هو شغلي الشاغل في معظم كتاباتي اللاحقة مع توسيع دائرة النقد من نقد العنصرية تجاه السود إلى نقد الطائفية، إلى نقد الكراهية، إلى نقد طبائع الاستملاك، إلى نقد الاستعمال المغرض السياسي والأيديولوجي للذاكرة الجمعية، إلى نقد اختزال التنوع في هوياتنا كأفراد ومجتمعات.

اكتشفت، خلال اشتغالي بنقد “تمثيلات الآخر الأسود” أن الدراسات الثقافية هي المجال المعرفي الأقرب لهذا النوع من الاهتمامات. ويمكن القول بأن الدراسات الثقافية كانت موضة وأخذت في الانتشار أكاديمياً في الجامعات الغربية وغيرها، وكان الناقد المعروف جونثان كولر يعتبرها النشاط الرئيسي للعلوم الإنسانية منذ تسعينات القرن العشرين، وهناك من يعتبرها بمثابة الجيل الجديد في سلسلة تطور العلوم الاجتماعية من “سوسيولوجيا” و”أنثروبولوجيا”. تبرز أهمية الدراسات الثقافية في كونها مجالًا معرفيًا يتداخل مع علوم إنسانية واجتماعية عديدة من فلسفة ونقد أدبي وأنثروبولوجيا وعلم اجتماع وعلم نفس ولسانيات وتاريخ وغيرها. وبعض الجامعات تعاملت مع الدراسات الثقافية كـ”تخصص علمي” ينال الطالب فيه شهادة الدبلوم أو البكالوريوس أو حتى الدكتوراه، وتدور معظم المقررات فيه حول قضايا عديدة مثل “الثقافة والاقتصاد السياسي والجنوسة والجنسانية والاستعمار وما بعد الاستعمار والعرق والهوية والأمة والإنثروبولوجيا النقدية والتاريخ والسيميوطيقا وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة والمؤسسات الاجتماعية والعلم والتكنولوجيا وممارسات الحياة اليومية كمشاهدة التلفزيون وأكل الوجبات السريعة وغيرها”. والحقيقة أن هذه مساحة شاسعة تغطي مفهوم الثقافة بكل اتساعه في الأنثروبولوجيا الثقافية أي كل نشاط بشري ذي معنى. وربما كان هذا التشعب هو ما جعل البعض يشكك في علمية الدراسات الثقافية، ولكن ما ينبغي أن يكون واضحاً أن موضوع “الدراسات الثقافية” محدد في كل شيء ينطبق عليه أنه “ممارسة بشرية دالة” وذات معنى، ولهذا السبب تحديداً يذهب بعض الباحثين – ومنهم جونثان كولر – إلى تحديد مصدرين للدراسات الثقافية: أولهما سيميولوجية رولان بارت التي اضطلعت بقراءات موجزة لمعظم الأنشطة الثقافية بما هي ممارسات ذات معنى، وذلك بدءاً من مصارعة المحترفين والإعلانات والممارسة الطبية. والمصدر الثاني هو أعمال ريموند وليامز وريتشارد هوغارت التي تعتبر (بالتأكيد من إسهام ستورات هول العظيم) البداية الفعلية لحقل معرفي اسمه الدراسات الثقافية في العام 1964.

تُنتقد الدراسات الثقافية بحجة أنها مجال معرفي يفتقر إلى الانضباط العلمي، والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عنا هي أن الانضباط بحد ذاته ليس غاية، ومن يحلم بالانضباط العلمي في مجال النقد لا يزال موهوماً، وأكثر من هذا لا يزال يعيش تحت مغالطة العلموية وهو الإيمان الأعمى بالعلم والانضباط العلمي والمنهجي، وهذه مغالطة؛ لأنها تحوّل المنهجية العلمية من أداة في البحث والمعرفة إلى غاية بحد ذاتها، حيث يجري تطبيق المنهج العلمي والالتزام بالانضباط العلمي لا لشيء سوى إثبات المنهجية العلمية والانضباط العلمي! وهذا دوران في حلقة مفرغة لا تنتج شيئًا. ثم كيف يكون النقد منضبطاً علمياً؟ هل كانت البنيوية منهجاً منضبطاً علمياً؟ قد يجيب البعض من هؤلاء بالإيجاب، وأنا أسأل ما الفائدة الكبرى المتحصلة من هذه العلمية والانضباط العلمي؟ ثم إن الانضباط العلمي بحد ذاته مفهوم فضفاض أي إنه ليس مفهوماً علمياً، فهل الانضباط العلمي قرين الموضوعية، أم قرين الاطرادية والثبات (أي أن نحصل على ذات النتائج في كل مرة نطبق المنهج العلمي على ظاهرة معينة)، أم قرين الضبط المفهومي للمصطلحات؟

تكمن قيمة الدراسات الثقافية الحقيقية في تأصيلها لمبدأ المعارف المتداخلة، وتجاوزها لحالة الانغلاق التخصصي التي حبست الكثيرين داخل تخصصات علمية هي أشبه بالصناديق، فيما تدمج الدراسات الثقافية نيتشه وفرويد وماركس ودريدا وفوكو ولاكان وإدوارد سعيد وجوليا كريستيفا وجوديث بتلر وهومي بابا ولويس ألتوسير وغاياتري سبيفاك وريموند وليامز وبارت وليوتار وجيمسون وآخرين كثر، تدمجهم معًا من أجل مساءلة واقع القوة والسلطة والهيمنة في مختلف مجالات الحياة.

  • هل للدراسات الثقافية أهمية للفكر والثقافة العربيين؟

بالتأكيد، وربما كانت أهميتها في العالم العربي أكبر من أي مكان آخر في العالم لحاجة العلم عندنا إلى الانخراط الجدي في مساءلة واقع السلطات المتغوّلة في كل مكان. إلا أن حكاية الدراسات الثقافية في العالم العربي حكاية حزينة مع الأسف الشديد، فهي مازالت غريبة عن الجامعات العربية، وإذا قُبلت فعلى خجل وضمن حدود معينة بغرض تكريسها داخل دائرة الأدب والجماليات فقط. وهذا أشبه بعملية تفريغ للدراسات الثقافية من مضمونها الحقيقي أي الاصطدام بسؤال السلطة والقوة والهيمنة، وهو ما يخيف الجامعات العربية الحكومية والخاصة سواء بسواء. عرفت الثقافة والنقد العربيين عصر الحماسة النظرية والانفجار النقدي الذي بلغ أوجهه في الثمانينات والتسعينات. وأتذكّر أني كنت، مثل كثيرين من نقاد العالم العربي، أتصوّر أن أزمة النقد تكمن في ضيق موضوعاته وانغلاق الاهتمام النقدي على النصوص الأدبية والجمالية فقط. ومن أجل تجاوز هذه الأزمة ليس علينا سوى توسيع هذا الاهتمام من خلال توسيع مفهوم النص بحيث ينطبق على كل شيء يحمل معنى ويتمتع باتساق مقبول من شعر وسرد ومسرح وفن وأغنية وشائعة ولعبة شعبية ومقالة صحفية وكتابة تاريخية وتصريح سياسي… إلخ، وبتعبير آخر، توسيع مفهوم النص لينطبق على الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الواسع أو حتى بمعناها السيميائي الذي تعني لدى كليفورد غيرتس، الأنثروبولوجي الأمريكي الشهير، “شبكة من المعاني” و”عالمًا تأويليًا يبحث عن معنى”.

كان هذا التشخيص متداولًا، وهو تشخيص يحصر أزمة النقد في حدود الاشتغال النقدي وموضوعاته اتساعاً أو ضيقاً. إلا أني توصّلت، فيما بعد، إلى أن أزمة النقد العربي تتصل بما هو أكثر جذرية من هذا. فهي أزمة تتصل بوظيفة النقد ومسؤوليته السياسية والأخلاقية، وبالتنكر لطبيعته التدخّلية تجاه العالم وقضاياه، وبتنكّره المخجل والجبان لسؤال السلطة والقوة والهيمنة. صحيح أن كل المدارس النقدية الحديثة التي جرى تبنيها عربيًّا من بنيوية وما بعد بنيوية كان لها إسهامها المميز في انفتاح موضوعات الاشتغال النقدي العربي، إلا أن الصحيح كذلك أن كل الذي أنجزه هذا الانفتاح هو تحويل الظواهر والأحداث والأشياء والأفكار والخطابات إلى مجرد نصوص، الأمر الذي يعني انتزاعها من حضورها المادي الفعلي، فصار بإمكان أي ناقد عربي أن يكتب عن “الإرهاب بوصفه نصاً”، أو عن “حرب تحرير العراق بوصفها نصاً”، أو عن “حرب تموز 2006 بوصفها نصاً”، أو عن “غزو الكويت بوصفه نصاً”، أو عن “انتفاضات الربيع العربي بوصفها نصاً”. صار كل هذا ممكناً، إلا أنه كل هذا لم ولن يسهم إلا في إغراق هذه الوقائع الخطيرة والمؤلمة في نصوصية ناعمة ورقيقة ولعوب حدّ العبث والخواء والتفاهة.

تنبّه والتر بنيامين وهو يختم مقاربته الرائدة حول “العمل الفني في عصر الاستنساخ الآلي”، إلى أن الدولة الفاشية – وهي المعادل الغربي للدولة العربية التسلطية – تلجأ من أجل حماية ملكيتها للثروات والسلطة إلى “تنظيم الجماهير البروليتارية حديثة النشأة دون التأثير على بنية الملكية التي تتوق الجماهير إلى تصفيتها”. وبدلاً من أن تتنازل هذه الدولة الفاشية للجماهير عن حقها في تغيير علاقات الملكية، فإنها تعمد إلى إعطاء هذه الجماهير الفرصة للتعبير عن نفسها، وذلك من باب التنفيس وبما يمكّن الفاشية من “الاحتفاظ بالملكية” في حين تتلهّى الجماهير بتمتعها بفرصة التعبير الممنوحة لها. و”النتيجة المنطقية” لهذا هي “إدخال الجماليات إلى الحياة السياسية”، وهو ما يتجسّد، عادةً، في تجميل السياسة والعالم، وتنصيص (أي تحويلها إلى مجرد نص) الحياة والواقع والتجارب والأحداث أي التعامل مع كل ذلك على أنه مجرد نصوص!

يعكس هذا النوع من “تجميل العالم” وتنصيص الحياة والواقع حالة جديدة من برودة الشعور وفقدان الحس وانعدام الإحساس بالعالم خارج الكتابة. وإلا كيف يستطيع أي ناقد أن يكتب “عن جماليات المكان في الرواية الفلسطينية” دون أن يقول شيئاً حول ما يجري في فلسطين من انتهاكات ومعاناة؟ هل يستطيع أحدنا أن يتخيّل ذلك؟ نعم، يستطيع ذلك! وذلك إذا كان الناقد فاقد الإحساس أو لامبالياً بمن حوله وبما يجري حوله! هذه عزلة تؤسس لضرب من اللامبالاة تجاه العالم وحوادثه المؤلمة وتجاه البشر ومعاناتهم. إلا أن هذه اللامبالاة ستصبح سيدة الموقف في هذا النوع من النقد، وكأن اللامبالاة هي النتيجة الحتمية لتلك الجمالية المفرطة والنصوصية المعمّمة.

هناك موضوع آخر يحول دون تغلغل الدراسات الثقافية داخل الجامعات العربية تغلغلًا حقيقيًا، وهو هوس الجامعات العربية بما يسمى التخصص الدقيق، وهو ما أسميه “السجن الأكاديمي الحديدي” حيث يجري حبس الإنسان المتخصص داخل صندوق من حديد اسمه التخصص الدقيق دون أن يسمح له بالخروج عنه أو عليه أو حتى مجرد التواصل مع تخصصات أخرى قريبة أو بعيدة. والمفارقة هنا أن الجامعة اسمها جامعة وذات طابع كوني University أي جامعة ورابطة لتخصصات عديدة، إلا أنها انتهت إلى حبس المعارف في صناديق التخصصات الدقيقة والتي تزداد ضيقا مع الزمن.

  • المطلع على الكتب الغربية الفكرية منها والثقافية يجد اسم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد حاضرا، في حين يغيب المثقفون العرب الآخرون؟ إلى ماذا تعزو ذلك؟

بالتأكيد هناك أسماء عربية مهمة أخرى مثل إيهاب حسن وسمير أمين وأنور عبد الملك وعبد الكبير الخطيبي وآخرين، لكن يبقى إدوارد سعيد علامة بارزة ومضيئة ومغايرة في هذا السياق. وتقديري أن سطوع اسم إدوارد سعيد يرجع إلى عوامل عديدة، فبالإضافة إلى أصالة إسهامه في مجال دراسات ما بعد الاستعمار ونقد الاستشراق والإمبريالية، فإن إدوارد سعيد مفكّر عالمي كبير، ويعيش ويعمل في قلب المركز الغربي وفي واحدة من أهم الجامعات الأمريكية في نيويورك (جامعة كولومبيا)، ويكتب ويحاضر ويحاور بطلاقة وبلغة عالمية، كما أنه يمتلك قوة أسلوب في الكتابة قلّ نظيرها، وكان، إضافة إلى كل هذا، منخرطًا في الكتابة والعمل السياسي في قضايا ساخنة عربيًّا وغربيًّا وفي معظم بلدان العالم الثالث كقضية فلسطين والشرق الأوسط والإمبريالية والاستعمار الجديد والهيمنة …إلخ. لا ينبغي أن ننسى أن حضور إدوارد سعيد الواسع على ساحة الفكر العالمي جاءت بعد نشر كتابه المهم “الاستشراق” في العام 1978، وهو الكتاب الذي ينتصب كعلامة على بداية هذا حقل “دراسات ما بعد الاستعمار” في صورته الأكاديمية والتنظيرية. وهو كذلك الكتاب الذي تلقّفه كتاب ونقاد العالم الثالث كهبة نزلت عليهم من السماء. غاياتري سبيفاك، على سبيل المثال، كتبت مرة بأن كتاب “الاستشراق” يمثّل النص التأسيسي والكتاب المصدري الأكثر خطورة في حقل “ما بعد الاستعمار”، حيث تمكّن الهامشي أخيراً من أن يفصح عن نفسه، ومن داخل الأكاديمية الغربية. أحدث كتاب “الاستشراق” تأثيراً واسعاً على التفكير المعاصر أكثر من أي كتاب آخر منذ صدوره حتى اليوم، فقد غير الطريقة التي كنا نفكّر بها حول العلاقات الثقافية والسياسية لا فيما يتعلّق بدراسات الشرق فحسب، بل في الطريقة الذي تعامل فيها الثقافات “الأخرى”، وكيف يجري تصويرها وتمثيلها؟ وهو موضوع كان صلب اهتمامي في كتابي “تمثيلات الآخر” الذي طوّرت فيه مفهوم “الاستفراق” كنظير لـ”الاستشراق” بما هو ضرب من التمثيل الثقافي للسود والأفارقة بغرض الهيمنة.

  •  في كتابك” تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط” . كيف كانت رؤية الدين الإسلامي لفئة السود في العصر الوسيط؟

نعم، كما تعرف فإن تمثيل الآخرين مسألة حيوية في كل ثقافة، وخاصة الثقافات المركزية التي ترى العالم من منظور ذاتها. أن تُمثِّل، بالمعنى المسرحي، يعني أن تتقمّص الدور وتتصدّر المشهد وتفرض حضورك على الآخرين. وأن تمثِّل، بالمعنى النيابي، هو أن تتحمّل مسئولية النطق بالنيابة عن الآخرين الممثَّلين. وهذه وضعية لم تبلغها الثقافة العربية إلا مع ظهور الإسلام الذي دفع ثقافة العرب إلى الواجهة، وأتاح لها إمكانية التوسّع والامتداد في بقاع العالم الوسيط، كما وفّر لها إمكانية كبيرة لاحتضان الآخرين المختلفين واستيعاب ثقافاتهم المتنوعة. وبهذه الخصوصية في استيعاب الآخرين المختلفين اشتقّت هذه الثقافة فرادتها المميّزة على مستوى الهوية الثقافية، حيث كانت الهوية، في هذه الثقافة، بمثابة مشروعٍ غير ناجز ولا مكتمل، بل هي سيرورة متنامية تعظم بتكاثر الداخلين في الإسلام والمنضوين تحت رايته. وبما أن مجال الهوية الثقافية غير محدّد ولا مؤطَّر بحدودٍ نهائية، فإن مجال الآخرية كذلك بقي مفتوحاً دون رسمٍ نهائي لحدوده. فالسؤال عمن هو “الآخر” في هذه الثقافة سؤال لا تتاح الإجابة عنه بيسرٍ إلا بطريقة سلبية، أي إن الآخر هو “غير المسلم”، و”غير المسلم” هذا قد يعتنق الإسلام ويصير مسلماً ومنضوياً في الهوية الثقافية العربية. سمحت هذه الخاصية بانفتاح الهوية الثقافية، وأمدتها بقدرة فريدة على احتضان الآخرين، كما أنها كانت أعمق تعبير عن تسامح الإسلام وتجاوزه المشهود لحواجز اللون والعرق، إلا أنها تنطوي، في الوقت ذاته، على مركزية قومية وإثنيّة جعلت مجتمعات الإسلام المتباينة والممتدّة والمنتشرة في بقاع العالم مشدودةً بقوة إلى المركز، إلى ثقافة العرب التي انتصرت، وفتحت، وجعلت من نفسها قوة الإسلام المركزية والمرجعية.

ومن هذا المنطلق شرعت في تفكيك صورة السود في تصوّرات المسلمين في العصور الوسطى وصولًا إلى العصر الحديث الذي لم يقطع جذريًّا مع التصورات العربية القديمة، حيث لم تكن نظرة رفاعة الطهطاوي وسلامة موسى إلى السود، على سبيل المثال، تختلف عن نظرة ابن خلدون والمسعودي وابن الوردي وابن رسته والآخرين. لقد تمثّلت هذه الثقافة السود بعدائية لافتة وقاسية، وكأن عمق الاختلاف والمغايرة المضاعفة بينها وبينهم كان أكبر من طاقة التسامح الذي تشرّبتها هذه الثقافة من انفتاح الإسلام وكونيته. ومن هنا ستجد صورة الآخر الأسود المسلم وغير المسلم موصومة بصفات البهيمية والوحشية والشهوانية المفرطة وفساد الخُلق وتشوُّه الخِلقة.

خلصت في كتابي إلى أن في هذه الثقافة آليتين تشتغلان معاً ولكن بصورة متعارضة: الآلية الأولى هي آلية الجذب والدمج والاحتضان، وهي التي توفّرت في هذه الثقافة بفضل الإسلام واعتماده على مبادئ عالمية تبشّر برسالة توحيدية تهدف إلى هداية الناس أجمعين. أما الآلية الثانية فهي آلية الطرد وهي التي تعبّر عن رغبة هذه الثقافة في تحصين هويتها الخاصة ضد الآخرين المختلفين. وهكذا فإن الآلية الأولى تخلق هوية ثقافية منفتحة ومتسامحة، فيما تكوّن الآلية الثانية هوية مغلقة و”متوحشة” ضد الآخرين ومدفوعة نحو السعي الحثيث إلى إخضاعهم والهيمنة عليهم وامتلاكهم.

  • لك كتاب بعنوان “أمة لا اسم لها” أثار مؤخرا ضجة كبيرة في بلدكم وتعرضت من خلاله إلى العديد من المضايقات؟ حدثنا عن أسباب حظر هذا الكتاب؟

الحقيقة أن الكتاب لم يحظر، وهو لا يزال يوزّع في البحرين بصورة اعتيادية. والكتاب يناقش عملية بناء الأمة وتفكّكها نظريًّا وتطبيقيًا، غربيّا وعربيًّا. وأتصوّر أن واحدة من الإضافات المهمة في الكتاب هو أني ترجمت أهم نصين يؤسّسان للنقاش المعرفي حول مفهوم الأمة، وهما نص الخطاب الثامن للمفكر الألماني يوهان فيخته والذي ألقاه مع مجموعة “خطابات إلى الأمة الألمانية” في أكاديمية برلين للعلوم في العام 1807، ونص محاضرة إرنست رينان حول “ما الأمة؟” والتي ألقاها في جامعة السوربون في العام 1882. أما الإضافة الأهم في الكتاب فهو الفصل الخاص بمسار تكوّن الأمة تاريخيًّا في البحرين.

  • تعرض الكاتب البريطاني سلمان رشدي مؤخرا بنيويورك إلى محاولة اغتيال كادت أن تودي بحياته. باعتبارك مفكر وكاتب عربي كيف تشخص هذه الظاهرة المتعارضة مع القيم الإنسانية؟

أنا، من حيث المبدأ، ضد أي إساءة إلى أديان الناس واعتقاداتهم، وبخاصة إذا كانت الإساءة بغرض الاستفزاز والإهانة والتحقير، وأضع حق الإنسان في الاحترام والكرامة وعدم الإهانة والتحقير في مصاف حقه الأصيل في حرية التعبير. لكنّ الأمر حين يصل إلى حدّ القتل أو تهديد حياة الكاتب بسبب كتاب نشره فهذه مسألة بالغة الخطورة، ولا يمكن التسامح معها أو تبريرها تحت أي منطق، فهي بمثابة حكم بالإعدام خارج القانون. أتذكّر أن سيغموند فرويد كتب مرة بأن الحضارة البشرية بدأت عندما ألقى إنسان غاضب كلمة بدل أن يلقي حجرًا، فالكاتب إن أخطأ أو حتى أساء ينبغي الردّ عليه بكتاب أو حتى بالمحاكمة القضائية، أما أن تتحوّل الكتابة إلى مسألة حياة أو موت، أو تكون حياة الكاتب هي الثمن الذي عليه أن يدفعه بسبب كتابه، فهذا يرجعنا إلى عصور ما قبل الحضارة حيث كانت الحجر بديل الكلمة. علينا أن نستمر في تأكيد هذه الحقائق البسيطة بأن الكتاب ليس قنبلة، وأن حياة الإنسان أغلى من كل شيء، وأن الحق في الاختلاف وحرية التعبير وحرية الرأي وحرية الضمير (وبالتأكيد الحق في الحياة) حقوق أساسية لا يمكن التفريط فيها أو التضحية بها تحت أي تبرير.

ثقافة وفكر فلسفة

عن الكاتب

فيصل رشدي